مجلة الرسالة/العدد 661/تحقيق علمي واستنتاج

مجلة الرسالة/العدد 661/تحقيق علمي واستنتاج

مجلة الرسالة - العدد 661
تحقيق علمي واستنتاج
ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1946



الأبيوردي. .

ولادته ووفاته

للأستاذ ممدوح حقي

تتجه أكثر عناية مؤرخينا القدماء إلى تعيين وفاة من يؤرخون وقد يقدرون عمره يوم وفاته أحيانا ولكن ذلك نادر، أما يوم ميلاده فاقل ما يأبهون له أو يتحرون صدقه. وانك لواجد كتاب وفيات الأعيان وفوات الوفيات ولكنك لا تجد كتاب ميلادهم غالبا. ومع هذا فإن الاختلاف على سني الوفاة عظيم جدا قد يبلغ الخطأ فيه أحيانا نصف قرن، ووفاة أبي المظفر الأبيوردي مثال لهذا الاختلاف بينهم، فبن خلكان ومن نقل عنه يعينون سنة وفاته في عام557 هـ. وياقوت ومن روى عنه يعينونها في عام507 هـ. ولقد قرأت كل من ترجم للأبيوردي من قدماء ومحدثين مما عثرت عليه مخطوطا ومطبوعا، فلم الق واحدا تنبه لهذا الاختلاف بله أن يبحثه ويحققه مع طول المسافة بين التاريخين وإنفساح مجال البحث فيهما، فدائرة معارف البستاني وشارح الديوان والزركلي الشاعر في أعلامه من المحدثين يتبعون رأي ابن خلكان ولعلهم نقلوا عنه ساهين سهوت العلماء، ودائرة المعارف الإسلامية تؤكد رأي ياقوت فأيهما الصحيح يا ترى؟ أو أيهما اقرب إلى الصحة أن شئنا التوفيق؟!

إن في تحليل الوقائع التاريخية شفاء من هذا الكسل العقلي، ولنقرا ديوان الشاعر نفسه ونتجه إلى من مدحهم أو اتصل بهم، فإن تجاوز أحدهم نصف القرن السادس، فالابيوردي زميله.

واكثر قصائد شاعرنا في المقتدى (توفى عام 487هـ) والمستظهر (توفى عام 521هـ) ونظام الملك (قتل عام 486هـ) وعميد الدولة (قتل عام 493هـ) وسيف الدولة صدقة بن دبيس (قتل عام 501هـ) وشيرويه (توفى عام509 هـ). . فهؤلاء جميعا ماتوا حول أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس مما يؤكد رأي ياقوت أن وفاة شاعرنا كانت سنة 507هـ إذ كانوا كلهم معاصريه.

ولو قبلنا رأي ابن خلكان لأضعفه الحساب التالي: نفترض أن الأبيوردي اتصل بالمقتدى - وهو أول خليفة اتصل به الشاعر - وعمره لم يتجاوز الثلاثين، فيكون عمره يوم وفاته نحو مئة عام، والمسافة بين رأيي ياقوت وابن خلكان نصف قرن بالضبط فكيف أنفقها الشاعر؟ وبمن اتصل مادحا أو مصاحبا؟! ونحن لا نجد لذلك أثرا في ديوانه وكله بين أيدينا، اتفق عليه كل من أرخه بأنه هو نفسه نسقه ونظمه بيده وقسمه إلى فصول ثلاثة سماها: النجديات والوجديات والعراقيات،. نعم لا نجد إلا قصيدة واحدة رثى بها الملك أحمد معز الدين المتوفى عام 552هـ فيكون عمره يوم نظمها - على الحساب المتقدم - خمسا وتسعين سنة. ولو رجعنا إلى القصيدة، لوجدنا فيها روح شاب متفلسف لا روح شيخ هرم وضع قدميه على حافة القبر. فنحن هنا بين أمرين: إما أن نقول بان القصيدة مدسوسة عليه - وهذا رأي يبرزه النقد - وإما أنها له لكنها قيلت في إنسان أخر اسمه أحمد عاصره الشاعر. ونحن إلى الرأي الثاني أميل، لأن روح الأبيوردي ترفرف عليها في كل مقطع (ولعله أحمد بن مروان صاحب الموصل المتوفى عام 453هـ بعد أن حكم إحدى وخمسين سنة وكان كعبة شعراء زمانه).

هذا وان من أوائل من نوه بالشاعر تاج الإسلام ابن السمعاني المتوفى عام 562هـ، وهو ينقل عن شيرويه المتوفى عام 509هـ. فلو قبلنا رأي ابن خلكان لكان معناه أن شيرويه حدد وفاة الأبيوردي قبل سبع وأربعين سنة، وهل يعقل أن يحدد من سبق نهاية من لحق؟ ولقد كان السمعاني ثقة لا شك فيه ونعتقد أن ابن خلكان لم يخطئ وإنما جاء الغلط إلى كتابه عن طريق النساخ والكتبة الذين شغلوا من رسالتنا هذه صفحات لتحقيق صفر كوروه فكبروه فرقم كخمسة في العدد!!

ويؤكد هذا الرأي الأبيوردي تسلم خزنة الكتب في المدرسة النظامية بعد الاسفرائيني المتوفى عام 498هـ، وهذا المنصب لم يكن يتولاه إلا ذو مكانة علمية كبيرة وللسن قيمتها فيه، ولا نعتقد أن الأبيوردي وصل إليه إلا بعد أن اجتاز مرحلة واسعة من عمره تسلح فيها بعلم وفير وظهرت مؤلفاته ونبهت شهرته وانتشر شعره.

إذا تأكد لدينا هذا، وعرفنا أن الأبيوردي توفى عام 507هـ ففي أي سنة ولد يا ترى؟ وكم كانت سنه يوم وفاته؟ هذا ما لم يذكره أحد فلنرجع إلى ديوانه، ولن نطوف فيه كثيرا حتى نقع على قصيدة يمدح بها الأمير سيف الدولة المتوفى عام501 هـ وبصور له فيها ألمه لبياض شعره إذ ألم الشيب برأسه قبل بلوغه الأربعين فيقول:

اقبل بلوغ الأربعين تسومني ... صروف الليالي أن أشيب واهرما

ونحن نعلم أن سيف الدولة ولي الإمارة مدة اثنتين وعشرين سنة، فلو فرضنا انه مدحه سنة توليه الملك أي عام 479هـ لكانت ولادة الأبيوردي عام 439هـ على ابعد تقدير.

غير أنا لا نلبث حتى نرى له قصيدة أخرى يشكر بها الوزير محمد بن منصور المتوفى عام456 هـ فيكون عمر الشاعر يوم نظمها - على حسابنا المتقدم - سبعة عشر عاما فقط وهذا غير معقول إذ لا يحتمل أن تكون شهرته في هذه السن المبكرة قد بلغت من الذيوع درجة تجمل شرف الدين منصور يترع تبرعا بجميل يسديه إليه التماسا لشعره وشكره كما يدعي في القصيدة فنسها إذ يقول:

تبرع بالمعروف حتى كأنه ... يعد اقتناء المال إحدى المثالب

ونحن أميل إلى الظن انه ولد قبل هذه السنة، وما وصفه الشيب الذي حدث عنه سيف الدولة إلا حكاية ألم متقدم مزمن، وانه حين توفى عام 507هـ كان قد بلغ من العمر طولا مديدا ظهر أثره في شعره المحكم حين اتصاله بالمقتدي والمستظهر وسيف الدولة وكلهم عاصروه أواخر القرن الخامس.

ممدوح حقي