مجلة الرسالة/العدد 661/آمال نزكيها صحائف مطوية:

مجلة الرسالة/العدد 661/آمال نزكيها صحائف مطوية:

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1946



المساجد الجامعة

وأثرها في حياة المسلمين وتربيتهم الدينية

للأستاذ أحمد رمزي

يوم أول مايو 1933 بأنقرة. طيف وفلسفة ثورة:

كانت دعوت غداء شائقة تلك التي أقامها الأستاذ الكبير توحيد بك السلحدار، وهو قائم بأعمال المفوضية الملكية المصرية بأنقرة، لشرف حمد الله صبحي بك، وزير تركيا المفوض في رومانيا بمناسبة وجوده بالعاصمة التركية، فجلس في صدر المائدة وعلى يمينه الوزير المحتفى به، وأمامه السيدة زوجة روشن اشرف بك، وعلى يمينها صاحب السمو الملكي الأمير زيد بن الحسين وزير العراق المفوض بتركيا، ثم تلا ذلك ترتيب مقاعد غيرهم من المدعوين. وامتازت هذه الدعوة على غيرها من الدعوات، بما دار فيها من الأحاديث الشائقة التي اهتم كل من الحاضرين بتتبعها والإصغاء أليها، وحرصت من جانبي على تدوين بعضها.

وكان ذلك في يوم الاثنين الموافق أول مايو سنة 1933، ولم يكن اختيار هذا اليوم بالذات موضع تفكير وإنما جاء وليد المصادفة. وما أدراك ما أول مايو، هو يوم عيد الطوائف العمال من مختلف الأجناس والألوان، علمنا بمقدمه من العلم الأحمر الذي كان يرفرف على بناء سفارة السوفيت، إذ كانت حكومتهم أول دوله اعترفت رسميا بهذا العيد وكانت بنايتهم أمامنا.

أما وكالات الأنباء والإذاعة فأخذت تتحدث عن الاجتماعات والخطب والمظاهرات التي سينفرد بها أول مايو. واذكر أنني اعتكفت في صباح ذلك اليوم فراجعت بعض مؤلفات (كارل ماركس) وصاحبة (انجل) وقلبت بين يدي صفحات مما كتبه راس الثورة الروسية (لينين) وكنت مشغوفا به لدرجة أنني بحثت عن المنزل الذي كان يقيم به في مدينة زوريخ من مدن سويسرا الألمانية، وتعرفت على المقعد الذي كان يجلس عليه في قاعة المطالعة بمكتبة جامعتها، ولكثرة ما قرأت عنه وعن حياته لم تعد شخصيته غريبة عني، تكرار ما رايته من صوره في أوضاع مختلفة أن ثبتت صورته في مخيلتي، فإذا وضعت ذلك بجانب الكتب التي قرأتها عنه بمختلف اللغات صدق قول الأديب العربي: (والبحر وان لم اره، فقد سمعت خبره) فهو أمامي كلما تلوت في كتبه، برأسه الكبير وعينيه الصغيرتين الحادتين وفمه الجبار وبروز عظمتي الوجنتين وهذا الاسم الذي يحمله، أجدها دائما مشاهد تؤكد لي اصله الأسيوي المغولي المنحدر من سلالة الفاتحين التتار الذين سادوا أنحاء روسيا مدة قرون طويلة، وصبغوها بلونهم وتركوا فيها آثارهم ودماءهم. وليس في هذا ما ينقص من قدر الزعيم الروسي والمعلم الشيوعي، إن لم يكن في ذلك ما يزيد من قدره وما يرفع من شانه كبطل أسيوي عالمي.

قلت خلوة صباح ذلك اليوم لنفسي وأطلقت لها العنان تحلق كما تشاء، فأخذت انتقل بالمطالعة من كتاب إلى كتاب غير مقيد بنظام أو قاعدة، والوقت يمر سريعا حتى وقع ناظري على جملة تقول: (هذا عصر تنظيم الجماعات وقيادة وتوجيه الحركات الشعبية الكبرى، عصر عمل ونشاط وخلق وتصميم اكبر مظاهر سيطرة الإنسان بيديه القويتين على قوانين الطبيعة وإخضاعها لمشيئته وإرادته. تعالوا إلى الفلسفة المادية وارجعوا إلى المنهج التاريخي لكي تتفتح أذهانكم لآفاق بعيدة. إننا لا نؤمن بالعاطفة إلا إذا احتجنا إليها لمحاربة الجمود والرجعية ولتحطيم الأصنام المزيفة.)

