مجلة الرسالة/العدد 655/بمناسبة تعديل المناهج في سورية

مجلة الرسالة/العدد 655/بمناسبة تعديل المناهج في سورية

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1946



أسلوب جديد في التعليم

(مهداة إلى إمام المربين ساطع بك الحصري)

للأستاذ علي الطنطاوي

لي أخ كان كلما غشى المدرسة الثانوية رق جسمه ونحل وعراه ذبول، فأعفيته منها وأبقيته في الدار سنوات ثلاثاً لم ألزمه فيها مطالعة شيء من دروس المدرسة، وإنما كنت أدله على بعض كتب الأدب والتاريخ مما لا يثقل عليه ولا ينال من صحته، وما تجزل فائدته وتعظم المنفعة به، فقرأ فيما قرأ تاريخ الطبري كله والأغاني. . . فلما أزف موعد امتحان الكفاءة منذ سنتين قلت له: لو دخلت هذا الامتحان مع رفاقك فلعل الله يكتب لك النجاح. فأعطاني وأستعد للامتحان شهرا واحدا ثم دخله فكان من الناجحين، على رغم أن الناجحين في تلك السنة كانوا دون الثلث، وعاد إلى مثل ما كان عليه، حتى كان امتحان الشهادة الثانوية (البكالوريا) هذه السنة، فدخله كما دخل الأول ونجح فيه أيضاً. . .

هذا النجاح الغريب دفعني إلى التفكير في الموضوع الذي أكتبه اليوم، وجعلني أسائل نفسي فأطيل سؤالها: ألا يمكن أن نسهل للطلاب هذه الدراسة؟ وإذا كانت هذه الغاية وهي شهادة الكفاءة (والصحيح أن تسمى شهادة الكفاية) تدرك بمسيرة شهر واحد في طريق سهل لاحب، فعلام نمشي إليها ثلاث سنين في طرق صعبة معوجة من ينقطع فيها أكثر ممن يبلغ أخرها؟ أليس لنا بد من أن نضيعزهرة شباب أبنائنا في المدرسة لنعلمهم مالا يكاد ينفعهم في حيواتهم، إذا هم خرجوا منها، ولم يقدروا أن يشتغلوا بعده بما يشتغل به العامي الجاهل من أعمال اليد، وأشغال السوق؟ ألا يمكن أن نعلم كل طالب ما ينتفع به ويميل إليه ونعفيه من علوم يكرهها ولا يعتقد فائدتها له في حياته؟

فقالت النفس: لقد أقمت بناءك على غير أساس، وجعلت من هذه الشاذة قاعدة، وأصّلت عليها أصلا. إن أخاك هذا وإن أخذ الشهادة فليس له علم من درس يوماً بيوم، وسار على الجادة خطوة فخطوة، ولم يقفز من فوق الأسطحة ولم يتسور الجدران، وهذه العلوم كلها لازمة لا استغناء عنها، وأسلوب التعليم صالح لا داعي لتبديله.

