مجلة الرسالة/العدد 655/في جذور الشجرة العربية
مجلة الرسالة/العدد 655/في جذور الشجرة العربية
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يعمل ساسة العرب على طريقتهم في توطيد أسس الجامعة العربية. والسياسة ليست دائماً إيمان. . . ونحن أفراد الشعوب العربية ينبغي أن يكون اندفاعنا إلى هذه الجامعة حركة ذاتية فردية مؤمنة تعمل دائبة سواء أكانت السياسة تريد ذلك أم لا تريده، وسواء أكان السياسيون متحمسين أم فاترين. فالسياسيون كثيراً ما ينقلبون ويغشون ويدمرون ما اشتركوا في بنائه حينما يهزمون في المجال الشخصي الضيق، وتتصادم المصالح الصغيرة ويزول العمل للمصلحة الكبيرة. فيجب دفعهم بأيدي الجماهير المستنيرة حتى يكونوا دائماً شاعرين بحرارة إيمانها وقوة دفعها لهم.
وفي بعض الأحيان يجتمع السياسي ورجل الدعوة والإيمان في شخصية فتسير الأمور عندئذ في أمان وتقدم، ولا يخشى عليها من النكوص والتقلب والضعف؛ لأن عناصر الإيمان والإلهام المتجدد وشبح النجاح المأمول في تلك الشخصية من شأنها أن تحول بين الحركة وبين الارتداد والضعف مهما كان من عقبات ومغريات وعوامل تثبيط.
غير أن هذا النوع القيم من السياسيين لا يوجد كل حين. فيجب العناية والاهتمام والاحتراس من العناصر السياسية المحترفة التي تصطنع السياسة للحكم وشهوة الغلبة أو السيطرة أو الخيلاء ولا تعلم من أهداف السياسة إلا ما يحقق لها ذلك. ولا يكون ذلك الاحتراس إلا في إعلان إرادة الرأي العام وإظهار أعماق شعوره وجلو أهداف إيمانه وتجديدها دائماً أمام عيونه، ولا يكون ذلك إلا عن طريق الوسائل الثقافية والوجدانية التي في أيدي الكتاب والأدباء المفكرين الذين يتعمقون الأشياء ويجلون دفائنها على أعين الجماهير جلواً يستهوي ويثير.
ومن الفطنة أن نعلم أن قيام الجامعة العربية على أسس فكرية ووجدانية يجب يسبق أن قيامها على الأسس السياسية، لأن قيامها على الأسس الأولى هو من طبيعة الأشياء إذا أردنا أن نسير على قوانين النمو والتقدم والارتقاء مسترشدين الله في إنضاج الثمار.
فالقلب هو أول ما يتكون في الجنين ومنه تمتد الشرايين لتغذية الجسم الصغير الذي يتخلق منه الكائن الإنساني أو الحيواني. وكذلك عقدة البرعم التي فيها سر الشجرة ونوعها ه منطقة النمو في النبات.
ذلك في عالم الأحياء والمحسوسات وهو بذاته في عالم الأمر والمعاني. فيجب أن نرعاه ونعرف له حقه ونؤدي له واجبه حتى لا نضل أو تلتوي بنا السبل أو يبطئ علينا نضج الثمرات المرجوة.
ومن الملحوظ في الحركات السياسية الكبيرة التي تمت في مراحل التاريخ، أن كل حركة عظيمة كان بجوارها مفكرون يفلسفونها ويضعون لها أسساً تنهض في أعماق الضمائر والعقول فتكون الحركة مدعمة بالإيمان والاستنارة.
فالبلشفية تقوم على فكرة وفلسفة وطدها كارل ماركس ولينين، والنازية كذلك استمدت من فلسفة (نيتشه) وكان بجوارها (روزنبرج)، والحركة الاشتراكية في إنجلترا يفلسفها الأستاذ (لاسكي).
وهكذا تقوم الحركات السياسية الكبيرة دائماً على واضعي الأسس الاجتماعية في أعماق الوجدان والفكر.
