مجلة الرسالة/العدد 662/آمال تذكيها صحائف مطوية:

مجلة الرسالة/العدد 662/آمال تذكيها صحائف مطوية:

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 03 - 1946



المساجد الجامعة وأثرها في حياة المسلمين وتربيتهم الدينية

للأستاذ أحمد رمزي

كانت فكرة تربية المسجد تعاودني من وقت إلى آخر. وكانت حوادث الزمن تمر عليّ فلا اشعر بمرورها. لقد قضيتُ اسعد سنوات العمر وأزهرها مغتربا عن بلادي، مشرِّقاً حيناً ومغرِّباً أحياناً، وأطلقت العنان لنفسي أقرأ وأستمع وأبحث، وأدرس الحركات الشعبية وتأثيرها، واتصل بأصناف مختلفة من الناس، وألمس عن قرب تطور العالم وتمخضه بالحركات الفكرية الكبرى، ومع ذلك كانت تلازمني فكرة حمد الله صبحي عن تربية المسجد وأثرها في حياة المسلم.

وأجتهد أن أصل إلى تكييفها وفهمها لإيجاد طريقة أو منهج لتحقيقها. وكان أشد ما يقابلني من المصاعب، ويصدني عنها هو مناقضتها بمنطق ستند على أنها بعيدة عن الإسلام وأنها تقليد للمذاهب والأديان الأخرى، وفي ذلك هدم للفكرة وإخراج لها من حيز المقبول إلى حيز التحريم والإنكار.

ففي يوم من أيام إقامتي بسوريا ولبنان مدة هذه الحرب اتجهت نية بعض الإخوان إلى زيارة الحصون والقلاع التي تركتها الحروب الصليبية. فلما زرناها وقفنا مدهشين لأن ما نقش على الحجارة ينطق بفتحها على يد ملوك مصر أمثال بيبرس وقلاوون وابنه الأشرف خليل، فبدأت اشعر شعورًا جديداً، بعظمة مصر الإسلامية العربية وأثرها في العالم العربي، وحنقت على وزارة المعارف التي أهملت هذه الناحية فلم تلقني شيئاً عن تاريخ بلادي في معاهدها سوى أنها أنقصت من قدر ملوك الإسلام الذين تولوا الحكم فيها، فلم تكشف لي عن صفحة مجد واحدة تحبب إليَّ ذلك العصر المملوء بالفتوح والحروب والمعارك والانتصارات التي منّ الله بها على جند مصر العربية الإسلامية وملوكها، ومكنتهم من هذه الحصون التي وقفت تقارع الزمن حتى مهد الله فتحها على أيديهم بعد أن عجز غيرهم عنها، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.

وكان أن أخذت نفسي بقراءة المراجع كما كبها المعاصرون لتلك الحوادث، فهداني الله إلى حقائق كانت مغلقة عليَّ، إذ عرفت أهمية المساجد الجامعة وأثرها في تاريخ المسلمين، وكيف أسند ملوك الإسلام وظائف الإمامة والخطابة للقضاء وكبار العلماء من مشايخ الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وكيف ارصدوا الأوقاف والأموال والخيرات والنعم والوافرة على مساجد الله. فأين ذهب كل هذا؟

ولم نتلق شيئاً عن هذه المساجد وتاريخها ما يدفعنا لزيارتها والتحدث عنها كجزء متمم لتاريخنا وشخصيتنا ولكن هذا النقص تكفلت به كتب التاريخ والتراجم والأدب.

فقرأنا في صبح الأعشى الكثير عن الوظائف الدينية ودرجاتها وأهميتها، فمن ذلك صورة تقليدين لمشيخة الشيوخ أحدهما للخانقاه الصلاحية (سعيد السعدا) من إنشاء المقر الشهابي ابن فضل الله العمري، والثاني لمشيخة الخانقاه الناصرية بسرياقوس من إنشاء السيد الشريف شمس الدين، وكلاهما تحفة من تحف الأدب الديواني، ودليل على العناية والاهتمام بمراكز الدين وأهمية الإمامة والخطابة بالمساجد في صميم الدولة الإسلامية.

