مجلة الرسالة/العدد 659/واحة كفرة

مجلة الرسالة/العدد 659/واحة كفرة



كيف احتلها الطليان وفتكوا بأهلها سنة 1930

(كيف وأن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)

(سورة التوبة)

للأستاذ أحمد رمزي

إني من القوم الذين يؤمنون بأن مصر بلادنا هي قلب العروبة. هذا ما ناديت به، وكنت أول من أذاعه من راديو الشرق أيام الانتداب الفرنسي، وأعتقد أن موقع مصر بين بلاد العرب في الجزيرة وبلاد العرب في شمال أفريقية وجنوبي وادي النيل، يجعل لها هذه الميزة، ويحتم عليها أن تحمل الأمانة التي عجز عنها غيرها، وأعتقد أن تاريخ مصر في عهدها العربي قد ألقى هذه الرسالة على المصريين، ولذلك اتجهت أنظارهم وآمالهم نحو هذه البلاد الشقيقة المحيطة بهم، وكلما مرت الأيام ازدادت النفوس اطمئنانا لمصر، وتقاربت القلوب وتماسكت واتجهت نحو حياة جديدة. ونحن الذين نشأنا على هذه العقيدة قد أشربت نفوسنا محبة هذه البقاع وتاريخها.

ومن بين دروس الماضي المملوءة بالذكريات، لا أجد درساً أشد وقعاً على نفسي، وإيلاما لها من درس احتلال الكفرة وما حل بها، يوم خرج أهلوها من أوطانهم وهم يعدون بالمئات خشية بطش الطليان وفتكهم، فأخذتهم الصحراء وماتوا في سبيل الله.

وواحة كفرة معقل من معاقل الإسلام والعروبة، في هذه الصحراء الكبرى الممتدة من وادي النيل إلى مياه المحيط، ذلك الجزء من العالم، الذي كان بوتقة تختمر فيها الدعوات والحركات الشعبية؛ التي إذا قامت اكتسحت في وجهها كل شيء، فلا تصمد أمامها الحصون ولا الأسوار، ولا تردها الممالك ولا الجيوش، ولا تقف البحار بينها وبين الفتوح، ففيها قامت دعوة أبي عبد الله الشيعي، مؤسس قواعد الملك للخلافة الفاطمية، فكان من أمرهم ما كان، ملك يطاول ملك الشمس، لا تزال آثارهم باقية ظاهرة واضحة في هذه القاهرة المعزية، التي احتضنت العروبة والإسلام لألف عام، والتي أصبحت اليوم موطن العروبة ومقر الجامعة العربي وفي هذه البطائح موطن الأسود، ظهرت دعوة المرابطين، فانتشرت وامتدت. ومن منا يجهل يوسف بن تاشفين وجهاده وحروبه بالأندلس؟ والله لو تأخر مقدمه، لاكتسح الفرنجة أرضها قبل يوم الميعاد بأربعة قرون. فبالله ما رأيك في سيف يؤخر حكم القدر أربعمائة عام؟

وعلى هذه الرمال ظهرت قوة الموحدين، وهم أناس شيدوا ملكاً وقادوا الجحافل ولهم أيام ومعارك وفتوح.

وإذا نزلت جنوباً عن الكفرة، ذكرت حركة المهدي، وهي دعوة إصلاح وإخلاص تحركت بها النفوس وآمنت، وسارت في طريقها، ولم يضعف من شأنها غير وفاة صاحبها قبل أن تثبت جذورها.

وأخيراً دعوة السنوسية وانتشارها، وافتتاح الزوايا والأربطة والعمل في سبيل الله، والدفاع عن أراضي برقة وليبيا.

إن أرض العروبة في أفريقيا، سواء في شمالها أو صحاريها أو جنوبي مصر، موطن للحركات القوية، التي تنبثق من أيمان أهليها، فتخرج إلى الدنيا، لتهز الدنيا، وتؤسس الملك وتقود الشعوب وتحرك الهمم. هذا شأن هذه البقاع منذ عرفتها العروبة وعرفها الإسلام.

فأهل مراكش في جهاد دائم منذ الأعصر الأولى، يرابطون في منازلهم ويقاتلون في سبيل الله، وما من ملحمة في تاريخ العرب بالأندلس إلا وسمعت أن لأهل المغرب لهم فيها المواقف الباسلة والأيادي التي لا تنسى.

وقس على ذلك سائر سكان هذه البلاد، كان هذا شأنهم حتى دهم الاستعمار بلادهم، فهل هبطت عزائمهم؟

إن تاريخ المغرب في قرن من الزمن، هو صفحة مجد لم تكتب ليومنا هذا، ولكنها ستكتب يوماً وسيعلم الناس من أمرهم الشيء الكثير. . .

وأعود إلى الكفرة، بقيت هذه البقعة آخر معقل للإسلام والعروبة، حتى دهمها الطليان في يوم من آخر أيام سنة 1930 فافتتحوها واقتصوا من أهلها وشردوهم، وفي طريقهم إلى واحات مصر، حلت بهم أكبر نكبة في القرن العشرين.

والآن وقد طوى حكم الطليان عنها هل عادت لأهلها؟ كلا لا تزال تحتلها جنود فرنسا، بل هناك أكثر من ذلك، فقد قرأنا أنها تطالب باقتطاع إقليم فزان وأجزاء من جنوبي طرابلس وبرقة لضمه إلى مستعمراتها. فهل سمعتم بذلك؟ وما هو موقف جامعة الأمم العربية وشعوبها؟

لم يقصر أهل الكفرة عن الدفاع عنها بأموالهم وأرواحهم بل استشهد الكثير منهم في سبيلها. . . وإليكم صفحة من آخر أيام عاشتها الكفرة وكيف استولى الطليان عليها. . .

يحدثنا الطليان في كتبهم ومراجعهم بأن جراتزياني قائدهم يعرف تماماً أن البادية بأخطارها وفيافيها كانت دائماً معقلا للمجاهدين، فكانت حكومات المستعمرين تهاب الرمال، ولذا اتخذت فرنسا وهي العتيقة في أساليبها وتقاليدها الاستعمارية واتصالها بالشعوب المظلومة، سياسة خاصة بالصحراء الكبرى، إذ أخذت تتقرب لزعماء الطوارق وتتخذ منهم أنصاراً لها.

ولكن إيطاليا الفاشستية أرادت أن تضرب للناس مثلا، وأن تقوم بأكبر العمليات الحربية في صحراء ليبيا، وأن تحرز لأسلحتها نصراً عجز الغير عن إحرازه، فتراه يتحدث مفتخراً بأن فرنسا لم تبدأ حملاتها ضد الصحراء قبل سنة 1900، حينما احتلت واحة عين صلاح، على حافة الصحراء الكبرى في الجنوب من أراضي الجزائر، أي بعد مضي سبعين عاماً من دخولهم القطر الجزائري الشهيد، واستخلص من تجارب الفرنسيين، أنهم اقتنعوا باستحالة إتمام الفتح، إذا بقوا معتمدين على كواكب الخيالة من السباهيين الوطنيين، ولذا فكروا منذ سنة 1900 في إنشاء قوة من الرجال سموها: قوات البادية وألقي عليها عبء القتال والفتح - والفضل في إنشائها وتدريبها وتكوينها يعود إلى ضابط فرنسي اسمه الماجور لابيرين.

أما الطليان فقد أخذوا بكل تجارب ودروس من تقدمهم في فن الاستعمار، ولذلك اتجهوا إلى إنشاء قوة ممتازة من الرجال، في مستعمرة طرابلس، أطلقوا عليها أيضاً اسم قوة البادية، وهي التي أشرف على تدريبها وقيادتها المرحوم الدوقا داوستا الذي أسر في الحرب الحبشية ومات باستراليا. وهذه القوة الجديدة باشرت عمليات الفتح في مستعمرتي ليبيا وبرقة، وبعد أن كانت مشكلة من فصيلة واحدة من الهجانة في سنة 1922، إذا بها مكونة من عدة وحدات وإذا بجنودها يتدربون على استعمال الأسلحة الخفيفة السريعة الطلقات.

وعلى هذه الوحدات مدعمة بسيارات النقل والطيران ألقى واجب افتتاح واحة الكفرة، والقضاء على آخر معقل من معاقل الإسلام والعروبة في الصحراء.

وكان الزحف على الكفرة من إجدابية إلى جالو، وهي تبعد (240 كيلو متراً) ومنها إلى بئر ذيجن (400 كيلو متر) ومنه إلى الكفرة (140 كيلو متراً) وتحركت الحملة في 20 ديسمبر سنة 1930 من إجدابية متجهة إلى الجنوب فقطعتها السيارات في أربعة أيام للوصول إلى جالو، وكان جراتزياني قد زار إجدابية في 25 نوفمبر سنة 1930 متفقداً المعسكرات، فوجد أن الحملة تجهز في أقرب وقت، وقد ذكر في تقاريره، أنه وازن الأمور والمصاعب وقدر لكل شيء ما يلزمه، وذكر أن الحملة بأكملها دربت تدريباً شاقاً بحيث يكون بوسعها أن تنزل أثقالها في 20 دقيقة وترفعها للسير بها بعد مضي نصف ساعة من صدور الأمر إليها بالسفر.

وذكر أنه في ليلة 28 و29 ديسمبر سنة 1930 هبت عليها ريح صرصر عاتية محملة بالرمال فأخفت كل شيء أمامها، حتى فكر الجنرال الإيطالي في إصدار أمره بالعودة، حينما امتنعت الجمال والدواب عن العليق والماء، وأعقب ذلك زمهرير قارص. ولكن جاء يوم 30 ديسمبر هادئاً صحواً، فأنتهز الفرصة وأصدر أمره الحاسم بالسير إلى الجنوب حتى لا تفلت الفريسة من يده.

وكان المرابطون بتلك الجهات حفنة من الرجال، هم بقايا الأمم والممالك التي سادت الصحراء، ليس أمامهم إلا المقاومة في بئر زيجن، أو على الطريق، أو الوقوف للدفاع عن الكفرة، وكانوا يعتقدون أن الطليان سيأتون من الغرب عن طريق فزان، أما جراتزياني فاستعان بسرب من الطائرات للاستكشاف، ثم أصدر أمره إلى فصيلتين من قوات البادية أن تتقدم كل واحدة منهما في طريق يفصلها عن الأخرى ثمانون كيلو متراً، فالتقت إحداهما بالمجاهدين واشتبكوا معها في قتال دام ثلاث ساعات، واقتحم الطليان الواحة على أجساد الشهداء.

ويهلل القائد بأن قواته دخلت في الموعد الذي سبق له أن حدده على خريطته. . .

وانتهت بذلك آخر مأساة في تأريخ الاستعمار الإيطالي بالصحراء

أحمد رمزي القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان