مجلة الرسالة/العدد 661/منطق الدماء البريئة في يوم الجلاء
مجلة الرسالة/العدد 661/منطق الدماء البريئة في يوم الجلاء
للأستاذ سيد قطب
أيا كان الألم الذي يعتصر قلب كل مصري لمنظر الدماء البريئة تراق، والأرواح الطاهرة تزهق، والبيوت العامرة تخرب، وقلوب الآباء والأمهات تقطر دما على فلذات الأكباد تخرج في الصباح ولا تعود في المساء!
أيا كان هذا الألم الدافق الحار في حنايا كل مصري لتلك الدماء البريئة التي أريقت في (يوم الجلاء) الذي أرادته الأمة المسالمة تعبيرا بريئا عن الحق الطبيعي في إبداء الشعور؛ وأراده المستعمرون القساة، معركة دموية تهرق فيها الدماء!
أيا كان هذا الألم، فإن له ثمنه الذي لن يضيع. فالدم هو عربون الحرية في كل زمان ومكان، والاستشهاد هو ثمن الكر أمة على تغير الازمان، وان لليوم لغدا، وان للحرية لفجرا، وان النصر لآت!
لا، بل أن ثمن تلك الدماء البريئة لحاضر، وأنا لنقبضه الآن
أن لتلك الدماء البريئة لمنطقا واضحا صادقا، يكذب ويجبه أمته الكتاب المصريين والعرب أجمعين الذين وقفوا يناصرون الإنجليز في محنتهم، ويدعون لهم في أمتهم، ويقربونهم إلى قلوب مواطنيهم، مأجورين أو مخدوعين. فالمخدوع في حق أمته لا يبعد كثيرا عن المأجور.
وان لتلك الدماء البريئة لمنطقا واضحا صادقا يكذب ويجبه، أمته الزعماء والساسة من المصريين والعرب اجمعين، الذين وقفوا يناصرون الإنجليز في محنتهم، ويؤيدون لهم جميع الخدمات التي تكفل النصر، دون أن يحصلوا في ذلك الوقت حتى على وعد قاطع بالجلاء، اعتمادا على شرف الضمير السياسي البريطاني المزعوم!
أن ثورة واحدة مدة ثمان وأربعين ساعة، إبان معركة العلمين، وتوالى الإمداد والذخائر، ثورة واحدة تعطل المواصلات، كانت كفيلة بترجيح كفة النصر، وانقلاب وجه الحرب كلها - باعتراف القادة البريطانيين والأمريكان في هذا الأوان - ولكن مصر لم تعملها، وثوقا بشرف هذا الضمير المزعوم. ولم تنتفع بهذا الظرف في قضيتها الوطنية، ضعفا، أو جهلا، من الساسة والزعماء المصريين! ولقد ظل هؤلاء جميعا: الكتاب المأجورون، أو المخدوعون. والساسة الضعفاء، أو الجهال. . . . ظلوا يسكبون في سمع الأمة المصرية، وال أمة العربية كلها، منطقا زائفا مدخولا عن الديمقراطية الغربية، وعن الضمير البريطاني، وعن ميثاق الأطلنطي، وعن الحريات الأربع، وعن الحرية والإخاء والمساواة، إلى أخر تلك الخدع الماكرة اللئيمة، التي ألقاها الأقوياء للضعفاء، فتلقفها هؤلاء، وغنوا بها كالببغاء!
ظل هذا المنطق البائس المجرم يسكب في سمع الأمة، حتى انبعث أخيرا ذلك المنطق الحق الصارم، الذي لا عوج فيه ولا خفاء. ذلك منطق الدماء!
انبعث هذا المنطق من جراحات الجرحى، ومن طعنات القتلى، في ميدان الإسماعيلية، وانطلق كذلك من أفواه البنادق الآثمة، التي دوت بالموت والجراح، في الأبدان والأرواح. فغطى هذا المنطق الحاسم الصارم، على ذلك المنطق المريب الكذوب، الذي ظل الكتاب المأجورون أو المخدوعون، والساسة الضعفاء أو الجهلاء، يسكبونه في سمع الأمة ستة أعوام!