أيمان تظهره جرأة، وجرأة يدعمها علم:

وبينما أنا أقرأ هذا الكلام، إذ قرع حاجب المفوضية الباب ودعاني لاستقبال الضيوف مع أستاذنا الكبير، فقمنا للترحيب بهم. وبعد برهة اجتمعوا ودخلنا حجرة المائدة، وقد رتبت احسن ترتيب يدل على ذوق الداعي واهتمامه بالصغيرة والكبيرة من تنسيق واختيار وتدقيق في كل ما يقدمه لضيوفه. وما بدأت الخدمة حتى اخذ الحديث حمد الله صبحي ضيف الشرف، وهو محدث من الطبقة الأولى يتناوله بأسلوب عذب وصوت هادئ ويعبر عن آرائه بالفرنسية وبالتركية، فتكلم عن أمور مختلفة، وأشياء متعددة، ولفت الأنظار حينما أخذ يتحدث عن حياة المسلمين في رومانيا، فأحاط بما هم عليه في وقته وما كانوا عليه في الماضي وما تنبأ لهم به في المستقبل، وأشار إلى اللغة المستعملة في رومانيا وكيف تأثرت بالألفاظ التركية التي امتزجت بها، وكثير من هذه الكلمات عربي الاصل، دخلت وأصبحت من لغة يتكلمها الملايين من الناس، ثم عدد مساجدهم وعلماءهم، وما عليه من التمسك بدين الإسلام وما يلقونه من حرية العقيدة والتسامح في القيام بشعائرهم الدينية، بغير حرج ولا ضغط عليهم.

ثم رايته انتقل فجأة لموضوع شائك وعر الملك لا يجرؤ أحد من الأتراك أن يخوض فيه وقتئذ، فقال: (أن الدين لازم لكل أمة وفي كل عصر) ثم استشهد بعقلية الشعب اليوناني الحديث، فقال: (أن هذا الشعب الذي يجاورنا ونجاوره ويعاصرنا، يستمد إلهامه ومثله العليا من ثلاثة منابع: تاريخه القديم، وعصر بيزنطة والدين الأرثوذكسي. فهذه دعائم ثلاث لتفكيره ولمثله العليا ولحياته).

وهنا التفتت السيدة زوجة دوشين اشرف بك، وكان زوجها نائبا بالمجلس ثم وزيرا مفوضا وسفيرا، وهو كاتب من المع كتاب الأتراك وأدبائهم، وسبق أن شغل منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية في أول عهد الغازي كمال اتاتورك، فأبدت الكثير من الشك في أقوال الوزير التركي وكان مما قالته: (هناك أشياء أخرى غير الدين ومبادئه، تستلهمها الأمم في حياتها وجهادها ونهضتها، ثم ما هو الدين؟ أليس هو المثل الأعلى الذي يكونه الفرد منا لنفسه)، وعبرت عن المثل الأعلى باللفظ التركي المستحدث.

أما حمد الله بك فاستمر في حديثه لا يبالي بالرد على ما يوجه إلى كلامه من اعتراض، وكان صوته يعبر عن أيمانه العميق وشعوره بالألم والحسرة، فخرجت كلماته وهي تلهب الصدور، ولذلك بقيت عالقة بأذني، قال: (نحن معاشر أهل الإسلام في اشد الحاجة إلى ما اسميه تربية المسجد، وأقول بكل أسف أن المسجد لا يلعب في حياتنا الدور الذي تقوم به الكنيسة في حياة المسيحي أو المعبد في حياة الإسرائيلي، ونحن أحوج ما نكون إلى رجل الدين الذي يوفق بعلمه وروحه وشخصيته وجرأته لان يحيط المسجد أو الجامع بهالة من القدسية والاحترام، وان يتخذه مركزاً لعمله الروحي والاجتماعي، الرجل الذي يمكن أن يطمئن الناس إليه في تربية النشء وتثقيفهم وتلقيتهم قواعد الدين الصحيح وأسسه وفضائله، أن المساجد بيوت الله وبيوت العبادة وبيوت المسلمين، فيجب أن تتجه أنظارهم إليها وان تجمعهم وقت الصلاة وفي أعيادهم ومنا سباتهم المفرحة والمحزنة، وارى إن تربية المسجد عنصر أساسي من عناصر نهضة المسلمين).

واخذ يشرح هذه الناحية يوجهه نظر جديرة بكل اعتبار وتقدير، ويؤيدها بمنطق الرجل المسلم الشاعر بأهمية العمل الروحي، والمؤمن أيمانا لا يتزعزع بقوة المبادئ والدوافع التي قامت عليها الرسالة المحمدية.

وكنا نشعر وقتئذ بما بين تركيا وروسيا السوفيتية من علائق الود والصفاء والتحالف، وكنا نعرف أشياء عن محاربة البلاشفة للعقائد ولنظام الأسرة، وكان الأتراك يقلدون الروس في أشياء، ولكن حمد الله بك صرح بما يعتقد انه الصواب بقوله (لا يمكن لمجتمع بشري يحترم نفسه أن يحارب الاسرة، إذ هي الرابطة الأساسية والأولى التي تصل بين الفرد والمجتمع وبين الطبيعة والبشرية وبين المادة والروح)

