مجلة الرسالة/العدد 658/صور من العصر العباسي:

مجلة الرسالة/العدد 658/صور من العصر العباسي:

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1946



مآكل الخلفاء العباسيين

للأستاذ صلاح الدين المنجد

لعل الملوك والخلفاء من أشد الناس حرصاً على انتقاء ما لذّ من الطعام وطاب، فهم يتخيرون اللذيذ من كل شيء، وما عليهم إن أتعبوا غيرهم، أو أنفقوا الأموال الطوال في سبيل ذلك.

والخلفاء العباسيون، كانوا يعنون بهذا الأمر كل العناية، وكانوا يحرصون على ألا يفوتهم من لذائذ المآكل والثمار شيء. فكانت هذه اللذائذ تحمل من الأقطار إلى قصورهم في بغداد ليتمتعوا بها، وكانوا يفرضون أن يحمل إليهم مع خراج كل بلد، ما حسن فيه من مأكل أو ثمر أو زهر. وهكذا كان يحمل مع خراج الري الرمان والخوخ المقدد، ومن أصبهان والموصل العسل والشمع، ومن الكوفة البنفسج، ومن جرجان النرجس، ومن الصيمرة النارنج، ومن طبرستان الأترج. وكان يحمل من مكة والمدينة والحجاز إلى الخليفة العنبر والزبيب، ومن الأهواز ثلاثون ألف رطل من السكر، ومن فارس ماء الورد والزبيب الأسود والرمان والسفرجل والتين، أما دمشق، فكانت ترسل إلى الخليفة التفاح، وكان المأمون معجباً به، يؤخذ إليه منه ثلاثون ألف تفاحة مع الخراج.

وكانوا إذا اشتهوا شيئاً ولم يكن له نصيب في الخراج، أرسلوا يطلبونه. فقد كانوا يطلبون ألوان اللحوم والطيور، ولو بعد مكانها، فتأتيهم على البريد. وينفقون في ذلك الأموال الكثيرة. وكل هذا ليمتع الخليفة بالطيبات من المآكل والأثمار.

ومظهر هام من مظاهر هذه العناية يتجلى لنا، عند بعض الخلفاء، بالألوان الكثيرة التي كانت تهيأ له من الطعام. وقد كان عدد هذه الألوان يبلغ مبلغاً، ما سمع ولا عرف. حدث جعفر بن محمد - وكان أحد العشرة اللذين أختارهم المأمون لمجالسته ومحادثته من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم - قال: تغدينا يوماً عنده - أي عند المأمون - فظننت أنه وضع على المائدة أكثر من ثلاثمائة لون. وكلما وضع لون، نظر إليه المأمون فقال: هذا يصلح لكذا، وهذا نافع لكذا.

ومهما يكن أمر هذا الظن الذي ظنه هذا الفقيه، فلا بد أن يكون عدد ألوان الطعام كبيراً.

وقد كنا نرتاب بالخبر لولا أن ذاكره هو ابن طيفور، ولم يؤرخ المأمون أحد مثله.

ويؤيد ما ذكرناه من تكثير الخلفاء ألوان الطعام ما رواه

المسعودي، فقد ذكر أن الرشيد كان ينفق على طعامه في كل

يوم عشرة آلاف درهم. وأنه ربما أتخذ له الطباخون ثلاثين

لوناً من الطعام. وكان يتخذ للقاهر اثني عشر لوناً (آدم

متز1247)

فلننظر الآن فيما كانوا يرحبون فيه.

نلاحظ أن أكثر ميل ملوك بني العباس كان إلى اللحوم، وخاصة لحوم الدجاج. يقول الجاحظ: وملوكنا وأهل العيش منا لا يرغبون في شيء من اللحمان رغبتهم في الدجاج. وهم يقدمونها على البط والنواهض والدراج، وعلى الجداء. . . وهم يأكلون الرواعي كما يأكلون المسمنات.

أما رغبتهم في الدجاج فذلك لأنه أكثر اللحوم تصرفاً. فهي تطيب شواء، ثم حاراً، وبارداً، ثم تطيب في البز ما ورد، وهو طعام من البيض واللحم، أو رقائق ملفوفة بلحم، ثم تطيب في الهرائس، وتطيب طبيخاً، وإن قطعتها مع اللحم دسم ذلك اللحم، وتصلح للحشاوى، وسمينها يقدم في السكباجة على البط.