فرجعتني والله إلى الشك وكدت أدع الموضوع. ثم فكرت فرأيت أن لكل عمل نتيجة، ولكل مسير غاية، والغاية من المدرسة إما أن تكون الشهادة أو العلم أو الإعداد لخوض لجة الحياة والنضال عليها. أما الشهادة فلا بحث فيها لأنها عرض لا جوهر، ووسيلة إلى غيرها لا يصح الوقوف عليها، ولا القناعة بها؛ وهي بعد كاسمها (شهادة) قد تكون مزكاة عادلة، وقد تكون شهادة زور تعطى لغير أهلها، وتمنح من ليس من مستحقيها. وما ينفع الفقير المفلس أن يشهد له الناس جميعاً بأنه الغنى ذو القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟ أما العلم فاسألوا المتعلمين ماذا بقى لهم من دروس الثانوية، بل تعالوا أحدثكم ما جربته بنفسي وما شاهدت عليه تلاميذي، ولقد كنت في دراستي الثانوية مجلياً دائماً أو مصلياً، ولم أكن فسكلا، ولقد اشتغلت بالتعليم الأولى والابتدائي والثانوي، الأهلي والرسمي والديني، أربع عشرة سنة، قبل أن أَلي القضاء، في مدارس الشام والعراق ولبنان، وعرفت الآلاف من الطلاب. وأقل ما أستفيده من هذا أني إذا تكلمت أتكلم عن خبرة واطلاع. أقول: إني وجدت بالتجربة أنه لم يبق عندي الآن مما أمضيت في تعلمه السنين الطوال، إلا ما كان طبعي منصرفاً إليه من علوم الدين واللسان والتاريخ والفلسفة، وما عدا ذلك من العلوم الرياضية والطبيعية (لا الطبيعية كما يقول بعضهم. . .) فلا أكاد أعرف منه الآن إلا أشياء عامة جداً. أما التفاصيل والدقائق وأعيان المسائل فقد نسيتها كلها. ولو سئلت عما أعرفه من المثلثات (مثلا) لأجبت صادقاً أني لا أعرف إلا شيئاً اسمه الجيب والتجيب (ثمام الجيب) والمماس. لا أعرف ما هو على التحقيق، حتى موضوع العلم على وجه التحديد فقد نسيته، مع أن علامتي في السنة لتي قرأنا فيها المثلثات كانت تسعاً من عشر وكنت المجلي (الأول) في صفي (أي فصلي) أما الكيمياء العضوية فلا أعرف منها إلى أن فيها شيئاً اسمه (الميتان) وتركيبه جزء من الفحم وأربعة من مولد الماء أي الهيدروجين - وقد درست جغرافية بلاد الدنيا الطبيعية والسياسية والاقتصادية، وكنت مع ذلك كلما سمعت باسم مدينة جديدة يأتي في أخبار الحرب أجدني أجهل مكانها، وأذهب فأسأل عنها الكتب والمصورات، أستوي في ذلك أنا ومن لم يقرأ الجغرافية قط. وكل من عرفت من الطلاب هذه حالهم لا يستقر في رؤوسهم إلا ما يختصون به أنفسهم، وإخلاصات موجزة، أفما كان خيرا لهم لو أقرأناهم هذه الخلاصات من الأصل؟ ولست أقول، دعوا هذه العلوم لا تقرئوها التلاميذ، ولكن أقول إن هذا الخلط بين العلوم الكثيرة يؤدي إلى إضاعتها كلها، وهذا سر ما نشكوه من ضعف الطلاب في مصر والشام والعراق في اللغة وهي أداة العلم كله، وما نلمسه من عقم القرائح، وفقد المخترع والباحث. ولو أنا رجعنا إلى طريقة أجدادنا الذين كانوا يتعلمون علمين أو ثلاثة فإذا أحسنوها شرعوا بغيرها لكان أجدى علينا. فمدارسنا إذا لا توصل إلى الغاية العلمية النظرية، فلننظر إلى الغاية العملية هل تبلغنا إياها؟ هل تعد مدارسنا التلاميذ إعدادا جيدا للنجاح في الحياة، وضمان الكسب الطيب والعيش الرغد، مع الخلق القويم والإيمان الديني والقومي؟ الجواب مشاهد ملموس هو أن مدارسنا لا (تكاد) تخرج اليوم إلا أطباء أو محامين أو موظفين. أما الوظائف فعددها محدود لا يمكن أن يتسع لكل المتعلمين ولا ينبغي أن يتسع لهم. أما الأطباء والمحامون في دمشق فقد صاروا من الآن أكثر من اللازم بكثير، وغدا جلهم يقتنع بالكسب القليل. أما التجارة والزراعة وسائر طرق الرزق فإن أكثر أهلها أو كلهم. . . ممن لم تخرجهم المدارس بل خرجوا أنفسهم في مدرسة الحياة الكبرى، ولا نستطيع أن نغلو فنقول بأن خريجي المدارس يمتازون من الناس بأخلاقهم الشخصية والاجتماعية، أو أن المدارس جعلتهم طبقة مختارة ممتازة من طبقات الشعب بل إنهم كغيرهم من الناس، منهم الصالح ومنهم الفاسد ومنهم من هو بين ذلك!

