مجلة الرسالة/العدد 660/دمعة. . .

مجلة الرسالة/العدد 660/دمعة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 02 - 1946



على مساجد الفسطاط وآثاره

للأستاذ أحمد رمزي

كانوا مصابيحاً لدى ظلم الدجى ... يسري بها السارون في الإدلاج

كانوا ليوثاً لا يرام حماهم ... في كل ملحمة وكل هياج

فانظر إلى آثارهم تلقى لهم ... علماً بكل ثنية وفجاج

نشرت مجلة الإخوان المسلمين كلمة في عددها الماضي تتلخص في أن أحد النواب صرح بأن في مصر القديمة ثمانية أديرة وكنائس عدة، تقابلها مصلاة واحدة من الطين والبوص على شاطئ النيل وقد اهتمت السلطات لهذا الأمر.

وأبدأ حديثي بأن أشكر إخواننا المسيحيين من مختلف طوائفهم ومللهم أن عرفوا كيف يحفظون آثارهم ومعابدهم وهي حق لهم ومفخرة لمصر؛ وأجزل لهم الشكر والثناء لأنهم بعملهم هذا وسهرهم على تراث آبائهم والمحافظة عليه قد ألقوا علينا درساً مفيداً نحن معاشر المسلمين في القرن العشرين.

ولا أجد ما أعبر عنه للسلطات إذا صدق ما قيل من اهتمامها لهذا؛ فإن هذه الحمية لدليل على وعي قومي ويقظة لم نعهدها من فبل؛ ولذلك نؤمل وننتظر أن تتبع هذه الحمية أو هذه البادرة الطيبة بالعمل الصالح الجريء النافذ؛ فتعيد لهذه البقعة بعض ما اندرس من آثارها ومفاخرها.

ولقد أثارت هذه الكلمة الكثير من شجوني وآلامي، وأعادت إلى ذكرى الماضي العربي في أجلي مظاهره؛ فعدت لنفسي ورجعت إلى الوراء، وتذكرت ما قرأته وسمعته عن عهود كانت فيها هذه البقعة من الأرض عامرة بمساجد الله وبالآثار الإسلامية؛ فعلمت كيف نزلت بها القبائل العربية أيام الفتح الإسلامي، وكيف استوطنتها واتخذت فيها الخطط والمنازل وكيف أصبحت اليوم خالية خاوية.

فمن المسؤول عن هذا الخراب الشامل، وهذا الدليل الذي نعيش فيه؟

إن تحميل الزمن وأحداثه كل العبء من الأخطاء والأرزاء التي نعانيها أمر سهل؛ ولكنه لا يتفق مع الحياة؛ والأمم تحيى وتتغلب بحيويتها ونشاطها وتصميمها وعنادها على حوادث الزمن ومصاعبه؛ ولذلك فإني أحمّل المسلمين في مجموعهم مسؤولية هذا العبث بآثارهم، لأنهم جهلوا ماضيهم وآباءهم وأجدادهم وتهاونوا في أمورهم لما تنكروا لأصولهم وأمجادهم، وتناسوا منزلة دينهم وأثره في شؤون العالم، فحقت فيهم كلمة التنزيل (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها).

وقلت أين علماء الإسلام؟ ما لهم لا يقومون بأداء الأمانة التي في أعناقهم فيعلمونا ما نجهل من أمرنا وأمر ديننا وشؤون من تقدم منا؟ لقد قرأنا عن السلف الصالح من رجال الدين ممن حملوا رسالة الشافعي وغيره من أئمة المسلمين طول القرون الماضية أنهم قوم جاهدوا في الله خير جهاده؛ بذلوا أنفسهم في سبيل العلم، والبذل في سبيل العلم بذل في سبيل الله، وكانوا أشداء إذا اقتنعوا بالحق فجهروا به، رحماء بين أنفسهم ومع الناس.

فأين جهودهم وأين علومهم وهم أولى الناس، أن نتلقى دروس الماضي عنهم؟

والآن قف بالله على أرباض الفسطاط ومنازل العروبة الأولى وموطن الإسلام أيام الفتح! ماذا نرى؟ أطلالا وراء أطلال، وكانت هذه الجهة عروس الدنيا. إنني أنظر إلى وصف الأقدمين لها، وأرجع إلى ما كتبه المقريزي والسيوطي وابن دقماق وغيرهم وإلى علماء المزارات، فأشعر بالحسرة تملأ نفسي وتحزّ في قلبي. وأعود إلى الخرائط الحديثة والقديمة وإلى وصف الرحالين لهذه البقاع فلا أعثر على ضالتي، وإلا فاعلمني أين جامع الفتح مثلاً، بل وأين جامع راشدة؟

لقد كان موقعه بين دير الطين والفسطاط، في خطة راشدة وهي قبيلة من قبائل العرب وبطن من لحم، نزلوا هناك عند الفتح، وأنشأوا لهم جامعاً، ثم عاد الحاكم بأمر الله فجدده وعلّق فيه قناديل من فضة، وعمّر بعد ذلك مراراً؛ وكان يمتلئ بالناس لكثرة ما حوله من السكان. هذا هو قول المقريزي، فانظر ما يقوله على مبارك باشا في خططه، وقد زال هذا الجامع ولم يبق له من أثر.

