مجلة الرسالة/العدد 662/جمال الدين الأفغاني

مجلة الرسالة/العدد 662/جمال الدين الأفغاني

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 03 - 1946


جهاده في سبيل الشورى والحرية

(بمناسبة ذكرى وفاته التاسعة والأربعين)

في اليوم التاسع من شهر مارس عام 1897 قضى السرطان في عاصمة الخلافة على الحكيم الثائر المصلح السيد محمد جمال الدين الأفغاني، بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ومسح عن عيون الشرقيين ما فتَّرها من همود الكرى، وجلا عن قلوب المسلمين ما غشاها من صدأ الجهل، فاطمأن الاستبداد، وأمن الاستعمار، وظن الذين ينقضون أوطانهم ليقيموا عروشهم، والذين يزيفون أديانهم ليملئوا كروشهم، أن الصوت قد خفت، وان المشعل قد انطفأ؛ ولكنهم نسوا أن الرسل يبلغون والله يُثْبت، وأن المصلحين يبذُرون والدهر يُنبت، وأن جمال الدين إنما كان صيحة الحق وإشراقة الهدى انبعثتا من يومهما الموعود كما ينفجر المكظوم فيدوّي، ويحلو لك الليل فيُصبح. وهل كانت الثورات الديمقراطية التي شبها العرابيون ثم المهديون ثم الاتحاديون ثم السعديون ثم الهاشميون ثم الفهلويون إلا أقباساً من تلك الشعلة المباركة التي حملها الأفغاني وتنقل بها في ممالك الشرق، يحرق ويضىء، وينضج ويُحمى، وُيقبس ويشعل، وساعده مرفوعة لا تكل، وعزيمة لا تنكل؟

وسر القوة في هذا الرجل أنه كان صاحب رسالة لا طالب مُلك: هاجم السياسة الإنجليزية في (العروة الوثقى) أعنف الهجوم أيام الثورة المهدية، فدعي إلى لندن ليلوح له اللورد ساليسُبري بُملك السودان ليطفأ الثورة ويقترح الإصلاح. فما كان جواب الأفغاني إلا أن قال: (إن السودان لأهله. وهل تملكونه حتى تملكوني عليه؟!).

وأراده السلطان عبد الحميد على مشيخة الإسلام فأباها وقال: أن وظيفة العالم فيما يزاول من تعليم، وان رتبته فيما يحسن من علم.

أما كيف تهيأت نفسه لرسالة البعث والتجديد على فترة من رسل الهدى وأئمة الإصلاح فجَر فيها الحاكم وكفر المحكوم، فذلك من علم الله الذي يصطفي من يشاء كما يشاء لنصرة حقه وهداية خلقه. وكل ما نظنه معيناً على هذا التهيؤ أنه ولد في بيت كريم الأصل يجمع إلى جلالة النسب إلى الحسين، سؤددَ الإمارة على بعض الأقاليم الأفغانية؛ وانه درج في بيئة تعتز بطباع البداوة من حرية وحميَّة وأريحية وأنفة؛ وانه درس فيما بين الثالثة والثامنة عشرة من عمره علوم الدين والدنيا، وفنون اللسان والعقل، على منهاج محيط شامل؛ وانه حذق في مراحل حياته ومواطن رحلاته اللغات العربية والأردية والفارسية والتركية والفرنسية، وألم بالإنجليزية والروسية، فاتصل منها بثقافة الشرق والغرب في القديم والحديث؛ وانه طوّف ما شاء الله أن يطوّف في أقطار الهند وإيران والحجاز ومصر وتركيا وإنكلترا وفرنسا وروسيا، فازداد بصرا بأحوال الدول وأخلاق الشعوب؛ وأن موقع أفغانستان بين الهند وإيران أمكنه من أن يرى ميادين الاستعمار المدل المذل تتواثب عليها قوى الإنجليز والروس ظاهرة وباطنه، فهاله منذ شب عدوان الأجنبي على استقلال أمته وجيرته.

كل أولئك الذي ذكرت من كرم المحتد، وشرف المولد، وبداوة البيئة، وعمق الثقافة، وحذق اللغات، وإدمان الرحلة، ومعاناة الاستبداد، ومكابدة الاستعمار، لم يخلق وحده الرجل المصلح في جمال الدين، وإنما كان مساعداً لسر العبقرية الذي اكنّه الله فيه على أن يظهر مهيأ الأسباب مستكمل الوسائل.

كان رضى الله عنه متواضع النفس لأنه عظيم، جريء الصدر لأنه حر، ندى الراحة لأنه زاهد، ذرب اللسان لأنه قرشي، أبى الضيم لأنه أمير، حاد الطبع لأنه مرهف، صريح القول لأنه رجل. ولم يبتغ من وراء هذه الصفات - كما قال - إلا سكينة القلب. وكان يحمد الله على أن آتاه من الشجاعة ما يعينه على أن يقول ما يتعقد ويفعل ما يقول. ومن تمازج هذه الشمائل وتلك الوسائل فيه اتسعت حوله الأرض، وامتد أمامه الافق، وانصرف همه البعيد عن الدار والزوجة والعشيرة إلى الوطن الإسلامي كله، والشرق الإنساني كله، فجعل قصده ووكده أن يدعو إلى إنهاضهما بالوحدة الإسلامية لتدفع غائلة المستعمر، وبالحكومة الدستورية لتقمع شرَّة المستبد.