والسبب في هذا كله أن نظام التعليم في بلادنا كالبيت العتيق الخرب، المختل الهندسة، الذي لا يفتأ أصحابه يتعهدونه بالترميم والإصلاح ولكنهم لا يجرءون على هدمه من أساسه وبنائه من جديد على هندسة صالحة، ونمط صحي نافع. إننا نحبس التلاميذ ست سنين للدراسة الثانوية، ونحشو رؤوسهم بمعلومات أكثرها لا ينفع في الحياة. وماذا لعمري استفدت أنا من دراسة المثلثات والهندسة النظرية و (حفظ) معادلات الكيمياء وقوانين الفيزياء في القضاء أو في تدريس الأدب أو في فن الكتابة، وتلك هي أعمالي في حياتي؟ سيقول قائل، ومن كان يدري أنك ستكون أدبياً أو قاضياً، أفما كان في الإمكان أن تكون مهندساً أو صيدلياً؟ بلى، ولكن الدراسة العالية حددت طريقي في الحياة، فلماذا لم أحدده قبل ذلك بسنوات؟

هذه هي المسألة، كما يقول شكسبير. إن الدراسة العالية هي المقصودة بالذات، وما قبلها ثقافة عامة هي بمكان المقدمة إليها والتمهيد لها، أفلا يستطيع الشاب الواعي دراسة الحقوق مثلا، من غير إحاطة بدقائق الكيمياء والفيزياء والرياضيات؟ أو لا يجزئه ويكيفه أن يعرف عنها الشيء المجمل المختصر؟ وطالب الطب هل يستحيل عليه تحصيله من غير معرفته بعلل الشعر واختلافات الكوفيين والبصريين؟. لقد شاهدنا محامين بارعين وقضاة لا يعرفون شيئاً من المشتقات ولا تحول التابع ولا صفات البروم، وشاهدنا أطباء كباراً استطاعوا أن يعملوا عمليات في شق البطن وفتح الجمجمة، على جهلهم الموازنة بين أبي تمام والبحتري، وشروط عمل اسم الفاعل.

فما العمل؟ أنا أرى، إذا كان في الدنيا من يسمع رأيي، أن نجعل مدة الدراسة الابتدائية والثانوية معاً سبع سنين على الأكثر يتمكن فيها الطالب من العربية بالمران والتطبيق وتنبيه السليقة لا بحشو رأسه بالقواعد وقتل وقته بمعرفة أوجه الإعراب حتى يقيم لسانه ويتنزه عن الخطأ الفاحش، ويبصر مرامي الكلام ودقائق معانيه، ويتعلم من دينه ما يمسك عليه إيمانه وخلقه ويرغبه في الخير ويصرفه عن الشر، ويمنعه الحرام؛ ويعرف من الرياضيات الشيء العملي الذي لا يستغني عنه من غير اشتغال بالنظريات المجردة، وما لابد من معرفته من علوم الطبيعة وقوانينها الأساسية وأسرار المخترعات، وأن يدرس الصحة والجغرافية والتاريخ العربي وأن يعرف مبادئ لغة من اللغات الغربية وأمثال ذلك فما أردت الاستقصاء بل التمثيل.