والجامعة العربية لها فلسفة أو يجب أن يكون لها فلسفة ملخصة تنير طريق العربي إلى غايته وتجعل إيمانه بقوميته وحركتها السياسية إيماناً بصيراً مستنيراً. حتى إذا خاب جيل في تحقيق الأهداف أتى الجيل الذي يليه فوجد الغاية صحيحة صالحة مركزة في قضايا واضحة تستحق العمل لها فيعمل لها بحرارة واندفاع ذاتي غير ملق بالا إلى الخيبة السابقة إلا بمقدار أخذ العظة منها.
والأسس الفكرية للعربية الحديثة تلخص في أننا (الأمة الوسط) بين أمم العالم جميعه من حيث المكان واللون والفكر.
فنحن في المكان الوسط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب غير منازع ولوننا وسط بين الجميع. وقد أخذنا من بيض الشمال وصفر الشرق وسود الجنوب وحمر الغرب بحيث يأنس بنا الجميع ولا يجدون بيننا وبينهم ما يجدونه حينما يتلاقى الأبيض بالزنجي أو بالأصفر أو يتلاقى الأصفر بالزنجي أو بالأبيض وهكذا. ومادام في الأرض فلسفة سياسة ظالمة تقوم على الفروق اللونية والجنسية، فموضعنا يرشحنا أن نكون الحكم بين الجميع، لأننا نرضي الجميع إذ أننا خليط من الجميع.
ونحن أمة الوسط في الفكر. وهذا يستلزم بسطاً في الحديث لا تفي به هذه العجالة. ولكننا نجتزئ بطرف منه: وأعني بالفكر جميع القوى العليا في العقل والروح. وقد ورثنا ذلك من كثرة التجارب والأحداث والحضارات الروحية والمادية التي مرت بنا، ففي مهود بلادنا وعلى ضفاف أنهارنا قامت أول المادية وما زالت تقوم وتدول وتنتقل على هذه الرقعة التي تسمى اليوم الشرق الأوسط. حتى انتقلت إلى الغرب على يد اليونان والرومان في حضارتهم الأولى، ثم جاء عهد النهضة الأوربية الحضارة الحالية وهي الحضارة الثانية فقط لهذه البقاع. والأولى هي حضارة الدولة الرومانية التي قامت على أسس عسكرية عنيفة ولم تتصل بالروح إلا بعد أن أخذت بـ (المسيحية) وهي وليدة الشرق أيضاً.
وعلى قمم جبالنا تعلقت قلوب أجدادنا بالسماء وبكت لله وأدركت وحدته واتصلت بها رسالات وحيه فأتت بالخير والبر والتفاؤل والاطمئنان والسمو بالإنسان وكانت للإنسانية بمثابة الأمومة المربية المسددة المرشدة.
وفي صحفنا كتب أول السطور بالقلم الهيروغليفي ثم الفينيقي الذي ابتدأ به التاريخ البشري والفكر العظيم والجهد العنيف يدون ويسجل ويختزل في تلك (القماقم) السحرية الصغيرة: الحروف والكلمات، فينتقل بذلك الفكر الإنساني إلى المرحلة الكبرى التي ترجم بها كلمات الله في الطبيعة، وبنى على أسسها علومه وآدابه إلى ما شاء الله أن يبني.
فإذا كان حاضرنا سيئاً بفعل الجهالة والجمود وعدم إدراك رسالتنا بعد أن تقسمت العرب دول غريبة عن العربية، فإن ماضينا يبعث فينا الثقة بأنفسنا وبما فيها من استعدادات كامنة.
وإن مستقبلنا ينادينا أن ننهض لوصل الماضي بالحاضر بالمستقبل حتى نؤدي دورنا المنتظر من الأمة الوسط التي ترضي حكمها أمم الأطراف التي فيها دائماً الغلو والإسراف.
عبد المنعم خلاف