أما جامعنا العتيق وهو جامع عمروا فباق مع الزمن، يحدّث عن أمجاد العروبة والإسلام، وقد فكر المغفور له الملك أحمد فؤاد الأول طيّب الله ثراه أن يعيده إلى سابق مجده، متخذاً في ذلك سنة من تقدمه من ملوك الإسلام في مصر، وعملت له مسابقة دولية، فمتى يتم هذا العمل الجليل وأراه يتألق في مجده القديم، وأمتع ناظري بلوحة من الرخام وقد نقشت عليها بحروف ذهبية كلمات عمرو بن العاص في إحدى خطبه حينما قال لأهل مصر:

(إعملوا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، تتجه قلوبهم إليكم وتتشوق إلى دياركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية) وكانت خطبته بجامع عمرو

واستشهد بما سمعه عن الرسول صلوات الله عليه إذ قال:

(إذا فتح الله عليكم مصر فأتخذوا فيها جنداً كثيفاً فذلك الجند خير أجناد الأرض) فمتى يتم ذلك وتعمر الأحياء حوله، وتعود أيام المسجد العتيق فتمتلئ رحباته بالمصلين يوم الجمعة؟ وهو الذي يمثل وحده إذا ذكر، أمجاد مصر وأياديها في خدمة الشريعة ونصرة دين الله، وهو الذي سطع نجم الشافعي فيه، والإمام مفخرة من مفاخر مصر العربية في الماضي، وموضع اعتزازها في الأجيال القادمة بإذن الله.

وذكر صاحب النجوم الزاهرة أن الملك المعزأيبك، وهو أول ملوك الدولة التركية بالديار المصرية والشامية، أنشأ المدرسة المعزية على النيل بمصر القديمة ووقف عليها أوقافاً، وكان مدرسها القاضي برهان الدين الخضر ابن الحسن السنجاري. فأين الآن هذه المدرسة الإسلامية؟ ولماذا لا تعاد إلى مكانتها من العز السالف، كما أعزها منشئها وبانيها؟

لئن قلت موارد وزارة الأوقاف ونضبت، فهل أعلنت أن المدرسة في حاجة إلى المال فقبض الناس أيديهم عنها، وبخلوا بأعطياتهم وتبرعاتهم ليعيدوا أثراً لهم من آثار السلف الصالح يقيمون فيه شعائر الإسلام ويفخرون به.

وكان على شاطئ النيل الجامع الجديد الناصري، أنشأه الناصر محمد سنة 712 هجرية وكانت له أربعة أبواب وفيه مائة وثلاثون عموداً وكان بمصر القديمة، ووصفه المقريزي وصفاً دقيقاً وقال (تولى الخطابة فيه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة الشافعي، ورتب في إمامته الفقيه تاج الدين بن مرهف). وكان الملك الناصر محمد قلاوون ملكاً ملء عين الزمن، وكان أئمة الدين وعلماء الإسلام وقضاتهم يتقربون إلى الله بخدمة الشعب والامتزاج به ورعايته كما رعى أنبياء إسرائيل خراف إسرائيل الضالة، ولم تكن أخذتهم الأنفة وعلو علواً عظيماً، فوجدوا كبيرة على أنفسهم، إذا تولوا الخطابة والإمامة بمساجد الله، وقد كان الملوك والخلفاء والعظماء يتولونها في السابق، وكان النبي يؤدي رسالته بالمسجد ويقوم بين الناس إماماً وخطيباً.

وأعود لمسجد الناصر فهل تعرفون له مكاناً فتدلوني عليه؟ من أستملك أرضه واستحلّ بنائها؟ وأين أنقاضه وحجارته؟

وتعال معي إلى أثر النبي، وهي التي يريدون برغم أنف الزمن، تعويد الناس أن يطلقوا عليها اسم الساحل القبلي، وابحث عن رباط الآثار النبوية، تجده لا يزال قائماً، ولكن لو كان ملكاً لطائفة من طوائف الأديان الأخرى، سواء أقلت أم كثرت، هل ترضى لنفسها أن تتركه على مثل حالته؟ وهل يليق بدولة إسلامية عربية أن تترك هذا الأثر الإسلامي المنسوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام على ما هو عليه، وهو أول مسجد يقابلك وأنت تدخل القاهرة من الجنوب؟ ذكره القدماء وأشاروا إلى الآثار النبوية التي كانت مودعة فيه وإلى تبرك الناس به. وقال المقريزي إنه أدرك لهذا الرباط بهجة وللناس فيه اجتماعات، وقال إن سلطاننا الملك الأشرف شعبان تغمده الله برحمته، قرر فيه درساً للشافعية وكانت به خزانة كتب عامرة.