فبالله عليك ماذا يكون موقفنا لو أبقى الزمن على محفوظات ملوك الإسلام بمصر بأكملها؟ وإنه لشيء عظيم يدل على أن المساجد الكبرى مثل جامع عمرو وابن طولون والجامع الأزهر بعد ذلك وجامع الحاكم والسلطان حسن وجامع الملك الظاهر، وجامع القلعة، كان يتولاها أكبر علماء العصر. ولو شئنا أن نؤرخ لكل منها وان نصف ما مرَّ من العزّ عليها، لاحتجنا إلى كتاباً لكل منها.

إذا تقرر ذلك، فما الذي يمنع أن يرد اعتبار هذه المساجد إليها؟ فتسند وظائف الخطابة والإمامة إلى أكبر علماء الدين وأعلاهم قدراً، وأكثرهم غيرة على الدين، مثل فضيلة الأستاذ الأكبر، ومفتي الديار المصرية، وقاضي القضاة وهو اسم تاريخي ما اجمل وقعه لو أطلق على رئيس المحكمة العليا الشرعية، وإلى غيرهم من هيئة كبار العلماء وأساطين الشريعة السمحاء، وان يقلدوا هذه الوظائف بمراسيم عالية تصدر بالألقاب التي كانت تستعمل في العهود الإسلامية.

فجامع عمر بن العاص متى يتولى الإمامة فيه شيخ من فطاحل شيوخ الإسلام من ذوي المراكز العالية والمراتب الكبرى؟ فيضع بطاقته مفتخراً بأنه إمام جامع عمرو بن العاص قبل وظيفته الرسمية العالية، حينئذ يأتي الكبراء إليه ويزدحم المسجد العتيق بجماهير المصلين ليؤدي لهم بحق رسالة الإسلام.

أما جامع ابن طولون فمتى يعود لسابق عهده، فمتى تعلق ستائره وتفرش أرضيته بالأبسطة والطنافس ومتى تعود أيامه وتوقد القناديل فيه؟ إنهم يرونه أثراً من آثار الجاهلية الأولى كمعابد الكرنك وإدفو، وأراه دعامة من دعائم الإسلام في هذا البلد المسلم. إنه ينتظر عالماً كبيراً بمنزلة القاضي بكار، يرجْ بصوته الجهوري أركانه ويدعو فيه إلى ذكر الله ويعلم الناس في أروقته الكتاب والدين والتقوى. وإذا سألتني ومن يأتي إليه؟ أجبتك إن شخصية الإمام العامل العالم تكفل لك أن تنقل المسجد الجامع من معبد أثري إلى بيت من بيوت الله، حينئذ يؤمه الألوف لسماع ذلك النداء الخالص الذي يدعو إلى الرسالة المحمدية.

وإذا ذهبت إلى حيّ العباسية مخترقاً الظاهر قابلك الجامع الظاهري، مفخرة العمارة الإسلامية في العصور الوسطى. لو كان ملكا لشعب من أصغر شعوب الأرض لما قبل أن يتركه على هذه الحالة. بالله هل سمعتم ان كاتدرائية ريمس حينما هدمتها الحرب الأولى أو كاتدرائية وستنمستر حينما هدمتها الحرب الثانية، اتخذ الناس أرض الأولى متنزها والثانية مرتعاً؟ أما في مصر، فقد انفردنا بهذا الفتح إذ جعلنا الجامع الظاهري الذي بناه أعظم ملوك الإسلام متنزها في حي أشعر أنه بحاجة لمسجد جامع يؤمه الناس. إن أهل العباسية في مجيئهم من محطة باب الحديد إلى مساكنهم، ألا يشعرون بشيء من الخجل حينما يرون المعابد العالية التي يقوم بالإنفاق عليها أفراد من مختلف الطوائف، وأن مسجدهم العظيم يتخذ متنزهاً؟

حينما أعادت فرنسا كاتدرائية ريمس، توالت عليها التبرعات من جميع أنحاء الأرض، ولو رغبت وزارة الأوقاف في إعادة جامع الظاهر أظن أن الكثيرين من عشاق الفن الإسلامي لا يتأخرون عن مد يد المساعدة إليها وسيكون لنا عودة لهذا الجامع فنذكر ما مر به من حوادث الزمن.

(وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم).

إن الطوائف الأخرى تقيم أعيادها واجتماعاتها في معابدها، ونحن معاشر المسلمين، في حاجة للرجوع إلى المساجد في هذه المناسبات، وليس في ذلك من حرج، لأن ذلك كان سنة من تقدمنا - ذكر ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن الفرات في تاريخه عن حوادث رمضان سنة 677 أنه بمناسبة مرور سنة على وفاة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس (عملت عدة أعزيه بمدرسة الإمام الشافعي رضي الله عنه وجامع أحمد بن طولون والجامع الظاهري بالحسينية والمدرسة الظاهرية والمدرسة الصالحية النجمية ودار الحديث الكاملية بين القصرين والخانقاه الصلاحية برحبة باب العيد والجامع الحاكمي داخل القاهرة المحروسة وذكر الختمات التي قرأت والخيرات التي عملت وفي ذلك دليل على أن المآتم كانت تقام بالمساجد وكان الناس يجلسون للعزاء، وكانت تقام فيها صلاة الغائب وينادي بالنعي من المآذن.

فهل هناك ما يمنع من الأخذ مرة أخرى بتلك السنن، وان يجتمع الناس بالمساجد الجامعة في أحيائهم لذكرى المولد النبوي، وللاحتفال بأعيادهم؟ لا أجد نصاً واحداً يمنع الأخذ بذلك، بل قد رأيت طول القرون الماضية ما يؤكد المنزلة التي كانت للمساجد الجامعة في مصر وغيرها.

ذكر صاحب الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، حديثا طويلا عن الخطباء، الذين أمرهم السلطان الغوري أن يخطبوا بين يديه في أيام الجمع، يفهم منه الاهتمام الكبير الذي كانت توليه الدولة المصرية في عهدها الإسلامي العربي لشؤون الخطابة في المساجد الجامعة، ولذلك لا نختلف مع نظرية حمد الله صبحي بك في شيء بل إن الفكرة تستند على ماض طويل، وتحتاج أولا إلى من يحييها ثم من يجعلها ملائمة لتطور الزمن. ونقول بكل صراحة: إن مظاهر الضعف والتفكك والتدهور الأخلاقي البادية في صفوف المسلمين المعاصرين، ترجع إلى اعتكاف علماء الدين، وإلى اتخاذهم المكاتب والحجرات بدل المساجد، ولو نزلوا إلى الشعب الإسلامي كما نزل الرسول وأصحابه والتابعين وتابعوا التابعين، وتولوا الإمامة والخطابة بأنفسهم، لخلقوا حول المساجد هالة من التقديس والاحترام، ولأصبحت المساجد الجامعة في قاهرة المعز لدين الله، عامرة آهلة بألوف المصلين من عباد الله.

إن المساجد الجامعة بيوت الله، يجب أن يعمل علماء الدين على اجتذاب الناس إليها، وان يربى الطفل والطفلة والشاب والفتاة والنساء والرجال على المداومة على الذهاب إليها، وان يكون الإمام والخطيب رجل دعوة وإيمان وعلم وجرأة، عالماً بشؤون الدنيا بقدر علمه بشؤون الدين، أعظم صفة لديه (الابتكار) وأن يفيض قلبه بمحبة الشعب ودعوة الناس وخدمتهم وإقالة عثرتهم، فيقول للحيارى تعالوا: هذا هو بيت الله وهذا هو دينه وهذه شريعته وهذه سيرة رسوله، (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم).

تمر الأيام سريعاً ويتطور العالم ويسير ويواجه أزمة وراء أزمة، فهل نعيش لنرى ذلك اليوم في مساجد الله؟ وهل سيسمع لنا نداء؟ أم سيخرج من صفوفنا نحن الذين لم نلبس العمامة من يقوم بهذا الغرض الاجتماعي ويدعو لهداية الله ويحمل الأمانة التي تخلى عنها رجال الدين؟

هذه أسئلة يجيب عنها المستقبل. . .

أحمد رمزي القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان