مجلة الرسالة/العدد 658/المجلس الأعلى وسياسة التعليم

مجلة الرسالة/العدد 658/المجلس الأعلى وسياسة التعليم

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1946



للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

أخيراً عاد وللحمد لله مجلس التعليم الأعلى إلى الظهور بعد أن طال احتجابه وبعد إن طلبنا مراراً ونادينا تكراراً على صفحات (الرسالة) الغراء بضرورة إحيائه من جديد ليوجه التربية والتعليم الوجهة الصحيحة النافعة المثمرة. وإنه لجميل حقاً أن اضطلع بعضويته رجالاً ذوو خبرة ودراية كوزراء المعارف السابقين وآخرون من ذوي الفكر وحملة القلم، وهم جميعاً بتعاونهم جديرون برسم السياسة المستقيمة وتوجيهها التوجه الطبيعي القويم.

ولقد سبق إحياء هذا المجلس مؤتمر لرجال التعليم دام عمله لثلاثة أيام في شهر نوفمبر الماضي عقد فيها عدة جلسات وألقيت عدة محاضرات ودارت مناقشات ومباحثات بين المؤتمرين عن أهداف التعليم وسياسته، وأصدروا عدة قرارات كان أهم ما جاء فيها ضرورة العمل على خلق المدرسة الشعبية لتضم أطفال الأمة جميعاً بين السادسة والثانية عشرة على أنقاض المدارس المتعددة الأساليب والمقاصد التي سبق أن نددنا بقيامها لما ينتاب الوالد من حيرة إذا أراد أن يلحق ولده بإحداها ولما تبعث في نفوس أطفال البلد الواحد من غل وضغينة وحسد وسخيمة وتكون عوامل جفاء وفرقة بين أفراد الشعب طوال الحياة. تلك هي المدارس الابتدائية والمدارس الأولية والمدارس الإلزامية والمدارس الريفية ومدارس رياض الأطفال.

قرر مؤتمر التعليم إدماج هذه المدارس جميعها في مدرسة واحدة مدتها ست سنوات وأن تكون مرحلتها هذه خالية من اللغة الأجنبية، وهو قرار حكيم طالما تُقنا إليه، وإنا نؤيده بكل قوانا لدى مجلس التعليم الأعلى ولدى جميع المهيمنين على التعليم تخفيفاً من حدة نظام الطبقات الذي لا تعرفه عقائدنا ولا تقاليدنا إلا في العصور الأخيرة التي طغى عليها زيف المدنية المادية، وصوناً لوحدة هذا الشعب الذي مزقت وحدته اختلافات نواحي التفكير واختلافات الوحدات والمقاصد، فأصبح تراثه نهباً للمستعمرين ولبعض السياسيين المحترفين الذين أشعلوا نار الخصومة والفرقة بين أفراده وأسره وجماعاته، وساعدهم على ذلك تكوين الناشئة في مدارس متباينة في الأساليب مختلفة في الأوضاع والمقاصد.

وإنا وإن كنا حمدنا الله تبارك وتعالى لتوفيق المؤتمر إلى هذا القرار، إلا إنا كنا نرجو منه أن يوفق إلى أكثر من ذلك. كنا نرجو توكيداً لفكرة الوحدة الشاملة أن يعنى في قراراته بالقضاء على ثنائية التعليم التي تقضي بوجود نوعين متباعدين منه، هما التعليم في المعاهد الدينية والتعليم في المدارس المدنية، خصوصاً وقد تناول هذا الموضوع بالبحث أحد أعضائه. فإنها ثنائية ما أقساها على شعب موحد اللغة موحد العادات موحد التقاليد. ثنائية لا يعرفها شعب من الشعوب المتحضرة قد أدخلها علينا المستعمرون في غفلة الزمان بل في غفلتنا عن تقلبات الأيام، دون مراعاة لحاجتنا الملحة إلى أساس نهضات الأمم من الاتحاد والوئام، فكانت عاملاً قوياً من عوامل الفرقة الحقيقية بين المتعلمين في المعاهد الدينية والمدارس المدنية منذ فجر حياتهم التعليمية. ولن تجد هذا النوع من التفرقة في بلد آخر غير هذا البلد. فهلا تزال مصر بلد المفارقات والعجائب، وهل يصح أن نستمر على هذا الحال من السكوت على عوامل الفرقة وتركها تنخر في عظام الأمة!

فإذا كان التعليم في المرحلة الأولى بالمدارس المدنية سواء في ذلك المدرسة المقترحة أو المدارس القائمة أصبح مجانياً كما هو الحال في المعاهد الدينية؛ وإذا كانت اللغة الأجنبية لن يبقى لها وجود في هذه المرحلة في المدارس المدنية كما هو الحال في المعاهد الدينية، وإذا كانت هذه المعاهد الدينية قد أخذت من زمن بعيد بفكرة إدخال العلوم الحديثة جميعها في مناهجها فماذا يبقى بعد ذلك من فروق تستوجب هذه الثنائية الممقوتة!

لم يعد هناك غير فارق واحد يستند عليه الأزهر وشيوخه في بقاء هذه الثنائية، ذلك هو إهمال المدارس المدنية لدراسة الدين دراسة علمية وعملية توحي إلى نفوس الأبناء بنور الروحانيات وجلالها وعظيم أثرها. إننا نعرف حقاً بأن المدارس المدنية قد فقدت هذه الروح فقداناً تاماً، حتى وُجدت عندنا طبقة من الكتاب والأدباء وطبقة من أصحاب النفوذ والسلطان لا يقدرون للروحانيات قدرها ولا يدركون أثرها!

وإنه ليؤسفني أن اقرر أن المدنية المادية التي ساقها إلينا الغرب قد طغت على عقول هؤلاء جميعاً. غير أن الحرب الأخيرة التي استخدم فيها العلم شر استخدام لم تكن كلها شراً، بل كان فيها بعض الخير لأنها نبهت أذهان الكثيرين من علماء الغرب واتباعهم في الشرق إلى إن ساسة العلم وقادته يجب أن يغيروا من عقلياتهم القديمة، وأن يفكروا تفكيراً جديداً يناسب ما اوحته هذه الحرب المدمرة إلى النفوس، ويناسب ما أوحاه النصر في نفوس المنتصرين من غرور وجشع، وما أملاه عليهم من سخرية بالمواثيق وهزء بالعهود وقضاء على حقوق الضعفاء، وأثرة ونهم وطمع استولت كلها على نفوس الأقوياء.

نعم إن هذه الحال التي أوجدتها الحرب المدمرة وما تلاها من تصادم قوى بين الآراء الاستعمارية الجشعة التي زادت من تمكنها من النفوس سكرة النصر والشغف بالتسلط وبين الآراء الجديدة التي توحي بحرية الأمم والشعوب قد هزت الكثيرين من كتاب الغرب والشرق فنادوا بضرورة العودة إلى الدين ودراسته دراسة عملية بين جدران المدارس لأنه صمام الأمن الذي يهدئ النفوس ويردها عن الغي والظلم والطمع والفساد في الأرض حتى لا يكون طغيان الماديات سبباً في القضاء على المدنية القائمة. من أجل ذلك أنذرنا رجال التعليم في مؤتمرهم وأعلناهم بما يجره إهمال التعليم الديني والانصراف عن الروحانيات في أهداف التعليم وسياسته من استهتار بالفضائل في تكوين أخلاق النشء ومن ابتعادهم عن المثل العليا الروحية التي تربي القلوب، والتي تشيع في الصدور النور والهداية والتي تحفز النفوس أبداً إلى الرقي والسمو وتعلو بها عن مدنسات المادة ودناياها، كما تحفزها إلى العمل أبداً للمثل العليا للفضيلة والأخلاق الكريمة. ولكنا مع الأسف لم نجد من المؤتمرين سميعاً لأن قادة الشرق وزعماءه وكتابه لا زالوا سائرين على نسق الغرب وما يجري فيه. والغرب الآن لم يستقر على رأي، ولا زالت الآراء والأفكار تصطرع فيه اصطراعاً. وقادتنا وكتابنا في انتظار ما يتمخض عنه الصراع. ولا أدري لماذا نعيش عالة على آراء الغرب وتفكيره، في حين إننا نجاهد في طلب الاستقلال. وهل هناك استقلال سياسي إلا إذا صحبه أو سبقه استقلال فكري؟

وإذا كان مؤتمر التعليم قد اقتدى بالغرب القديم فانصرف انصرافاً عن الأخذ بجعل التعليم الديني في صلب مناهج المدارس المدنية وامتحاناتها كما يجب أن يكون، وعن العمل للقضاء على ثنائية التعليم التي رسمها المستعمرون، فإنا نرى في رجال المجلس الأعلى وهم البعيدو النظر من المفكرين ضماناً كافياً لبحث هذين الموضوعين الجليلين بحثاً حراً غير متأثر بالسياسة القديمة في سبيل وحدة هذا الشعب وتقارب أفكار أبنائه وتعاونهم وانسجامهم في اتجاهاتهم المختلفة. أما الأزهر ورجاله على رأسهم فضيلة الأستاذ الأكبر وهو من أعلام الأدب وقادة الفكر فبعيد عن الظن إنهم يعارضون في فكرة التوحيد في صفوف الناشئة ما داموا يضمنون أن التعليم الديني سيأخذ سبيله المستقيم إلى المدارس، وسيكون معنياً به كسائر العلوم الأخرى. بل أعتقد إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر سيكون أول مناد بهذا التوحيد الذي أصبح من الضرورات الملحة في سبيل لم الشمل وتخفيف حدة المنازعات والمخاصمات التي لا تجر على هذا البلد غير الويلات والنكبات.

ولقد أحس بعض القادة والمثقفين بضرورة العناية عناية صحيحة بالتعليم الديني في المدارس فتألفت لجنة في المركز العام للإخوان المسلمين للعمل على إحياء الروح الدينية ألحقت في المدارس المدنية، وجعل الدين من العلوم الأساسية التي يمتحن فيها التلاميذ امتحاناً حقيقياً لا صورياً حتى يأخذ حقه من عناية المدارس نظارها ومدرسيها وتلاميذها فيكون له أثره الفعال في النفوس. وإنا لنأمل أن تلقى هذه اللجنة تعضيداً من جميع الهيئات الإسلامية العاملة في مصر، وأن يشد أزرها الكتاب والأدباء المؤمنون بالفكرة حق الأيمان والذين لم تتلوث قلوبهم بالشبهات والزيغ عسى أن تلقى الفكرة ما تستحقه من عناية وتقدير في المجلس الأعلى وعند أولى الأمر جميعاً، والله ولي التوفيق.

عبد الحميد فهمي مطر

المفتش بوزارة المعارف