وقد آمن بهذه الدعوة إيمانه بالله حتى رأى في سبيلها السجن رياضة والنفي سياحة والقتل شهادة!

وكان الذين يقفون من سيرة الأفغاني على الهامش يظنون انه قصَر جهده في تحقيق هذه العودة على الكتابة والخطابة؛ والواقع الذي لا شك فيه انه فكر ثم قدّر ثم دبّر، ولكن الوحدة كانت من الشتات بحيث لا تلتئم، والاستبداد كان من الثبات بحيث لا ينهزم.

تولى الوزارة وهو في ريق شبابه لأمير الأفغان محمد أعظم، فجمع نفسه على الاستقلال، وأدار أمره على الشورى، فأوجس الإنجليز خيفة من هذه النزعة، فأرسلوا ذهبهم إلى منافسه فأضرم الثورة وفرق الكلمة وطرد الأمير. وخرج السيد إلى الهند يبتغي السكينة عند تاجر صديق، فاستقبله الإنجليز على الحدود، وأنزلوه بالإكراه ضيفاً على الحكومة. فسألهم الإقامة شهرين، ولكنهم حين رأوا إقبال الناس عليه، وإصغاءهم الشديد إليه، قصَّروا هذه المدة وأمروه بالخروج. وكادت الأعصاب الهندية المخدّرة تثور حين قال لزعماء الهنود وهو راحل:

(وعزة الحق وسر العدل، لو أن ملايينكم مُسخت ذباباً لأخرجت الإنجليز بطنينها من الهند. ولو انقلبت سلاحف، وخاضت البحر إلى الجزر البريطانية لجذبتها إلى القاع)!

وفي الآستانة استقبله الصدر الأعظم استقبال التجلة، وأحله أعيان الدولة محل الكرامة. ثم عُين عضواً في مجلس المعارف، فرى في التعليم رأياً، وخطب في الصناعة خطبة، احفظا عليه أعوان الجهل من رجال العلم، وإخوان الضلال من شيوخ الدين. وتولى قيادة الإرجاف شيخ الإسلام لحاجة في نفسه، فافترى على الرجال الأباطيل، وبسّ حواليه النمائم، فلم يجد الأفغاني بدَّا من النزوح إلى القاهرة.

وهنا وجد الصدر الأرحب في رياض باشا، فتجلت عبقريته في التعليم والتنبيه والتوجيه؛ وأوقد بالزيت المقدس شعلته الوهاجة في البيت وفي القهوة، فعشا على ضوئها الهادي طلاب المعرفة وعشاق الحكمة من علماء وأدباء وساسة وقادة. ثم اتخذ من المحفل الماسوني الذي أنشأه، منارة لهذه الشعلة، فقسم الإخوان العاملين فيه شعباً لكل وزارة من وزارت الدولة شعبة. فشعبة الحربية تنظر في ظُلامة الضباط المصريين، وتنذر (ناظر الجهادية) أن ينصفهم من الضباط الجراكسة. وشعب الحقانية والمالية والأشغال تنذر وزراءها أن يساووا المصريين بغيرهم في العمل والمرتب. وراع أولى الأمر ما قرءوا في تقارير الُّشعب، وما سمعوا من لغط الموظفين، وما رأوا من قلق المثقفين، فاستدعاه الخديوي توفيق وفاوضه في ذلك، فقال له فيما قال: (إن سبيل الإصلاح أن يشترك الشعب في حكم البلاد عن طريق الشورى). ثم ازداد جمال الدين إمعاناً في حملته، وانقلب الأدب كله أصداء لأحاديثه وأبواقاً لدعوته، حتى انتهى الأمر - بعد جهاد ثماني سنوات - إلى أن ضاق الإنجليز بسعة نفوذه، فزينوا للخديوي أن يخرجه من مصر فأخرجه.

وانتقلت الشعلة إلى باريس، وسطعت في العروة الوثقى، وظلّت ألسنتها ثمانية عشر شهراً تومض في جنبات الشرق كما تومض المنارة في ظلمات المحيط، حتى دلت على أوكار الطغيان ونمت بأسرار القرصنة، فاستقدمه شاه العجم واستوزره، فلما أشار عليه بالشورى أشاح بوجهه عنه. واستزاره قيصر الروس واستخبره، فلمّا نبأه بحديث الشورى نفر منه. واستدعاه خاقان الترك واستشاره، فلما نصح له بالشورى وتقسيم الإمبراطورية إلى عشر خديويات يتولاها أمراء عثمانيون، زوى عبد الحميد ما بين عينيه؛ ولكنه ألطف الجواب للحكيم الشجاع، وظل على إكرامه واحترامه أربع سنين حاول فيها أن يكبله بحبال المنصب والزواج فلم يستطع، ولكن الموت استطاع أن يكبل الثائر الحر ليبلغ الاستبداد اجله المقدور!

وهكذا كانت حياة جمال الدين كلُّها جهاداً مضنياً في سبيل الله والعلم والحرية والشورى.

كان أينما حل تنفس الصبح واستيقظ الهجود، وأينما رحل ارتجفت العروش واضطربت القيود!

طيب الله ذكرى هذا الإمام العظيم، واجزل له ثواب المصلحين المخلصين في جنات النعيم!

احمد حسن الزيات