وإذا كان المنطق الزائف البائس، قد وصل إلى سمع الأمة ووقف هناك، فلقد اخترق المنطق الحق الحاسم سمعها، واستقر في قلبها، وردده ضميرها. . . فهيهات هيهات أن تخدع بعد اليوم! وهيهات هيهات أن تنسى منطق الدماء!
انتهينا. . . . انتهينا أيها الحلفاء!!!
لقد قبضنا اللحضة الثمن الغالي لتلك الدماء!!
قبضناه وعيا وصحوا لن تخدرنا المخدرات! قبضناه حزما وعزما لن تفلهما المغريات! قبضناه احتقارا ومقتا لكل تلك الدعايات!!
الحمد لله. لقد انكشف الغطاء!
انكشف في مصر في يومين خالدين في تاريخها الحديث، على ما يثيران من آلم فاجع في صدور المصريين أجمعين: يوم 4 فبراير المشؤوم. ويوم الجلاء. . . المضمون!
وانكشف في لبنان يوم انقضت السلطات الغاشمة الفرنسية على رئيس الجمهورية ووزراء الجمهورية، فأودعتهم بطون السجون! وانكشف في سورية يوم انطلقت المدافع المتبربرة تصب حممها على دمشق، وتنثر الأشلاء، وتقتل المجاهدين الأبرياء! وانكشف في فلسطين، يوم قام (ترومان) يطالب بفتح أبواب الهجرة لمئة ألف من اليهود، وقام (بيفن) يسحب كلمة (الشرف) في الكتاب الابيض، ويبيح الهجرة للصهيونيين!
وانكشف في إندونيسيا يوم قامت القوات البريطانية، تقتل الأندلسيين المسلمين، وتسلط عليهم الفرق اليابانية، وتزعم إنها جاءت لتجريد الجنود اليابانية!
أن النضال بين الشرق والغرب في الحقيقة يثيره الإنجليز والأمريكان والفرنسيون والهولنديون، على الشرقيين عامة، والبلاد الإسلامية على وجه الخصوص.
هذه عقيدة يجب أن تستقر في ضمائر الشرقيين. في ضمير الهنود الإندونيسيين والمصريين والسوريين واللبنانيين والعراقيين والحجازيين والنجديين والفلسطينيين والطرابلسيين والجزائريين والتونسيين والمراكشيين. . . وهم كما يرون حشد عظيم، حين يواجهون الاستعمار الغربي متكاتفين.
إنه النضال. . . والويل فيه للمتخاذلين!
وبعد. . . .
فبوركت هذه الدماء الزكية التي كشفت عن عيوننا القناع! بوركت هذه الدماء التي أسكتت بمنطقها الحق الواضح، كل منطق مبهرج أو مدخول!
لقد ارتفعت صيحة الجلاء البريئة، فقوبلت بصيحة الرصاص الأثيمة، هذا منطق، وذلك منطق. ولقد شهدت الإنسانية في مواقع كثيرة انتصار الصيحة الأولى مهما بدت ضعيفة، على الصيحة الثانية مهما بدت عنيفة. بل لقد شهدنا نحن انتصارها في عام 1919.
هنالك فارق واحد بين الموقعتين:
في سنة 1919 كان على راس الأمة سعد زغلول، ولم يكن هذا الرجل يعرف ذلك المنطق المخنث الضعيف. منطق الثقة بالضمير البريطاني المزعوم. وكان الشعب مثله لا يقر مثل هذا المنطق المضحك في تلك الظروف!
فيا أيتها الأمة!
اعرفي طريقك، واعرفي زعماءك، واعرفي أبناءك!
انبذي كل من يحدثك عن ثقته في الضمير السياسي البريطاني.
فالضمير السياسي البريطاني هو هذا الذي يضربك بالرصاص، لأنك تهتفين هتافا سلميا بالجلاء! والذي يدعوك من أبنائك إلى الثقة بهذا الضمير، يطعنك اشد من طعنات الرصاص، لأنه يطعن ضميرك، وهو ملاذك الأمين!
أيتها الأمة!
لقد هتفت مرة بالجلاء، وإنه لهتاف مطرب رخيم، وهتاف شريف كريم. . . فاهتفي أيتها الأمة بالجلاء، وصفقي لمن يهتفون معك به من الساسة والزعماء، على أن تكوني أنت الرقيب عليهم فيما يقولون وفيما يفعلون!
سيد قطب