وفي الشتاء كانوا يرغبون في الأطعمة الحارة المهيجة. فقد قال المأمون لأبي كامل الطباخ يوماً: اتخذ لنا رؤوس حملان تكون غداءنا غداً. ثم التفت إلى علي بن هشام، وكان حاضراً، فقال إن من آيين الرؤوس أن تؤكل في الشتاء خاصة، وإن يبكر آكلها عليها، وألا يخلط بها غيرها، ولا يستعمل بعقبها الماء.

وكان المأمون يميل أيضاً إلى لحم الغنم، وقد قال للحسن بن سهل يوماً: نظرت في اللذات فوجدتها كلها مملولة، سوى سبعة. قال الحسن: وما السبعة يا أمير المؤمنين؟ قال: خبز الحنطة، ولحم الغنم، والماء البارد. . وعد أربعة غيرها.

وقد يعجب بعضهم بالمملحات والممقورات. فقد خرج المقتدر يوماً إلى بستان الخلافة، فطلب طعاماً، فلم يحضر طعامه، فقدم له، ملاح جونة مليحة من خيازر (ج خيزران) فيها جدي بارد، وسكباج مبرود، وبزماورد وأدام، وقطعة مالح ممقور، وأرغفة سميد جيدة. فاستنظفها وأكل منها، واستطاب المالح والادام، فكان أكثر أكله منه.

وعلى ذكر البزماورد، نقول أنه كان يسمى في العصر العباسي لقمة الخليفة، ولقمة القاضي، ونرجس المائدة. وهذه التسمية تدلنا على أن الخلفاء والقضاة كانوا يأكلونه ويحلون به موائدهم. وهذا البزماورد، كان يتخذ من اللحم والبيض في بغداد. ويذكر لنا الجاحظ أن أهل خراسان كانوا يعجبون باتخاذ البزماورد من فراخ الزنابير.

ويبدو أن اتخاذ البزماورد من فراخ الزنابير ليس بعجيب، فقد كان الفضل بن يحيى يوجه خدمه في طلب فراخ الزنابير ليأكلها، وفراخها ضرب من الذبان الكبار، كما يقول الجاحظ.

وكانوا يرغبون في السكباج، ويسمونه مخ الأطعمة وسيد المرق. ولقد تشكى خليفة يوماً لجارية له من هذا الطعام، فقال لها، إلى كم سكباج؟ قالت: هو مخ الأطعمة، لا يكره بارده ولا يمل حاره، بل يستطاب في الحضر، ويتزود منه في السفر، ولا يؤثر عليه الضيف في الشتاء والصيف.

وإلى جانب ما ذكرنا، كانو يعنون بالسكارج والبقول، ويقولون: لكل شيء حلية، وحلية الخوان السكرجات والبقول. ويقدرون الأرز حق قدره، ويقولون الأرز غذاء ضحيح.

وكانوا يأكلون ألسنة السمك، يعمدون إلى السمك فينزعون ألسنته ويأكلونها. ولقد دعا إبراهيم بن المهدي الرشيد مرة فأعد له طبقاً ألسنة السمك، وأنفق على صحفة صغيرة منه مبالغ طائلة.

أما السمك نفسه، فكانوا يأكلونه أيضاً، ويلاحظ أنه كان مرغوباً فيه من النصارى كثيراً، فكانوا يأكلونه أكلاً ذريعاً. ويحدثنا الجاحظ أنه لكثرة إقبالهم عليه كانوا يغلونه على الناس، حتى تتوخى أياماً بأعيانها فلا يشترى السمك إلا فيها طلباً للإمكان والاسترخاص وهي يوم الخميس، ويوم السبت، ويوم الثلاثاء.

ومن المآكل التي كانوا يعجبون بها ألبان الضباء. وكان الرشيد يسر بها. ولقد زار جعفر بن سليمان والي البصرة سنة196، فأحضر له على مائدته ألبان الضباء وزبدها فاستطاب طعومها وسر بها.

