مجلة الرسالة/العدد 66/الشريف الأدريسي يضع أقدم وأصح خريطة

مجلة الرسالة/العدد 66/الشريف الأدريسي يضع أقدم وأصح خريطة

مجلة الرسالة - العدد 66
الشريف الأدريسي يضع أقدم وأصح خريطة
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 10 - 1934


3 - الشريف الأدريسي يضع أقدم وأصح خريطة جغرافية للدنيا القديمة

للأستاذ محمد عبد الله ماضي عضو بعثة تخليد ذكرى الإمام محمد

عبدة بألمانيا

تتمة

13 - الأستاذ كونراد ميللر يُعنى عناية خاصة بدرس خريطة

الإدريسي وطبعها طبعة ملونة لأول مرة.

لم تخف قيمة هذه الخريطة العلمية والفنية على علماء الجغرافيا المستشرقين، فالكثير منهم قد اشتغل بدراستها في مختلف العصور، وكلنهم شغلوا أنفسهم بنواحي خاصة منها، ولم يجر واحد منهم بحثا شاملا مستقصيا مع اعترافهم جميعا بمنزلتها وتقديرهم لها.

ومازالوا على طريقتهم هذه ولم يخرجوا عنها إلى أن أتى

الأستاذ كونراد ميللر فأجرى عن هذه الخريطة البحوث

المستفيضة وكتب عنها الفصول الطوال التي استغرقت أعداداً

كاملة من مجموعته العربية تلك المجموعة التي ضمنها

أبحاثه في الجغرافية العربية، ثم توج هذا العمل الجليل الذي

نشكره عليه ونقدره له بطبع الخريطة سنة 1928 لأول مرة

طبعة ملونة. أبرزها في تلك الحلة الفاخرة المتناسبة الأجزاء،

فدل على المدن بدوائر ملونة باللون المذهب، ورسم الأنهار

والبحيرات بلون أخضر فاتح، والجبال بألوان مخت وأصفر وبنفسجي إلى جانب بعضها، كل هذا فوق أرضية

فاتحة اللون تدع نفسها متميزة بوضوح عن لون البحار

المدلون عليه باللون الأزرق السماوي المموج بخطوط رفيعة

بيضاء، كما أنها تساعد على تحديد المسالك بعضا عن بعض

بسهولة. ولقد كتب أسماءها بحروف لاتينية مميزاً الأقاليم

السبعة بخطوط رفيعة حمراء وجعل طولها مترين وارتفاعها

متراً تقريباً. وبهذا تكون مساحتها 47 مساحتها الأصلية التي

قدمنا أنها كانت بطول ثلاثة أمتار ونصف متر، وارتفاع متر

ونصف متر تقريباً. وهذا وقد يظن أن المساحة الأصلية كانت

كبيرة بشكل زائد على اللزوم، ولكن سوف يتلاشى هذا الظن

إذا علمنا أنها تتضمن من أسماء المدن فقط التي كانت مائجة

بالعمران في ذلك العصر 2064 اسماً: (365) بأفريقيا،

(740) بأوربا، (959) بآسيا، ويوجد بين هذه الأسماء كل

أسماء المدن الشهيرة المهمة في ذلك الوقت.

قبل هذه الطبعة لم تكن الخريطة موجودة بشكل تام مشتبكة الأجزاء بعد فقدان الأصل للخريطة الحائطية، وإنما كانت موجودة في قطع متفرقة داخل كتاب نزهة المشتاق أو مستقلة بذاتها. ومجموع هذه القطع الموجودة إلى الآن منها يبلغ 255 قطعة كما ذكر الأستاذ ميللر، توجد بمكاتب باريس وأكسفورد وأستانبول وليبننجراد والقاهرة؛ وكانت هذه القطع من الأصل الذي طبع عنه الأستاذ ميللر تلك الطبعة التي بين أيدينا.

وهناك خريطة أخرى تدعى الخريطة الإدريسية الصغيرة طبعها الأستاذ ميللر كذلك في مجموعته، وهي ليست لصاحبنا الإدريسي وإنما هي لابنه محمد وضعها سنة 1192، واسمها روض الفرج. ولقد وجدها بعض الباحثين كذلك في أستانبول في 73 قطعة، وإذا وازنا بينها وبين خريطة والده فأننا نجده قد أخذها صورة طبق الأصل عنها بشيء يسير من التغيير، ومع هذا فقد فاتته عناية والده في الرسم.

14 - خريطة الشريف الإدريسي اقدم خريطة عالمية يعرفها

التاريخ. موازنات بينها وبين بعض الخرائط وباق مميزاتها.

