مجلة الرسالة/العدد 659/بمناسبة (المولد):

مجلة الرسالة/العدد 659/بمناسبة (المولد):

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1946



حقائق مؤلمة

للأستاذ علي الطنطاوي

(الكتاب أطباء الأمة. فإذا جامل الطبيب مريضه فكتم عنه

داءه، لم يبرأ منه أبداً).

علي

هذا يوم (المولد)، وأنه لمحطة في طريق الزمان، فلنقف عليه كما يقف المسافر في المحطة، ليلقي ببصره حوله، فينظر إلى أين يسير، وكم قطع من طريقه إلى غايته، وهل يمشي إليها على الصراط السوي، أم قد ضل عنها وجانفها، وهل يساير القافلة أم شرد عنها وفارقها؟ ولنحاسب فيه أنفسنا كما يحاسب التاجر نفسه، فيرى ماله وما عليه. . .

أما أنا، فقد وقفت ونظرت، فأبت وقد فاضت النفس حسرة، وامتلأت ألماً، وأيقنت أن الذي علينا، أكثر من الذي لنا، وأننا قد (خسرنا)!

ولم يكن التشاؤم من شأني، ولا اليأس مذهبي، ولكن ما نحن فيه يؤْيس الأمل، ويكرب المتفائل، وأين لعمري باب الأمل حتى ألجه، وأية حال من أحوالنا تبشر بالخير، وتدعو إلى السرور: أحالنا في بيوتنا، أم في مدارسنا، أم في أسواقنا، أم في دواوين حكومتنا؟ وأي طبقة من طبقاتنا تتبع هدى نبينا: أعلماؤنا أم قادتنا، أم أدباؤنا، أم عامتنا؟ وأي بلد من بلداننا، كان البلد الإسلامي الخالص: أحجازنا، أم شامنا، أم مصرنا، أم عراقنا؟

أما البيوت، وهي الحجارة في صرح الوطن، لا يصلح أن فسدت، ولا ينهض أن تهافتت، فلقد كان العهد بها مؤسسة على التقوى، قائمة على الخلق النبيل، والود المبذول، وكان الرجل فيها سيداً يطيعه أهلها ويطيع هو ربه، وكان لعمله وبيته، لا يعرف غيرهما، ولا يهمه سواهما، وكان الولد براً بأبيه، والزوجة موافقة لزوجها، همها دارها، ومطمحها إسعاد زوجها وولدها، فتغيرت الحال، فصارت المرأة قوامة على رجلها، والولد متكبراً على أبيه، والرجل داره قهوته أو ملهاه أو ناديه، والمرأة بيتها الشارع ودينها زينتها، تتخذها لتتجمل بها للرجال الأجانب في الترام والطريق، لا لزوجها في المنزل، وآثرت على داره زيارتها وسينماها، وربما خالف الزوج إلى غير أهله، وخالت هي غير زوجها، ونشأ الولد على المجون، وشبت البنت على الاستهتار، هذا وميزان النفقات في البيت مختل، وحبل الود مصروم، والتعاون على الخير مفقود، وظل الدين غير ممدود، وما بقى من البيوت صالحاً، فإن الفساد يسعى إليه، وهو يسعى إلى الفساد!

أما المدارس، فقد كنا نعرفها مشارق أنوار العلم، ومنابع الهدى، ونعرف المعلمين فيها مربين مهذبين، ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء، ونعرف التلاميذ وهم طلاب علم وقصّاد خلق، دنياهم مدرستهم، وعملهم درسهم، وأئمتهم معلموهم، فكانت المدارس تخرج علماء ومهذبين، أصحاب خلق متين ودين، تعتز بهم بلادهم، وتسمو أوطانهم، فصار همّ التلاميذ حزب سياسي ينتسبون إليه ويصرخون في مظاهراته، ويضعون أكتافهم سلماً لزعمائه، يرتقون عليه إلى ما يشتهون من كراسي الحكم، أو نحلة ينتحلونها، ويحملون في صدورهم شارتها، ويهرعون إلى ناديها، ثم لا يفهمون من حقها أو باطلها إلا هذه المظاهر التي طلبوها لها وحدها، ثم يشتغلون عن الدرس بالخلاف عليها والكلام فيها، من غير فقه لها، أو وقوف على مبادئها، أو فلم سينمائي يحرصون عليه أكثر من حرصهم على دروسهم وعبادتهم، أو رواية في مسرح، أو صورة مكشوفة في مجلة، وصار المعلمون - أعني أكثر المعلمين - أصحاب شهادات لا علوم، ودعاة مذاهب سياسية أو اجتماعية، لا دعاة إلى الله ولا إلى الخلق، وصاروا قدوة الطلاب في قصد السينمات والملاهي، لا قصد المساجد والمكتبات، وصار منهم الشيوعي الذي يعلن شيوعيته، والقومي الذي يظهر قوميته، والجاحد الذي لا يتوارى بجحوده، والماجن الذي لا يتستر بمجونه، أي والله العظيم، ووسدت الأمور إلى غير أهلها، فجعل غير العالمين معلمين، والمحتاجون إلى التربية مربين، وتكلم في المسائل من ليس من أربابها، وتصدر في محرابها من لم يلج بابها، وجيء بالشباب العزاب ليعلموا البنات، فكنا كمن يدني سلكتي الكهرباء، حتى تنقدح شرارتهما، ويضع إلى جانبهما البارود، ثم ينام الأحمق آمناً من الانفجار، ما بقى والله إلا أن نجيء بالبنات ليعلمن الشباب، وما دمنا نمشي على هذا الطريق، فما بقى شيء عجيب، وكل آت قريب!!

اللهم ألطف بنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا، ولا تسلط علينا سفهاءنا، يا رب! أما الأسواق، فلقد كانت فيها التجارة فصار فيها الاحتكار، وكان فيها قوم منا، يجلبون لنا أرزاقنا، فصار فيها أعداء لنا، يسرقون فيخزنون أقواتنا، ليجمعوا القروش من جيوبنا فيجعلوها ذهباً في صناديقهم، ولقد انتهت الحرب، وحل السلام، ولا يزال هؤلاء الفجار الأشرار يرفعون الأسعار، ويكوون الفقراء بالنار، لا يعرفون الإنصاف ولا الرحمة ولا الإنسانية. . .

أما دواوين الحكومة، فقد نسي من فيها أنهم أجراء الناس، يأكلون الخبز من فضل أيديهم، ويجلسون مجالسهم هذه لخدمة مصالحهم، وحسبوا أنهم ملوك والناس لهم خول، وسادة وهم لهم عبيد. ثم لم يكف أكثرهم ما يأخذون من وقت من يرجع في حاجته إليهم، ومن كرامة نفسه حتى أخذوا الرشوة من جيبه، وربما. . . وربما مدوا أعينهم إلى عرضه. . . وهم بعد ذلك جيش مجيّش، نصفهم لا يحتاج اليه، ولا ينتفع به، قد جاءت به الوساطات والشفاعات، فرفعته من غير كفاية على أهل الكفايات، ومن اقتصر منهم على مرتبه ليعيش به، عاش من قلة المرتب حياة هي كالموت، ولم يكفه المرتب ثمن الخبز، فكأن الحكومة تقول لصغار الموظفين: اذهبوا فاسرقوا لتعيشوا، فإن ثمن خبزكم أعطيناه لكبار الموظفين، لينفقوه على الترف والسرف والقرف.

ثم أن العلماء، وهم عدة الإصلاح، ولسن الحق، ودعاة الله، هربوا واختبئوا في بيوتهم، فمنهم من لا يرى المنكر ولا يعرفه، ومنهم من يراه ولا ينكره، ومنهم من ينكره همساً، ومنهم من يعلن ولا يعرف الطريق الموصل إلى رفع المنكرات، ومنهم من ملأت قلبه الدنيا، فهو يسعى إليها، ويزاحم عليها، وربما اصطادها بشبكة من لحية عريضة، وقيدها بسبحة طويلة، وأخفاها تحت عمامة ضخمة، وذل من أجلها للحكام، وخضع للأغنياء، وفقد القلب الذي يقتحم الأهوال، واللسان الذي يصدع بالحق، فغدا يقول ولا يستمع لقوله، وينكر ولا يلتفت لإنكاره، وجلهم لا قلم له يخاطب به الناس، ويسوقهم به إلى الحق، ولا لسان، فكيف يكون داعياً من لا يكون خطيباً ولا كاتباً؟

والقادة ما صاروا قادة بعبقرية اختصهم بها الله، ولا بعلم اختصوا به أنفسهم، وأحيوا في تحصيله لياليهم، ولا بعقل هو فوق العقول، وذكاء لا يدانيه ذكاء، ولكنها هي حرفة احترفوها ومسلك سلكوه: زيد وعمرو، أما زيد فجد واستقام ودرس حتى أكمل المدرسة، فصار معلماً أو كاتباً، أو موظفاً. . . وأما عمرو، فأهمل درسه، وأضاع وقته، والتوى مع الطرق الملتوية، فالتحق بالأحزاب، وعاشر الأغراب، وولج حيث لا يحسن الولوج، وخرج من حيث يستقبح الخروج، ورفع ووضع، وخرب وأصلح، حتى عرفه الناس، فكان نائباً، ثم صار وزيراً، ثم تمت آثار قدرة الله القادر على كل شيء، فاستحال قائداً من القادة. . .!

والأدباء وأهل الصحف، همّ أكثرهم التزلف إلى القراء، والوصول إلى رضاهم، رأوا أقرب الطرق طريق الشهوة فسلكوه، وركبوا فيه الصعب والذلول: من الصور العارية، والقصص المثيرة، وطريق الأغراب في عرض الأخبار، وتكبير الصغير، وتعظيم الحقير، وتشويه أوجه الحقائق، فيقرأ الناشئ الشيء وضده، فلا يؤمن من بعد بشيء، وإن كان في الكتاب من يدعو إلى إصلاح، في لغة صحيحة، وأسلوب منقح، لم يقرأه إلا الخاصة، وإن كانت مجلة على هذه الصفة لم يبع منها مع كل ألف من تلك عدد واحد!

ولعلي بالغت، أو غلب علي التشاؤم، فلم أر إلا ما ذكرت ووصفت، ولكني صدقت ولم أقل إلا حقاً، ولعل الذي قلت أقل من الحق!

أن العالم اليوم واقف على مفرق الطرق، حائر بينها أيا يسلك منها، ونحن أشد أهل العالم حيرة وتردداً، فنحن في المكان الذي تلتقي فيه نحل الشرق والغرب ومذاهبهما كلها، فيأخذ كل واحد ما تصل إليه يده، ثم يصيح في الدعوة إليه، ثم يزاحم ليشق له طريقاً. . . فنحن في زحمة وضجة دونها ما يروون عن ضجة برج بابل، والله وحده يعلم عمّ تنجلي. . . ففي الدين سلفيون وصوفيون، ودعاة إلى التمسك بالمذاهب وترك الاجتهاد ونبذ التقليد، وإلى الأخذ بالحديث وترك كتب الفقه وإلى الاقتصار عليها، وفي البدع دعاة إلى القاديانية والبهائية والنصيرية والتيجانية ووحدة الوجود، وفي غير الدين شيوعيون وقوميون سوريون، وملحدون ومستهترون، ثم الدعاة إلى السفور والاختلاط، والمدافعون عن الحجاب، وفي السياسة كتلويون وعصبويون ومعارضون ومؤيدون، وعاملون للإنكليز أو للفرنسيين أو للروس، وقائلون بالجمهورية أو بالملكية، أو بالاستقلال أو بسورية الكبرى أو بالوحدة العربية، والمناقشات مستمرة لا تنقطع، والخلافات قائمة ما تقعد، قد انشقت البيوت، وانصدعت الأسر، وأني لأعرف أخوين: شيوعياً أحمر، وعضواً في شباب محمد، شقيقين في دار واحدة، وأبوهما شيخ طريقة. . . وأعرف شيوعياً وأبوه نقيب أشراف، فالإخوان في المنزل، والرفاق في المدرسة، والزملاء في الديوان، يختلفون أبداً ويتقاتلون. . .!

فعم تنجلي هذه الغمرة؟ الله وحده العالم!

هذا في دمشق، أما الحجاز ومصر والعراق، فإني أعرفها كلها وعشت فيها، ولكن ليكتب عنها كتاب من أهل مصر والعراق والحجاز، يفتح في (الرسالة) باب من أبرك الأبواب، وأكثرها فائدة ونفعاً، إذ أن أول الدواء تصوير الداء. . .!

دمشق

علي الطنطاوي