مجلة الرسالة/العدد 661/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 661/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1946



الملك. . .

ديوان شعر للأستاذ محمود حسن إسماعيل

للأستاذ زكي طليمات

في عنوان هذه الديوان كفاء للدلالة على ما تضمنه ولن أجد ابلغ ما أقدم به مقالي عنه غير هذه العبارة التي اقتطعها من إهداء الشاعر شعره إلى سيد الكنانة وأمير البلاد.

(هذا هتاف الفن لأنوارك الجديدة في كل آفاق الحياة، سكبته من دمي غناء يفيض للدنيا بحبك، وينبض في جوانح الزمن بآيات وطنيتك)

وفي الحق انه لهتاف يشق أجواز السماء، أرسله الشاعر في تواجد الصوفي وفي نشوة الفتى الشابل، فإذا الهتاف تارة تمتمات وتسبيح وترانيم تشع منها أضواء الروح، وتارة أخرى إرنانات مدوية تشهر في الفضاء شهر السيوف تحي مقدم للبطل وتشيد يفاخر البطولة، وترفع رفع أعلام الأعياد ومشاعل الزينات.

ومباعث هذا الشعر مآثر (الفاروق) حفظة الله، وقد فاضت به يداه في مناسبات فكانت أمن الخائفين والمروعين، وأفراح المحزونين والمكروبين، وبشائر الخير والفرج للمحرومين والصابرين مآثر سجلها الشعر الموفق الآثر، فإذا هي دستور للبر والإحسان، في زمن قل فيه البر والإحسان، فهبت النظم الاجتماعية تفرض على الغني أن يشاركه الفقير في ماله وتقضي على المتخومين ذهبا وفضة بان يخففوا مما ثقلت به بطونهم بان يبذلوا مما بين أيديهم. ثم يشرق الشاعر إشراقة أخرى فإذا بالشعر بين يديه يحكى قوله الحق في (الفاروق)، قولة تتلخص. . في انه ملك بنفسه وبشعبه وليس ملكه لنفسه وبدون شعبه.

كرم الباعث الذي فجر الشعر عيونا ونبل، كما طاب قول الشاعر ونبه.

ولكل قصيدة في هذا الديوان مناسبتها وفي كل مناسبة تسجيل لمأثرة فاروقية هذا والقصيد يجرى على غرار ما هو مألوف في شعر المدائح والمناسبات، فهو عرض لمآثر من سيق الشعر في ركابه، ثم تنويه بفعل هذه المآثر في كشف الغمة وزوال الكروب، ثم رسم لأصداء هذه المآثر في نفوس متلقيها. . .

ولو قصر شعر (محمود حسن إسماعيل) عل هذا فحسب، ولم يتجاوزه إلى ما هو اعرق في الشاعرية، لقصر كلامنا على التنويه بشعر شاعر دفعه إخلاصه لمليك البلاد إلى أن يصدر ديوانا يحمل اسمه الكريم فالمدائح وشعر المناسبات يتسم أكثره بفيض في المبالغة والاجتلاب وبوشي محمل بالتزاويق البيانية، هذا والأدب العربي، قديمه وحديثه، ينوء بأحمال ثقيلة منه، وما كان ليؤبه بهذا اللون من الشعر لو لم ينسب منه عرق رفيع يعتبر تحق من جيد الشعر مبنى ومعنى، إذ يحمل طالع الصدق والاعتدال في التعبير، ويلمع باشرا قات الحذق الفني في الصياغة والأسلوب، ويتسم بالاتزان إذ فيه يعوض الشاعر عن شطحاته وهو يزف آيات المديح، غوص على المعاني وتوفيق في استخراج طريفها ولطيفها، ويتجاوز استيحاؤه صفات الممدوح إلى الاستلهام من القيم الإنسانية العامة، فتكون للشاعر التفاتات تجئ من غير افتعال وكأنها هجس الخاطر، فتشد إلى القصيد صورا أخرى كم من الحياة لا تلبث أن تزوده بجديد من المعاني فيتسع أفق الشاعر فيما يقول وتعظم متعة القارئ أو المستمع له وكأن الشاعرية الدافقة في نفس الشاعر لا يكفيها محور واحد تدور عليه، فهي تتجاوزه قادرة إلى سواه من غير أن تجعل العرض يطغى على الجوهر، وبدون أن تنفصم عرى التلاحم بين المعاني الأصيلة والواردة عليها.

والمتأمل شعر (محمود حسن إسماعيل) في هذا الديوان، لا يعدم موطنا يطالعه بهذا.

انظر إلى قصيدته (نور من الله)، فبعد مديح في الفاروق يبلغ ذروته في هذا البيت:

(مُمَلَّكٌ في شباب العمر تحسبه ... لحكمة الرأي تحدوه القدسات)

إذ بك منقول على جناح خياله، وقد يمم شطر الأهرام في لفتة لطيفة، ليحيط بك في رحاب البطل (إبراهيم)، وأذ بالشاعر يقول:

أهرام خوف تهاب الجن ساحتها ... كأنما هي الأقدار خيمات

مخيمات وأسرار السماء بها ... كأنما هي الأفلاك جارات

وخيل رمسيس ما زالت سنابكها ... تلقى حديث الوغى عنها الفتوحات

والسيف في يد إبراهيم ما فتئت ... للنصر ترعش حديه الخيالات

واد أشم العلى، مرت به حقب ... أيامهن بكف الدهر رايات

واسمع الشاعر يقول في قصيدته (تشهد الفأس). . .

قل لسارينا مشوا فوق الثرى

بقلوب كخطاهم داميات. . .