وهذه الآثار النبوية هي التي أوحت بالشعر لكثير من شعراء ذلك العهد ومنهم خليل بن أيبك الصفدي فقال:

أكرم بآثار النبي محمد ... من زاره استوفى السرور مزاره

يا عين دونك فانظري وتمتعي ... إن لم تريه فهذه آثاره

فهل فكر أحد من الناس أن يعاد ترميمه وأن ترجع آثار النبي إليه؟ وأن تزرع حوله حديقة على النيل، وأن ترد إليه مكتبته، والكتب رخيصة الآن؟ وأخيراً درس الحديث في هذه البقعة ما أجمل وقعه على النفس!

هذه مصر القديمة أو العتيقة أو الساحل القبلي، لماذا لا نعيد إليها اسم الفسطاط الذي عرفت به وعرف بها طوال القرون الماضية، ونعيد اسمي العسكر والقطائع للجزء الشمالي منها؟ فنقول قسم الفسطاط بدل مصر القديمة، ومحطة الفسطاط ونضع مشاريع الإصلاح بشرط ألا نمس القديم، ونتخذ فيها ما يحفظ الباقي منه.

إنني أرسلها كلمة حق في سبيل الله، لأنها في نظري البقعة الطاهرة ذات التاريخ التالد، أبينا أم رضينا، إذ يقع بينها وبين قرافة الإمام الشافعي مئات من المزارات والقباب والقبور والآثار التي تستحق عناية المسلمين ويقظتهم وانتباههم. وسيكون من نتيجة الوعي القومي العربي، العود إلى الماضي، وسيؤوم هذه الجهة عالم الآثار للبحث عن آثارها وما ترك السلف، ويأتيها عالم المزارعات لتحقيق موضع قبر من قبور العلماء أو القضاة أو الأولياء، ويجئ إليها المؤرخ المولع بتتبع حوادث الفتوح الإسلامية والعصور الأولى من الهجرة، فهل تترك هذه الجهات كما هي عليه الآن بغير حمايتها ممن يهدمون الأنقاض وينقلون الأسمدة، وهل ضاقت مصر القاهرة بضواحيها وبيدائها، فلم تجد للمدابغ والمذابح ومخامر الأسمدة غير بقعة الفسطاط وجوار جامع العسكر ودار الإمارة؟ بالله زر هذه الأماكن وتأمل ثم احكم معي وضم صوتك لصوتي لتقول:

إن أشنع تحقير لعصر الفتح الإسلامي وللمسلمين وكرامتهم وعزتهم في القرن العشرين بقاء هذه الحالة في جهة تتصل بماضيهم كما هي في الوقت الحاضر.

وأعود لما كنت فيه، إننا سنجد هناك ما يدعو الواجب الإسلامي والعربي إلى إعادته كما كان في أوج عظمته ومجده، مثل جامع عمرو وجامع العسكر ورباط الآثار والمدرسة المعزية، ومنها ما يكتفي بالمحافظة عليه انتظاراً لمجهود الأجيال القادمة، ومنها ما اندثر مع الزمن فيجب تحقيق موضعه، وبناء نصب يذكرنا به. ولقد سمعت من بعض الجهات أنها تطلب مليوناً من الجنيهات لتصرف على تحسين أماكن الآثار القديمة بالوجه القبلي، فهل فكر أحد في الفسطاط، إنها المدينة التي خرجت من تحت الأنقاض، أنفقوا عليها جزءاً من أجزاء هذا المبلغ الضخم لتكون فرجة لمختلف الفرنجة من السائحين إذ فيهم من يشتاق لرؤية آثار العرب ويقدر ذوقه آثارهم إن لم نقدرها نحن.

ونحن لا نبالي بذلك، بقدر اهتمامنا بالشعب المصري الذي يطالب بما يذكره بماضيه وانحداره من تلك الأصول الثابتة. إن وراء الآثار الإسلامية مجداً وقوة، إذ تلمس من أبنيتها صولة تملأ النفس، وعظمة تخلق جيلاً من الناس، سيسلك حتماً مسلك السلف الصالح من المسلمين. وإياك أن ننسى فتصدق فينا الآية الشريفة بصورة الأنعام:

(فلما نسوا ما ذُكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون).

أحمد رمزي

القنصل العام السابق بسوريا ولبنان.