ولون آخر كانوا يشتهونه، هو كبود الدجاج وحدها. ويحدثنا التنوخي أن إبراهيم الحراني الصابئ الطبيب كان بين يدي الموفق يوماً، فقال له: أنا أشتهي شهوة منذ سنتين، وأستقبح أن أطلبها وقد عن لي الساعة مواضعتك على طلبها. قال إبراهيم: قلت يا أمير المؤمنين مر، قال: ويحك أنا والله منذ سنتين كثيرة أشتهي كبود الدجاج وقوانصها مطبهجة، وأستقبح أن أطلبها. . . وأريد إذا قدمت المائدة، وجلست معي للأكل، أن تشتهي ذلك علي وتشير به من طريق الطب لأتقدم إليهم باتخاذ شيء منه، بشيء يسير، فيصير ذلك القدر رسماً في كل يوم لا يؤثر عليهم قدره. قال فعجبت من كرمه وفرط حيائه من خدمه حتى يلفق الحيلة، وقدمت المائدة، فجلس يأكل وحده وجلست مع الندماء آكل على مائدة بين يديه. فلما أكل بعض أكلة قلت: لم لا يأمر أمير المؤمنين بأن يتخذ له شيء يسير في زبديات من كبود الدجاج المسمن وقوانصه بالبيض والمري فيطحن بعضه. . . فأصلح له زبدية من كبود الدجاج وقوانصها، وصار رسماً جارياً.

أما الخبز. فكانوا ينوعونه، ويتخيرون أطيبه، وقد كان الرشيد يأكل يومين متواليين خبز السميذ، والثالث الحواري، والرابع الخشكار والخامس والسادس خبز الأرز النقي من خبز التنور.

ويبدو أن الخبز وكثرته كان يؤثر في نفس بعض الخلفاء. فلقد سأل الواثق بن أحمد بن أبي داؤد يوماً ما جمال الموائد؟ فقال: كان يقال: جمالها كثرة الخبز عليها. فقال: أصبت وأحسنت فإن اختلفت الألوان وكان الخبز كثيراً شهد لصاحبها بالشرف.

فهذه بعض الألوان التي كان الخلفاء العباسيون يرغبون فيها من المآكل وهي ألوان فيها النادر والغريب. ولقد كانوا ينفقون في سبيل الحصول على هذه المطاعم الأموال الكثيرة في كل شهر. وقد ذكروا أن الرشيد كان ينفق على طعامه كل يوم عشرة آلاف درهم.، وأن نفقات المطابخ والخابز بلغت في القرن الرابع، في دار الخلافة عشر آلاف دينار في الشهر. وهذا المبلغ دليل على كثرة الإنفاق. وإن كان أكثر هذا في باب الإسراف. ويحدثنا التنوخي أن المعتضد طلب يوماً لوناً من الطعام، فقيل له ما عمل اليوم، فأنكر ذلك، وقال يجب أن لا يخلوا المطبخ من كل شيء حتى إذا طلب لم يتعذر، ووقع إلى ديوان النفقات بإقامة ذلك اللون إلى أن يرد التوقيع بقطعه، فكان يعمل وينفق عليه دراهم كثيرة ولا يحظر المائدة توقعاً أن يطلبه، فيقدم عند الطالب كما رسم. فمضى على ذلك سنة ولم يطلبه. وهو يصنع. وكان هذا اللون جزورية وكان الطباخ يذبح في كل يوم قلوصاً.

على أنه إذا كان بعض هؤلاء الخلفاء ينفقون الأموال على الدجاج وكبود الدجاج وعلى ألسنة السمك والجداء وغير ذلك، ويحرصون كل الحرص على التلذذ بها، فقد كان بعضهم الآخر كالقاهرة يستكثر صنوف الطعام أن توضع أمامه، ويقتصر على ما يكفيه وكان آخرون كالمهتدي لا يأكلون غير الخبز النقي ومعه الملح والخل والزيت.

وسنفصل في مقال آخر ما يتعلق بعلمهم فوائد المآكل، وانتقائهم صاحب الطعام والشراب في قصورهم، وكيف كانوا يأكلون، والآلات التي كانوا يرغبون فيها لآجل ذلك.

دمشق

صلاح الدين المنجد