ومشت أيامهن بين الورى

في ظلام البؤس حيرى حافيات

اسبغ التاج عليكم نوره

ورعاكم وحباكم بره

فاطرحوا الشكوى وان طال الثرى

أيقظ الله لكم جفن الحياة.

في عبير الحقل أو رمل الهجير

تشهد الفأس على آلامكم

الخ. . . ما ورد في هذه القصيدة. . . . .

هذا شعر يتفجر من القلب وليس مما يخرج من اللسان، من قلب رجل لابس حياة الفالح وشاهد حفاه وعريه، وصلى في محراب أحزانه وآلامه، واشترك في ضراعاته. وفي هذا الشعر ما ينبئ عن أن قائله إنما يصدر مخلصا عما يحسه، وليس عن هوى في زف الكلام الموزون الموشي، ومثل هذا الشعر ياسر القارئ وغريه بإعادة تلاوته، لا لجودة الحبكة في الصياغة ولا لطف التعبير ولكن لما يتمشى في جنبات الشعر من نفس حار يشع منه الصدق واليقين.

وفي الديوان ما يماثل هذا، ولكن في ألوان أخرى من المعاني والمناسبات، فلا عجب أن يجئ أكثر الشعر فيه، تارة زفرات وتنهدات، وأخرى ابتهالات وتمنيات، والشاعر في كل هذا فتى الريف، سليل حملة الفؤوس، وعروس شعره جنية من الريف لها خفر أهله، تطيف به وتهوم فوق رأسه في دلال المرأة اللعوب، أن اقبل عليها أدبرت، وان أغضى عنها أقبلت، كما وصفها الشاعر في قصيدته (تكلم أيها البحر).

ومحمود حسن إسماعيل قد عرفناه بهذا ولهذا في ديونه الأول (أغاني الكوخ) وهي قصائد يجري فيها الشعر جريان السيل الجارف، ويحمل من الريف غبار مساربه، وعبقة حقوله، كما يتنفس عن آلم الفلاح وسقم العامل، ويصف وصف المستبطن دخائل النفوس، من طرحتهم عبودية الفقر والجهالة في كهوف النسيان.

ونرى أن الصلة بين ديوانه (أغاني الكوخ) وبين ديوانه الجديد (الملك) قائمة على احسن حال من حيث الباعث اللاشعوري لإطلاق شعره، بيد أن الشعر في الديوان الجديد يتسم بمسحة ظاهرة من الأناقة ولا أقول التأنق، لأنه يحني الرأس في ساحة المليك، فإذا الشاعر الذي عرفناه في (أغانيه) وغيرها يهدر هدر الأمواج الصاخبة وينطلق بيانه كالسيل العرم الذي يحمل من الأرض كل ما يعلوها يستحيل نهرا صافي الأديم، رقراق الماء ينساب منمقا حوافيه على إيقاع نسمات الأصيل. .

فإذا افتقدنا هي هذا الشعر الجديد الفورة المزبدة، فقد أعاضنا الشاعر عنها الهدءة المؤنسة الموحية، ولهذه كما لتلك، جمال ودلال، ومذاق ومتعة.

ولا عجب أن يبدو محمود حسن إسماعيل أنيقا منمقا في شعره هذا، فأي امرئ لا يصلح من هندامه ونفض عنه ما عسى أن يكون عالقا به ويأخذ بأسباب الأناقة والنظام ما دام يعرف انه سيمثل بين يدي مليك البلاد!!

وثمة ظاهرة جديرة بالتوضيح في هذا الديوان، فإن أبياتا من الشعر قد وردت وهي تأبى إلا تكشف عن معانيها إلا بعد ممانعة ومماطلة، فهي تلوح ولا تفصح، وتومئ ولا تبين. وقد يتوهم البعض أن هذا غموض أو أغراب من جانب الشاعر في سوق المعاني، وما هو كذلك، وإنما هو طبع في الشاعر يدفعه أحيانا - وقد يصدر في هذا عن وعي أو في غير وعي - إلى أيراد بعض من معانيه في صيغة (التركيب) أو الأجمال. فتكون مناوشة ومصاولة بين المعنى وذهن القارئ ذي النظر والتأمل، وتكون متعة ذهنية دونها كل متعة يحسها القارئ بعد أن يمانعه الشعر في الكشف عن كل مفاتنه عند النظر العجلي

وقد تكون إلى جانب هذا الطبع الغلاب، نزعة من جانب الشاعر إلى أيراد غير المطروق والمبذول من المعاني فيأخذ بأسباب التنقيب والتوليد، ويمعن فيهما إمعانا قد يحوطه شئ من التعقيد الذي ينشط التأمل، فإذا الخطوط التي تستوي فيها معانيه منكسرة وليست مستقيمة، وقد تلم بأكبر قسط من حيز المعنى كما يشغل الخط المنكسر أطول مسافة وهو منطلق من نقطة إلى أخرى تقابلها في حيز المرسوم، ولكن المعنى على هذه الحال قد يأتي على غرار لم يألفه من تعود أن يلم بالأشياء في كامل كيانها عند النظرة الأولى، وعلى نمط لا يروق من داب على أن يأخذ الأشياء في يسر ومن غير كد وإنعام نظر.

في شعر (محمود حسن إسماعيل) ما يعطي طواعية ومن غير حساب وما لا يعطي إلا بعد مطالبة وممانعة وحساب، والناس أما هذا وذاك أذواق وإفهام.

زكي طليمات

مدير المعهد العالي لفن التمثيل العربي