مجلة الرسالة/العدد 657/صور من العصر العباسي:

مجلة الرسالة/العدد 657/صور من العصر العباسي:

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 02 - 1946



القرية الفضية. . .

للأستاذ صلاح الدين المنجد

هذه القرية، هي إحدى عجائب العصر العباسي في بغداد. وما أكثر ما كان من زمن العباسيين من عجائب! وكانت قرية من فضة، وفيها كل ما تجد في القرى من بقر، وغنم، وجمال، وجواميس، وأشجار، ونباتات، ومساح، وناس، وكل ذلك قد صنع بأدق صنعة من الفضة، وأنفق عليه آلاف من الدراهم.

وكانت هذه القرية قد صنعت للخليفة المقتدر، ليرى كيف تكون القرى، وأغلب الظن أنه اشتهى رؤية قرية فصنعت هذه له.

وقد نعجب بالحضارة الإسلامية التي بلغت في القرن الرابع نضجها فأبدعت أشباه هذه الأشياء. وقد يدهشنا ما أنفق هذا الخليفة من الأموال، لتصنع له هذه القرية، ولكن الذي يدعو إلى العجب والدهشة معاً، قصة هذه القرية، وأثر النساء في مصيرها.

وهذه القصة جديرة بأن تكون خاتمة لمقالي السابق عن حكومة النساء لدى الخلفاء في زمن بني العباس.

ذلك بأن أم المقتدر، - وكان لها من الشأن ما عملت - كان لها داية تخدمها تسمى (نظم) وكانت نظم بارعة ذكية، فما زالت حتى صارت من قهارمها، وصارت تجري على يديها الكبير من الأمور والصغير، وكانت نظم ترغب في رجل أسمه أبو القاسم يوسف بن يحيى، فرفعته، وانتهت به إلى أسنى الأرزاق وأوسع الأحوال، وقربت بينه وبين السيدة حتى أخرجت له الصلات، فتأثلت حاله، وصار صاحب عشرات ألوف من الدنانير ثم خلطته بخدمة السيدة الأم، فزاد منها تقرباً.

وعزم أبو القاسم هذا، على تطهير ابنه يوماً، فأعد وليمة الختان عدة كبيرة، وأنفق على ذلك ما لم يسمع أن فعل مثله رجل من الحاشية، حتى إنه لكثرة ما ابتاع من الحاجات أفرد عدة دور للحيوان، وعدة دور للفاكهة، وبلغ (نظم) خبره، فسعت عند السيدة الأم وجاءته من عندها بالأموال والفرش والآنية والثياب والمخروط (وهو نوع من الزجاج)، فلما مضت أيام سألت السيدة نظماً: يا نظم إيش خبر طهر ابن يوسف؟ قالت: يا ستي قد بقيت عليه أشياء يريدها، فقالت: خذي ما تريدين واحمليه إليه، فجاءت نظم إليه فقالت: إن كان قد بقي في نفسك شيء، فعرفني. فقال لها: الختان غداً، وما بقي في نفسي شيء إلا وقد بلغته بك، وقد بقي في نفسي شيء لست أجسر على مسألته. قالت: قل ما في نفسك. قال: أشتهي إعارة القرية الفضية التي عملت لأمير المؤمنين ليراها الناس في داري، ويشاهدوا ما لم يشاهدوا مثله، فيعلموا ما لي من الاختصاص والعناية. فوجمت، وقالت هذا شيء عمله الخليفة لنفسه، ومقداره عظيم، وفي هذه القرية مئات الألوف من الدراهم، ولا أحسب جاهي يبلغ إليها. وكيف يستعار من خليفة شيء؟ ومتى سمع بخليفة يعير؟ ولكن أنا أسأل السيدة. ومضت.