فإذا تخرج الطالب منها عرضنا عليه فروع الجامعة، فإذا اختار فرعاً منها حضرناه له في سنتين أو ثلاث، علمناه فيها ما يتصل به، فيكون في كل كلية قسم تحضيري فيه من العلوم ما يحتاجه طالبها، فيتلقاها الطالب برغبة فيها وحب لها لأنه هو الذي اختارها، ووافقت هواه، وظهر له النفع منها، وينجو بذلك من خلق شاعراً من حفظ طلاسم الرياضيات، أو الرسوب دونها والانقطاع عن المدرسة وحرمانه التحصيل من أجلها، وهو من بعد لا يحتاج إليها أبداً، ولا يتعلم كل طالب إلا ما يحتاج إليه مع اختصار مدة الدراسة وتقوية الاختصاص، وكسب الوقت الذي يستطاع الاستفادة منه في تقوية الأجسام بالرياضة، ومعرفة الوطن بالسياحات، والعناية بالتربية الخلقية والوطنية. . . ومن شاء بعد الاكتفاء بالدراسة الثانوية ودخول معركة الحياة لم نسلبه وقته وسلحناه بثقافة عامة يعلو بها مستوى السوقة وأصحاب المهن، ومن أراد التخصص فتحنا له بابه، وعجلنا له دخوله وقويناه فيه. وهذا إيجاز للاقتراح والشرح حاضر إن احتاج إليه القراء.

أما التعليم الديني فلنعد فيه إلى مثل الطريقة الأزهرية الأولى مع إصلاح يسير فيها، فقد ثبت أنها أنفع وأجدى، دنيا وأخرى، وأن تلك الثورة عليها حتى تم العدول عنها، والقضاء على الجامعة الأزهرية، كان فيها إغراق أدركناه الآن. وأنا أعرف الأزهر الجديد وأعرف كليات ثلاثاً أنشيءت على غراره في دمشق وبغداد وبيروت علمت فيها كلها، وأشهد لله شهادة حق أن الأزهر القديم كان في الجملة خيراً منها، إذ كان أهله يطلبون العلم لله وللعلم فصار أهلها يطلبون للشهادات والوظائف، وكانوا يصبرون على تلك الحواشي المطولات وإن تكن عقيمات، فصار هؤلاء لا يقرءون إلا خلاصات يجوزون بها الامتحانات. وكانوا علماء عاملين لدينهم أهل تقي وورع في سمتهم وسلوكهم، وسرهم وعلنهم، فصار بعض المدرسين واكثر التلاميذ. . . صاروا على حال من عرفها فقد عرفها ومن جهلها فلا يسأل عن الخبر.

وأنا لا أعمم ولا أطلق القول، وإنما أعني الكثرة ممن أعرف، ولعل فيمن لم أتشرف بمعرفته خيراً لم يصل إليَّ علمه ولا بلغني خبره - هذا على أن تكون المدارس الدينية بمثابة مدارس الاختصاص لا يدخلها الطالب إلا بعد أن يدرس هذه الدراسة الثانوية ويفهم علومها ويأخذ شهادتها، لأنها ثقافة عامة يحتاج إليها عالم الدين وعالم الدنيا والموظف وصاحب العمل الحرّ.

ولا بأس بعد بارتياد مناهل العلم في غير بلادنا، على أن يطلب فيها العلم المبني على المشاهدة. أما علوم الرواية وما أصوله عندنا، كعلوم العربية فلا، وهذه الحماقة التي كان أتاها الفرنسيون إذ أرسلوا شبابنا يتعلمون العربية في باريس لا يجوز أن تعاد، وحسبنا أن صلينا نحن نارها، وتجرعنا صابها، (ولا نزال نتجرعه. . .) وأن أضحكنا الناس علينا، وزدنا طلابنا على ضعفهم في لغتنا ضعفاً.

هذه كلمة صغيرة في موضوع كبير، أعرف أنها تثير مناقشات وتحتمل جدالاً، وأنها لم تلم بأطراف الموضوع ولم تستوف البحث فيه وإنما هي تنبيه إلى الفساد، ودعوة إلى إصلاح، أهديتها إلى إمام المربين ساطع بك الحصري، لأنه مرجع هذا الفن أولا، ومرجع كل أمر في وزارة معارف الشام ثانياً.

دمشق (المحكمة الشرعية)

علي الطنطاوي

-