بقى أن نذكر مع الفخر والإعجاب أن الخريطة الإدريسية أقدم خريطة عالمية صحيحة كبيرة مفصلة وموضوعة بغاية الضبط والإتقان والوضوح عرفها التاريخ إلى الآن. نعم لقد وصل إلى أيدي علماء الجغرافيا خريطة من عهد قياصرة الروم لها من العمر ضعف ما للخريطة الأدريسية وهي خريطة (بويتنجر) التي وضعت في عام 365 بعد الميلاد، ولكنها ليست خريطة عالمية للدنيا القديمة كخريطة الإدريسي، وإنما هي خريطة لبيان طرق المواصلات فقط، فضلا عن أن المدن والمحطات التي ذكرتها أصبحت كلها أنقاضاً لا يعرف لها أثر، فالناظر إلى هذه الخريطة وإنما يستطيع أن يتصور موضعها بالتقريب. وإما خريطة الإدريسي فهي فوق كونها عالمية تمثل الدنيا القديمة، وبالرغم من أنها تبلغ من العمر نحو ثمانمائة سنة فكل المواضع التي ذكرتها يستطيع الباحث أن يعثر عليها ويتثبت منها إلى الآن، ومازال أغلبها يعرف بنفس الأسماء التي ذكرها الإدريسي إلى يومنا هذا. نحن لم نرث من العصر القديم خرائط جغرافية عالمية وإن كان قدماء اليونان قد وضعوا خرائط من هذا النوع مبنية على طريقة فلكية متقنة، وأشهرها خريطة الدنيا لبطليموس التي تزيد على خريطة الإدريسي بألف سنة في القدم، ولكنها ليست خريطة للدنيا بالمعنى الذي نعرفه ولا على منهج خريطة الإدريسي تبين الممالك ومواقعها إلى آخر ذلك، وإنما هي خريطة للدنيا بمعنى أنها تعطي نظرة عامة فقط في الدنيا القديمة وتبلغ مساحتها 35 سنتيمتراً في 52 سنتيمتراً. هذه الصورة التي أعطتها خريطة بطليموس ظلت معتبرة في بلاد الشرق والغرب إلى آخر العصر المتوسط. ولقد اخذ الإدريسي حدودها واستعان بها عند وضع خريطته، ولكن من حسن الحظ كما عبر الأستاذ ميللمر أن الإدريسي قطع النظر بالكلية عما احتوته خريطة بطليموس بعد الصورة والتحديدات العامة تنفيذا لأمر رجار الثاني، نقول من حسن الحظ لأن الأسماء التي ذكرها بطليموس في خريطته على كثرتها غير مطابقة للواقع بأكثر من 1 % مع التسامح في هذا النسبة، وكذلك درجات العرض والطول المثبتة في خريطة بطليموس تختلف عن الحقيقة بمئات من الأميال، لهذا كان من الحكمة والسداد قطع النظر عما أثبت في تلك الخريطة بالكلية، وكذلك فعل الإدريسي ووصل بمجوده المستقل إلى أن يعطينا صورة صحيحة مطابقة للعصر الذي عاش فيه بما لا ينتظر خيراً منه. الأمر الذي جعل لتقسيمات الممالك في الخريطة الإدريسية وللتقسيمات السياسية على الإطلاق قيمة علمية فائقة. نعم أظهر بطليموس مقدرة العالم الفلكي عند وضعه لخريطته في الوقت الذي أثبت فيه درجات العرض والطول بناء على حساباته العلمية المبنية على القواعد بمقدار لم يصل إليه الإدريسي، ولكن هذا لا يغنيه شيئاً بجانب عدم التحري للحقيقة. وعند الموازنة بين خريطته وبين خريطة الإدريسي نجد أن بطليموس اثبت خطوط العرض والطول معاً ولكنها تختلف عن الواقع بشكل غير مقبول. أما الإدريسي فأنه اثبت درجات العرض فقط ولكن بعد قياسات صحيحة، فهي مطابقة للحقيقة بمقدار يدعو المقدر للخريطة الإدريسية علمياً إلى أن ينظر إليها بعين الإكبار والإجلال. وأما خطوط الطول فقد ترك إثباتها الإدريسي عن قصد، إذ تبين له أن مقادير المقاييس التي وصلت إليه غير صحيحة، ولأنه لم يتيسر له بعد هذا إجراء قياسات أرضية لبيان درجات الطول وقياس الكرة السماوية، وإن كان في الاستطاعة فانه لا يعطي نتيجة مقطوعاً بها.

هناك خريطتان أخريان

(1) خريطة نسبة للدير الذي وجدت فيه بمدينة هانوفر من أعمال ألمانيا.

(2) خريطة التي وجدت بإحدى كنائس هرفورد بإنجلترا.

وهاتان الخريطتان بالرغم من أنهما وضعتا بعد الخريطة الإدريسية بمائة سنة فلم تكونا عملاً علمياً، وإنما كانتا عبارة عن تخطيطات زخرفية كما عبر الأستاذ ميللر، تمثلان شيئاً من العصور السابقة لعصرهما، غير محتويتين إلا على شيء يسير من الجغرافية المعاصرة لهما.

لعل القارئ يتساءل الآن عن مقياس الرسم للخريطة الأدريسية، وهنا أقول إن مقياس الرسم بالمعنى الحديث الذي نعرفه والذي بمساعدته يستطيع الإنسان أن يعرف مساحة جهة من الجهات بقياس مساحتها فوق الخريطة، مقياس الرسم بهذا المعنى لا نجده في خريطة الإدريسي، وهو طبعاً لم يوجد في جميع الخرائط القديمة، وإنما وجد بعد وضع خريطتنا بمئات السنين. على أن الإدريسي قد أشار إلى طريق الوصول إلى معرفة مثل هذا المقياس الحديث. الإدريسي ذكر درجات العرض وقدر الدرجة بخمسة وعشرين فرسخاً، والفرسخ بثلاثة أميال، وعليه فالدرجة 75 ميلاً، ولكن الذي لم يذكر قدره الإدريسي هو الميل، فان قدرنا الميل بما كان معروفا عند الروم وهو كيلو متر ونصف تكون الدرجة مقدرة عنده بـ 112. 5 كيلو متر، وبهذا يكون الإدريسي أعطانا مقياس الرسم لخريطته بشكل واضح.

في الختام أريد أن أذكر لحضرات القراء بعض المميزات التي تزيد في قيمة الخريطة الإدريسية، وقيمة شرحها نزهة المشتاق:

(1) تجنب الإدريسي ذكر الخرافات التي كانت شائعة في العصر المتوسط، والتي تورط في ذكرها غيره من المؤلفين. ولقد كان من حنكته أنه إذا ذكر شيئاً خارجا عن حدود العادة نسبة إلى ناقله، ثم أعقبه بكلمة احتياط كقوله: والقادر على كل شيء أعلم بما في هذا من الحقيقة. ولم يرسم ما كان شائعاً رسمه عند علماء الجغرافية مما يمثل الغرائب الخرافية، وطبعاً كان لتعاليم الإسلام الفضل الأكبر في هذا.

(2) انفردت خريطة الإدريسي بأنها هي الخريطة الوحيدة التي تعطينا صورة صحيحة عن البلاد الواقعة حول البحر القزويني وصحراء العجم في مدة من الزمن تبلغ نحو قرن، هذه المدة التي لولا خريطة الإدريسي لظلت حلقة مفقودة في تاريخ هذه البلاد.

(3) إن خريطة الإدريسي وحدها هي التي مثلت لنا دولة الإسلام العربية وهي في عصرها الذهبي، تلك الدولة التي كان حظها حظ المائدة الفضية التي علم خبرها والتي قضى عليها في وقت وجيز على يد التتار والمغول. فما لم تصل إليه يد جنكيز خان بالتدمير من المدن الغربية وحضارتها إلى عام 1219 ميلادية صعقته يد هولاكو التتري يوم ضرب العواصم الإسلامية، وترك جنوده يعيثون في بغداد فساداً في فبراير سنة 1258 سبعة أيام كاملة، قتلوا فيها أهلها، وخربوا عامرها، وحرقوا كتبها أو أغرقوها.

ومن هذا الوقت تغيرت العواصم، وتبدلت الأسماء وخلفت الدولة العربية دول المغول والأتراك، وأخذت الخرائط التي وضعت بعد ذلك وجهاً آخر جديداً. فالخريطة الإدريسية إذن هي آخر تمثال لدولة العرب الغابرة يلهمنا العظة ويحدثنا عن فتوحهم وعن مجدهم وفخارهم بأنصع عبارة وأجلى بيان.

وإنني في الختام أدع الحكم على قيمة هذا العمل العلمي الكبير، وعلى مجهودات الإدريسي ورجار المشكورة لرجل خبير درس الخريطة وشرحها (نزهة المشتاق) دراسة وافية، لرجل لم يجر في عروقه الدم العربي، ولا مجال لاتهامه بالتحيز في حكمه، ذلك هو الأستاذ (كونراد ميللر) إذ يقول في آخر بحث أجاره لشرح الخريطة ما معناه: (إن رجار الثاني والإدريسي بوضعهما لهذه الخريطة قد وضعا أهم حجر أساسي في تاريخ انتشار العلم الإنساني) واليكم عبارته بالنص الألماني:

, , ,

أما كلمتي أنا فأني أوجهها إلى ورثة الأمة العربية، وأخص شباب مصر الناهض وأبناءها البررة العاملين، أوجهها إلى هؤلاء جميعاً بعد أن نشرت بين أيدي القراء صحيفة ناصعة من صحائف أسلافنا الأمجاد، وبعد أن عرضت عليهم بعض ما يجعلنا نعتز بتاريخنا، ونفخر بماضينا، وأناشد هذا الشباب المصري ليجدَّ في العمل كل في ناحيته راجياً أن نوفق في مسعانا، ونربط حاضرنا بماضينا لنصل بوطننا العزيز بمشيئة الله وعونه إلى مكانه الذي أخذه فوق ذروة المجد، وعلى قمة العلياء تحت قيادة مليكنا المحبوب قائد النهضة وحامل لوائها في مصر والشرق.

محمد عبد الله ماضي