قال أبو القاسم: فلما كان الليل جاءتني، فقلت ما الخبر؟ فقالت كل ما تحب، قد جئتك بالقرية هبة لا عارية، وجئتك معها بصلة ابتدأ بها أمير المؤمنين من غير مسألة أحد. فقلت ما الخبر؟ قالت: مضيت وأنا منكسرة القلب، آيسة من أن يتم هذا. فدخلت على السيدة، على هيئتي تلك. فقالت من أين؟ قلت من عند عبدك يوسف، وهو على أن يطهر ابنه غداً. قالت أراك منكسرة، قلت: ببقائك ما أنا منكسرة. قالت: ففي وجهك حديث، فقلت: خير، قالت: بحياتي عليك، ما ذاك؟ قلت: قد شكر ما عومل به ودعا وقال إني كنت أحب أن أتشرف بما لم يتشرف به أحد قبلي ليعلم موضعي من الخدمة. قالت: وما هو؟ قلت: يسأل أن يعار القرية ليتجمل بها، ويردها من غد. فأمسكت. ثم قالت: هذا شيء عمله الخليفة لنفسه، كيف يحسن أن يرى في دار غيره؟ وكيف يحسن أن يقال إن الخليفة استعار منه بعض خدمه شيئاً ثم استرده منه، وهذا فضيحة. وليس يجوز أن أسأله هبتها له لأني لا أدري إن كان قد ملها وشبع منها أم لا؟ فإن كان قد ملها فقيمتها عليه هينة. وإن كان لم يملها لم أرض أن أفجعه بها، وسأسبر ما عنده في هذا.

ثم دعت بجارية فقالت: اعرفوا خبر الخليفة، فقيل لها هو عند فلانة، فقالت (أي لنظم) تعالي معي، فقامت، وأنا معها وعدة جوار حتى دخلت، وكانت عادته إذا رآها أن يقوم لها قائماً، ويعانقها، ويقبل رأسها، ويجلسها معه في دسته (قالت نظم): فحين رآها قام وأجلسها معه، وقال: يا ستي - وهكذا كان يخاطبها - ليس هذا من أوقات تفضلك وزيارتك! فقالت: ليس من أوقاتي. ثم حدثته ساعة، وقالت: يا نظم متى عزم ابنك يوسف (!) على تطهير ابنه؟ قلت. غداً. فقال الخليفة: إن كان يحتاج إلى شيء آخر أمرت به. فقالت: هو مستكف داع، ولكن قد التمس شيئاً ما أستحسن خطابك به. قال أريد أن أشرف على أهل المملكة كلهم، ويرى عندي ما لم ير في العالم بمثله. قال: وما هو؟ قالت: يا سيدي يلتمس أن تعيره القرية، فإذا رآها الناس عنده ارتجعت. فقال يا ستي، والله هذه ظريفة! يستعير خادم لنا شيئاً، وتكونين أنت شفيعة، فأعيره ثم أرتجعه، هذا من عمل العوام لا الخلفاء. ولكن إذا كان محله من رأيك، هذا، حتى قد حملت على نفسك بخطابي وتجشمت زيارتي، وأنا أعلم أنه ليس من أوقات الزيارة، فقد وهبت له القرية، فمري بحملها بجميع آلاتها إليه، وقد رأيت أن أشرفه بشيء آخر، يحمل إليه غداً جميع وظائفنا، ولا يطبخ لنا شيء البتة، بل يرسل إليه، وبؤخذ لنا سمك طري فقط.

وأمرت السيدة بنقل القرية، فتملكها أبو القاسم.

فهذه قصة بسيطة، على أن فيها كثيراً من حياة القصر زمن المقتدر، وهي تبين لنا طرق الكلام، والمحادثة، وطرق تآمر النساء على الخليفة، وطرق تبذير الأموال. على أن أعظم هذه الأشياء كلها، هو تأثير نظم والسيدة في الخليفة، وانقياد هذا الخليفة للنساء، وتركه الأمور لهن يصرفنها كيفما شئن وأردن.

دمشق

صلاح الدين المنجد.