مجلة الرسالة/العدد 660/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 660/الكتُب

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 02 - 1946



رأى معالي عبد العزيز فهمي باشا في كتاب:

اللغة والمجتمع

تأليف الدكتور علي عبد الواحد وافي

(تفضل حضرة صاحب المعالي الأستاذ الجليل عبد العزيز

فهمي باشا فأرسل إلى الدكتور علي عبد الواحد وافى رأيه في

كتابه (اللغة والمجتمع):

تفضلتم فبعثتم إليَّ بكتابكم (اللغة والمجتمع)، فتناولته مسروراً شاكراً، ثم قرأته بكل عناية واهتمام. وقد وجدتكم تناولتم فيه موضوع تطور اللغات وبحثتموه لأمن (كل أطرافه) كما يقول الأدباء، بل فليتموه وفحصتموه من (شوشته إلى قدمه) كما يقول أهل قريتنا. ولقد نهجتم في عرضه طريقة البيان السهل الممتع الممتنع، وزدتم التنوير والإيضاح بما تزيدتم من التشقيقات والتفريعات، وبما ضربتم الأمثال من ماضي اللغات وحاضرها وقاصي البيئات ودانيها، وانتهيتم من استدلالاتكم القيمة إلى تقرير تلك الحقيقة الأبدية وهي: (أن اللغات وما يتفرع عنها من اللهجات كانت وما زالت ولن تزال في تطور مستمر، وأن هذا التطور قانون ثابت يجري مجراه ويأخذ حكمه حتماً كلما توافرت دواعيه وعوامله، وأن هذه الدواعي حاصلة لا محالة وإن أبطأ ظهورها حيناً طويلاً أو قصيراً). وأن هذا القانون - الذي حصَّلتُ بيانَكم إياه بالعبارة السابقة - هو قانون عام ما شذت ولا تشذ عنه أية لغة من لغات العالم قديمها وحديثها. فهو متمش على العربية كما تمشى من قبل على اللاتينية وغيرها، وكما هو متمش وسيتمشى حتماً على الألمانية والفرنسية والإنجليزية وغيرها.

كل هذا يا سيدي من جانبكم كلام صحيح معقول مقبول رضى الناس أو أبوا؛ فإن القوانين الاجتماعية لا تعرف المحاباة، ولا ترعى لبني آدم حرمة ولا عاطفة ولا شعوراً، بل هي كقوانين الطبيعة من نشوء وشباب وهرم وموت، تسري على الناس كافة بغير تفريق بين أجناسهم ولا دياناتهم ولا لغاتهم.

وأكرر أن هذا خلاصة رأيك، وهو حق كل الحق، وجميل كل الجمال.

غير أنني لاحظت أنك، وأنت في معرض الكلام على اللغات وتطورها، قد تعرضت - وبحق - إلى رسم كتابة اللغات. وهنا أشرت - فيما أشرت - إلى شكوى الناس قديماً وحديثاً من رسم الكتابة العربية. ولكن سعة علمك، وجميل منطقتك، وسلامة ذوقك، كل هذا أبى عليك إلا الاحتراس في التقرير، فقلت في آخر صحيفة 38: (ولكن الرسم العربي ليس في حاجة إلى كثير من الإصلاح، فهو من أكثر أنواع الرسم سهولة ودقة وضبطاً في القواعد، ومطابقة للنطق).

بقطع النظر عن سلامة القول بأن في رسم العربية دقة وضبطاً في القواعد ومطابقة للنطق، أو عدم سلامته، فمن رأيك أن هذا الرسم محتاج للإصلاح، ولكن لا لكثير من الإصلاح. ما هو هذا الإصلاح الذي يستلزمه رسم العربية قلَّ أو كثر؟

إن سيدي الأستاذ يعلم حق العلم أن الشكوى من رسم العربية ليست آتية من جهة أن أهلها يصعب عليهم إخراج نغماتها الصوتية، فإن كل الأطفال الذين يقرءون شيئاً من القرآن الكريم بكتاتيب القرى، وكل أطفال المدارس الأولية يعرفون كيف ينطقون نغمات الثاء والجيم المعطشة والذال والظاء والقاف، تلك النغمات الخمس التي ليست أصيلة ولا عامة عند أهل اللهجات العربية البعيدة عن الفصحى. أما سائر حروف الفصحى كالباء والتاء والحاء والخاء والدال والراء. . . إلى آخر الأبجدية، فنغماتها يعرف المصري وغير المصري من أهل البلاد العربية أن ينطق بها نطقاً لا شائبة فيه، بلا فرق في هذا بين متعلم وأمّي. لكن هذه النغمات ليست هي اللغة العربية الفصحى المراد خدمتها، وإلا لما تعذرت على أحد. بل الفصحى هي هذه النغمات موجهة في الكلمة الواحدة توجيهات مختلفة يقوم بها في اللغات الأجنبية حروف الحركات ولا يقوم بها عندنا إلا الشكل الذي أفلس. هذا هو موطن الصعوبة عندنا ومثار الشكوى. وما يهم فيما يتعلق بنا أن تكون كتابة اللغات الأجنبية فيها مساوئ أو لا يكون، إنما الذي يهمنا هو رسم كتابتنا دون غيرنا. فعندما تقول إن رسم العربية هو من أكثر أنواع الرسم (سهولة ودقة وضبطا في القواعد ومطابقة للنطق)، اسمح لي أن أقول إن هذا لا يطابق الواقع إلا من جهة السهولة أي الاختزال المخل فقط. أما من جهة الدقة وضبط القواعد والمطابقة للنطق، فإن هذا تجوّز في التعبير.

إذ معنى الكلمة العربية لا يتأدى بمجرد نغمات الحروف، بل هذه النغمات محركة في اتجاهات مختلفة. وهذا الغرض لا يؤديه الرسم العربي مطلقاً، أو هو يؤديه ويؤدي كثيراً غيره في آن، مما يوجب التشوش والاضطراب. وهيهات أن يسعفنا هذا الرسم العاجز، ولو أضيف إليه الاضطلاع المتين بقواعد اللغة من صرف ونحو وغيرهما - وما تقوله في صدر صحيفة 39 مما حاصله أن لجمود الرسم فائدة تخليد ما خلّفته قرائح أهل اللغة من الآثار، فاسمح لي أن أقول إن هذا كلام جيد معقول، ولكن على شرط واحد وهو أن تكون هذه المخلفات ممكناً لأي عارف بالقراءة والكتابة أن يقرأها على الوجه الذي أراده واضعها. وما أظن السيد يعارض في هذا الشرط أو يرى سهولة تحققه، خصوصاً مع تطور اللغة وعدم استقرارها على حال واحدة، ذلك التطور الذي وضع كل كتابه لبيانه. وإذن بقينا مرتطمين بالصعوبة التي نحن فيها الآن.

لا أريد أن أقول إن حضرة الأستاذ الفاضل يستعمل في عرض أفكاره القيمة التَّقِيَّةَ التي طالما استعملها الجاحَظ وغيره من كبار السلف المحترمين، بل كل ما أريد أن أقوله للسيد هو أني أنست كثيراً بكتابه وفرحت بسعة علمه. وإني أرجو الله أن يكثر من أمثاله وأن يوفقه في عمله ويأخذ بيده فيه، والسلام مع أوفى الشكر والاحترام.

عبد العزيز فهمي