كنا نستمع إليه جميعا ونحن نسلم بان هذه الكلمات تخرج من وحي أيمانه وعقيدته فهي ليست من قبيل المجاملة، بل نتيجة تفكير طويل ورأى ناضج. وكان يتحدث عن الشعب التركي حديث رجل يفيض قلبه بمحبة هذا الشعب الإسلامي الكبير، كما يتحدث والد عن اعز بنيه أو احب شئ لديه. وكان وطنيا بغير تعصب، قوميا مع سعة صدر. واذكر انه ختم كلامه بقوله: (ليس اصعب على السياسي أو المتصدر لقيادة نهضة أمة وهي في غمرات تحررها ويقظتها، من أن يلقنها كيف توفق بين الشعور بالوطنية الصحيحة ومراميها وأهدافها المشروعة وما يلابسها من حماسة وتطرف، وبين الإيمان بمحبة الأمم الأخرى والأخذ بالتساهل معها والشعور بأهمية العمل في حقل التعاون الدولي وما يتطلبه من تفاهم وتساند).

أن قليلين من رجال السياسة الذين استبقوا حوادث الزمن ونظروا هذه النظرة، وان هذا المبدأ من المبادئ التي تحاول أن تحققها الأمم بعد الحرب العالمية التي انتهت اخيراً، ولكني انقلها كما هي من مذكرات عام 1933.

من هو الرجل؟

إلى هنا انتهى حديثه، وانفض بعد ذلك جمع أناس من أهل الرأي والفضل، كان أستاذنا الكبير توحيد بك السلحدار يعرف كيف يجمعهم في دار المفوضية، حينما مثل مصر تمثيلا عاليا ورفع من شانها، وجعلها موضع احترام الأمة التركية وحكومة الجمهورية، فكان أول ممثل لدولة أجنبية جاء إليه رئيس الدولة، وعد ذلك بين الأتراك ورجال السلك الأوربي وبين من يفهم من الناس، اكبر توفيق حصل عليه ممثل دبلوماسي لمصر منذ أنشئت علاقات سياسية بين المملكة المصرية والجمهورية التركية.

وتعجب معي كيف يتحدث حمد الله صبحي بهذه الشجاعة وكيف يجاهر بآراء لا تتفق مع الرأي السائد لدى السلطات العليا بتركيا، ولكن الرجل القوي المخلص لمبادئه لا يبالي بان يجهر بما يقول وبما يشعر، وكان حمد الله بك عالما فاضلا، والعلم قوة دافعة تسبغ على صاحبها شجاعة وجرأة وثباتا، وكان تاريخه نقيا صافياً، فقد خدم بلاده اجل الخدم، يوم كان زعيما لحركة (التورك أوجاغي) وهي التي أيقظت غريزة الشعور القومي لدى شباب الأتراك، ونفخت فيهم روحا جديدة، ومهدت الطريق لثورة مصطفى كمال التي قادتهم إلى حرب الاستقلال، فهو رجل من صميم الشعب، خرج من صفوفه وأمضى السنوات يعلم الشعب ويلقنه ويقوده، ولما اختلفت وجهة النظر بينه وبين الغازي سلم لرئيس الجمهورية مقاليد الحركة، التي أمضى عشرات السنين في بنائها وقنع بمنصب دبلوماسي خارج بلاده، ولكنه يحن إلى الشعب التركي ويتحدث بفضائل الإسلام ويأبى أن يفرق بين الترك والإسلام، ويجاهر بما يعتقد ولا يخشى إلا الله، وتلك منزلة لا يرقى إليها كل الناس كما نعلم ونلمس لدينا.

كان ذلك في عام 1933 وها نحن في عام 1946، وقد مضت السنوات وتغيرت الأيام، وتبدلت الأوضاع، وبينما اكتب مقالا للرسالة عن مساجد الفسطاط، وجدت مجلداً من مذكراتي اليومية، فإذا أنا أمام حديث حمد الله بك عن تربية المسجد. فرأيت أن انقله كما هو وان اعلق عليه بما دار في خلدي طول السنين الماضية، واجعله تتمة لحديث الفسطاط ودمعتها الغالية على مساجدها وآثارها.

(يا أيها النبي بلغ ما انزل إليك من ربك، وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (المائدة)

بهذه الآية الكريمة خاطب الله رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وأدى النبي رسالته، فهل اتبع المؤمنون سنة رسولهم، وقاموا بتبليغ الأمانة التي حملوها في هذا العصر الذي نعيش فيه؟

إن الرسالة المحمدية للعالم قائمة، فإذا أدّاها أصحابها، نشروا بين الخلق تعاليم ومبادئ ودوافع تنفخ فيهم روحا جديدة، وتكون كشعلة لا يلبث ضياؤها أن يزيد يوما بعد يوم حتى تعم أجزاء الأرض فتؤثر في حركة العالم وسيره وتطوره، وفي تكاتف الأمم وتساندها وإخراجها من الظلمات إلى النور.

هذا هو أيمان كل مسلم دخل في زمرة طائفة المؤمنين، وهذه آماله نعبر عنها، ونحن على ثقة منها؛ ولكن كيف الوصول إلى تحقيق ذلك؟

(البقية في العدد القادم)

أحمد رمزي

القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان