مجلة الرسالة/العدد 659/القضايا الكبرى في الإسلام:

مجلة الرسالة/العدد 659/القضايا الكبرى في الإسلام:

مجلة الرسالة - العدد 659
القضايا الكبرى في الإسلام:
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1946



مجرمو الحرب في فتح مكة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

حكم أسير الحرب في الإسلام القتل أو الاسترقاق أو المن بفداء أو غير فداء، وقد جاء في كتاب المبسوط للسرخسي أن بعض الفقهاء ذهب إلى أنه لا يجوز قتل الأسير، واستدل على ذلك بأن القتل لم يذكر في قوله تعالى في الآية (4) من سورة محمد (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء) ولو صح هذا لقضي بأنه لا يجوز استرقاق الأسير، لأنه لم يذكر في تلك الآية أيضاً، وهذا هو حكم الأسير بالنظر إلى اشتراكه في القتال، فإذا كان عليه تبعات أخرى كان عليه عقابها الخاص بها، ومثل هذا يسمى الآن مجرم حرب.

وقد كان من مجرمي الحرب في فتح مكة خمسة عشر شخصاً:

عبد الله بن خطل، وكان ممن قدم المدينة قبل فتح مكة وأسلم، وكان أسمه عبد العزى فسماه النبي عبد الله، وبعثه لأخذ الصدقة، وبعث معه رجلاً من الأنصار يخدمه، فنزل منزلاً وأمر الأنصاري أن يذبح تيساً ويصنع طعاماً ونام، ثم أستيقظ فلم يجده صنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله وارتد مشركاً، وكان شاعراً فجعل يهجوا النبي في شعره.

2، 3 - قينتان لعبد الله بن خطل: وهما فرتني وقريبة وكانتا تغنيّانه بما كان يهجوا به النبي .

هبّار بن الأسود، وكان قد عرض لزينب بني النبي حين هاجرت، فنخس بها الجمل حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ولم تزل مريضة حتى ماتت.

5 - الحويرث بن نقيد، وكان العباس بن عبد المطلب حمل فاطمة وأم كلثوم بنتي النبي من مكة يريد بها المدينة، فنخس بها الجمل فرمى بهما الأرض، ثم شارك هبّاراً في نخس جمل أختهما زينب.

6 - مقيس بن صبابة، وكان قد أسلم ثم أتى على أنصاري فقتله، وكان الأنصاري قتل أخاه هشام بن صبابة خطأ في غزوة ذي قرد، ظنه من العدو، فجاء مقيس فأخذ الدية ث قتله وارتد ورجع إلى قريش.

7 - وحشيّ بن حرب، وكان قد قتل حمزة عم النبي غيلة في غزوة أحد، وكان حمزة قد قاتل في ذلك اليوم قتالاً شديداً، وكان يقاتل بسيفين، وكان آخر قتيل قتله ساع بن عبد العزى، فلما أكبّ عليه ليأخذ درعه قتله وحشي بن حرب، وهو غلام جبير بن مطعم.

8 - هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب، وكانت قد مثلت بقتلى أحد من المسلمين، فكانت هي ونساء معها يجدّعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت منها خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشي بن حرب، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.

9 - عبد الله بن أبي سرح، وكان قد أسلم وكتب للنبي ، فزعم أنه كان يملى عليه - عزيز حكيم - فيكتب - غفور رحيم - ثم يقرأ عليه فيقول: نعم سواء، فإن كان يوحي إليه فقد أوحى إلىّ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله.

10 - عكرمة بن أبي جهل، وكان من أشد الناس على النبي ، وبلغ في أذى المسلمين بمكة ما بلغ.

11 - كعب بن زهير، وكان يهجو النبي صلى الله علية وسلم بشعره، ويعيّر أخاه بجيراً لإسلامه.

12 - الحارث بن هشام، وكان شديداً على النبي ، وكذلك كان شديد الأذى على المسلمين بمكة.

13 - زهير بن أبي أميّة، وكان شديداً في كفره كعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام.

14 - صفوان بن أميّة، وكان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله علية وسلم، ومن أشدهم أذى للمسلمين بمكة.

15 - سارّة مولاة لبنى المطّلب، وكانت مغنية بمكة، فقدمت على النبي صلى الله علية وسلم بالمدينة تشكو الحاجة، وتطلب الصلة، فقال لها: ما كان في غنائك ما يغنيك. فقال: إن قريشاً منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا الغناء. فوصلها وأوفر لها بعيراً طعاماً، فرجعت إلى مكة، وكان ابن خطل يلقى إليها هجاء النبي صلى الله عليه واله وسلم فتغني به.

فلما كان يوم الفتح نادى النبي بأمان من يترك القتال من قريش، واستثنى منهم هذا العدد فحكم بإهراق دمائهم، وأمر المسلمين بقتلهم لهذه التبعات التي أخذت عليهم، وكانوا بها من مجرمي الحرب الذين يؤاخذون على إجرامهم بعد أسرهم.

فأما عبد الله بن خطل فإنه ركب في ذلك اليوم فرسه، ولبس درعه وأخذ بيده قناة، وصار يقسم لا يدخلها محمد عنوة، فلما رأى خيل المسلمين خاف وذهب إلى الكعبة وتعلق بأستارها، فرآه النبي عند طوافه وهو بهذه الحالة فقال: اقتلوه، فإن الكعبة لا تعيذ عاصياً، ولا تمنع من إقامة حد واجب. فقتله أبو برزة الأسلمي.

وأما فرتني وقريبة قينتا ابن خطل فإن أولاهما وهي فرتني أسلمت فلم تقتل، ولم تسلم قريبة فقتلت.

وأما هبّار بن الأسود فإنه هرب واختفى، ثم جاء النبي فاعترف بذنبه وأسلم فعفا عنه.

وأما الحويرث بن نقيبد فإنه دخل بيته وأغلق عليه بابه، فقصده علي بن أبى طالب فقيل له: هو في البادية. فتنحى علي عن بابه، فخرج يريد أن يهرب من بيت إلى آخر، فتلقاه علي فضرب عنقه.

وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله الليثي وهو رجل من قومه.

وأما وحشيّ بن حرب فإنه هرب إلى الطائف، ولما خرج وفد الطائف ليسلموا ضاقت عليه المذاهب، فخرج حتى قدم على النبي وأسلم، فعفا عنه ثم قال له: أقعد فحدثني كيف قتلت حمزة؟ فحدثه بذلك إلى أن فرغ منه، فقال له: ويحك غيّب وجهك عني. فكان يتنكبه حيث كان لئلا يراه حتى قبضه الله.

وأما هند بنت عتبة فإنها اختفت في بيت زوجها أبي سفيان، ثم أسلمت واتت النبي بالأبطح فقالت: الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به. ثم كشفت نقابها فقالت: أنا هند بنت عتبة. فقال لها: مرحباً بك، وعفا عنها.

وأما عبد الله بن أبي سرح فإنه لجأ إلى عثمان بن عفان، وكان أخا له من الرضاع، فقال: يا أخي استأمن لي رسول الله صلى الله علية وسلم قبل أن يضرب عنقي. فغيبه عثمان حتى هدأ الناس واطمأنوا، ثم أتى به النبي صلى الله علية وسلم فصار يقول: يا رسول الله أمنته فبايعه. والنبي يعرض عنه ثم قال: نعم. فبسط يده فبايعه.

وأما كعب بن زهير، فخاف وخرج حتى قدم المدينة بعد رجوع النبي من فتح مكة، فأسلم أمامه ومدحه بقصيدته:

(بانت سعاد فقلبي اليوم متبول)

فلما وصل إلى قوله فيها:

إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول

رمى إليه بردة كانت عليه، فلما ملك معاوية بذل له فيها عشرة آلاف درهم، فقال له: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله الذي أعطانيه أحدا.

وأما عكرمة بن أبي جهل فإنه هرب ليلقى نفسه في بئر، أو يموت تائها في البلاد، وكانت أمرائه أم حكيم أسلمت فاستأمنت له النبي فأمنه، فخرجت في طلبه حتى أدركته فرجع معها فأتت به النبي فأسلم.

وأما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية فإنهما هربا واختبأ في بيت أم هانئ بنت أبي طالب فأجارتهما، وقد أجاز النبي جوارها، ثم جاءته بهما فأسلما.

وأما صفوان بن أبي أميه فاختفى وأراد أن يلقى نفسه في البحر، فأتى أبن عمه عمير بن وهب إلى النبي وقال له: يا نبي الله، إن صفوان سيد قومه، وقد هرب ليقذف نفسه في البحر، فأمنه فإنك أمنت الأحمر والأسود. فقال له: أدرك ابن عمك فهو آمن. فخرج فأدركه وأتى به النبي فقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني. قال: صدق. فقال: أمهلني على الشرك شهرين. فقال: لك أربعة أشهر. ثم خرج مع النبي في غزوة حنين، فلما قسم الغنائم أعطاه مائه من الإبل ثم مائه ثم مائه، ثم رآه يرمق شعباً مملوءاً نعماً وشاء فقال له: يعجبك هذا. قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقبض صفوان ما في الشعب وقال: إن الملوك لا تطيب نفسها بمثل هذا، ما طابت نفس أحد قط بمثل هذا إلا نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداُ رسول الله. فأسلم وترك المدة التي كان طلبها.

وأما سارة مولاة بني المطلب فإنها هربت واختفت ثم أستؤمن لها النبي فأمنها، فجاءته فأسلمت.

فقتل من هذا العدد الذي كان مجرم حرب قاتلان: هما عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة، وقد قتل عبد الله بن خطل بعد استعاذته بالكعبة، فلم تنجه استعاذته بها من القتل، لأنه كان شديد الجرم بقتله ذلك الأنصاري الذي كان يخدمه، والكعبة كما قال النبي لا تعيذ عاصياً، ولا تمنع من إقامة حد واجب. وقد قتل منهم بعد ذلك اثنان لم يتولى النبي قتلهما، ولو أنهما أسلما وطلبا الأمان منه لأمنهما كما أمن الذين كان جرمهم مثل جرمهما، وهما الحويرث بن نقيد الذي قتله علي بن أبي طالب، وقريبه مولاة عبد الله بن خطل

والمهم في هذه القضية ما حصل من عفو النبي عن أكثر ذلك العدد، فهل حصل هذا بما له من حق العفو، فرأى أن ما ارتكبوه من جرم لم يصل إلى القتل حصل في حال لهم فيها شيء من العذر، فيكون أخذهم بالعفو أولى من أخذهم بالعقوبة. أو حصل هذا لأنهم أسلموا والإسلام يجب ما قبله، كما قال تعالى في الآية (38) من سورة الأنفال: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين).

وقد اختلف العلماء في معنى هذه الآية، فذهب بعضهم إلى أن المراد أنهم إن ينتهوا عن عداوة النبي يغفر لهم ما قد سلف منها، وذهب بعضهم إلى أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي، ويخرجون منها كما تنسل الشعرة من العجين، ومنه قوله : الإسلام يجب ما قبله. وقالوا: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعه قط، وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله، وتبقى عليه حقوق الآدميين.

وما حصل في هذه القضية يشهد للذين ذهبوا إلى أن الإسلام لا يسقط شيء من تبعات الدنيا، ولو كان الذي أسلم حربياً، ولهذا قتل النبي عبد الله بن خطل مع استعاذته بالكعبة، ولو كان الإسلام ينجيه من القتل لعرض عليه الإسلام قبل أن يقتله، وقد كان النبي يأمر سراياه بأن يعرضوا الإسلام على أعدائهم قبل أن يقاتلوهم، ومثل هذا يجعل الإسلام خالصاً لله تعالى، ولا يجعله وسيله للتخلص من تبعات الدنيا.

فلم يبقى إلا أن النبي عفا عنهم بما له من حق العفو، ليضرب بذلك مثلا صالحاً في معاملة مجرمي الحرب، فيعلم الناس أنه لا يجب التشديد في أمرهم، وأنه لا يصح أن يؤاخذوا إلا بمثل ما أوخذ به عبد الله بن خطل، وقد قال الأول في أمثالهم: القدرة تذهب الحفيظة.

عبد المتعال الصعيدي