مجلة الرسالة/العدد 663/صحائف مطوية:
مجلة الرسالة/العدد 663/صحائف مطوية:
أول زيارة للمسجد الأقصى
للأستاذ أحمد رمزي
كان حتماً عليّ أن أسافر بالباخرة التركية (أزمير) من ثغر الإسكندرية في ربيع سنة 1935، وإذا تأخرت احتج رياض بك الصديق العزيز مدير المستخدمين، ومحبته لدي فوق كلشيء، فلم يكن هناك بد من أن ألحق قطار الصباح المبكر من محطة صغيرة بالريف المصري لأكون على الباخرة قبل موعد سفرها. وكانت الساعة الرابعة صباحاً حينما استيقظت وخرجت من منزلي في يوم برده محتمل وسماؤه لا تزال نجومها ظاهرة، ورذاذ من بعض المطر الليلي يتساقط من جريد النخل العالي، وكان أمامي أكثر من كيلو متر ونصف سرتها على شريط السكة الحديدية قفزاً على الفلنكات الخشبية، حتى دخلت القرية وأهلها نائمون. وقد ظهر ضوء المحطة من بعيد، فإذا بقهوة عبد القدوس في الشارع الرئيسي تفتح أبوابها وعلى مقعدها قارئ يرتل آيات الذكر الحكيم، ما طللنا على الزاوية إلا وهو يستقبلنا بقوله تعالى (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) تهلل وجهي واستبشرت وفرحت بهذا اللقاء وزال أثر التعب، وعددت هذه نعمة من نعم الله.
ولم يمض على ذلك سوى شهر أو بعض شهر حتى صدر أمر ملكي عينت بمقتضاه قنصلاً لمصر بمدينة القدس على رأس قنصلية عامة يشمل اختصاصها كل أراضي فلسطين وشرق الأردن، فانتقلت من حياة ألفتها في تركيا أو عودت نفسي عليها إلى حياة أكثر نشاطاً وإنتاجاً وحركة وأعمق أثراً، ورددت كل ذلك إلى القارئ الذي استفتحت بوجهه.
شعرت بأن نفسي قد اطمأنت وقنعت وتركزت حينما نسيتني وزارة الخارجية لمدة تزيد على سبع سنوات في أراضي الجمهورية التركية، فغدوت لا أشكو منشيء ولا أطلب الرحمة من أحد، وتحجر قلبي فلم أعد أخاف من الوعيد أو التهديد، أو يحركني التهويش، وكنت أنظر إلى الماضي فأراه قد مرّ بغير تبديل، وإلى المستقبل فأقول بأنه سيمر على وتيرة واحدة كما ذهب الماضي، وأحدث نفسي بأن أرجو لكثيرين من ذوي الأطماع والنفوس الطامحة أن ينتهوا إلى الحالة النفسية التي انتهيت إليها، ذلك لأنني بمض السنوات ومرورها متشابهة متلاحقة، وجدت اليقين المفقود ووصلت إلى تسكين البال وراحته، وهما أعظم ما يمكن أن يصل الإنسان إليه إذا بقى اسمه منسياً. ومر عليّ هذا الزمن وهو مملوء بالحوادث أتفرج عليها وأقيدها وأتأمل فيها، وكان أكبر انتصار على النفس هو أن يردها صاحبها عن أن تقف في الصف الأول أو يقعدها عن أن تزج بنفسها في أمور لا يتسامى إليها إلا أولو العزم الشديد والعبقرية الفائقة.
ووصلت إلىشيء من ذلك بالمران حيناً وبالضغط أحياناً حتى وفقت لحد ما إلى تكييف حياتي، فلاءمت بينهما وبين عملي وتفكيري، وعودتها الرضا مع اليقظة والقناعة مع الانتباه، ولم يمض وقت طويل حتى تبين لي أن أعظم الأشياء والحوادث من سياسية واجتماعية والتي يراها الناس بمظهر الجد ويلقون عليها مسحة من الاهتمام، تفقد رونقها الجدي وأهميتها إذا نظرنا إليها بنظرة بعيدة عن الجد، وحللنا كل موقف وكل حركة على أنها إنسانية صرفة. وقد أتاحت لي الخدمة بالخارج معاينة الكثير من هذه المواقف فأصبحت بعض المسائل ذات الصف الأول مثاراً للضحك والسخرية لو عرف الناس حقيقتها الأولى.
إن اعتقاد الكثيرين من الناس أن لديهم مزايا خارقة للعادة، وغالبيتهم من الأذكياء كان سبباً في وقوعهم في أخطاء، من ذلك توهمهم أنه بوسعهم غش المجتمع الذي يعيشون فيه أو الضحك على لحى كل من يتصل بهم، والوصول إلى تغطية الحقائق وإنكارها مدة طويلة من الزمن. إن هؤلاء قابلتهم كثيراً في أوساط الأمم الشرقية فكانوا أول الضحايا لأطماعهم، وكانوا هم المخدوعين بأنفسهم حينما حاولوا خداع الناس وغشهم. وكانت هذه الأفكار تعاودني في وقت انتهيت فيه إلى الاكتفاء بما كنت عليه، إلى الاقتناع بأن كفايتي وعمل تجاربي وهذه هي كل رأس مالي، أقول قد أوصلتني بالطرق والأساليب التي أطمئن إليها للنقطة التي تركزت فيها، فلم أكن أفكر ولا أؤمل ولا أنتظر شيئاً من التغيير أو التبديل أو المزيد.
هذه كانت حالتي حينما دهمتني حركة من حركات السلك السياسي المصري، فإذا أنا بغير تحضير أو بذل مجهود أو رجاء، أنقل من بلاد اقتطعت سبع سنوات ونصفاً من عمري في دراستها وفهمها إلى بلاد جديدة أعلم عنها أشياء وأجهل عنها أشياء، وما أجهله أكثر مما أعلمه برغم قربها وجوارها ومحبتي لها.
وكان هذا النقل حداً فاصلاً في حياتي، إذ لو بقيت بتركيا أو نقلت لأمريكا لاتجهت حياتي اتجاهاً آخر، ولربما لم يكن لي هذا الشرف بان أكتب هذه الكلمة، وأن يقرأ لي قراء الرسالة بعض ما أكتب اليوم. ولقد جاءت هذه النقلة وليدة المصادفة والأقدار، رمية من غير رام، ذلك لأن أولى الأمر لم ينظروا فيها إلى تحقيق شيء من المصلحة العامة أو ما يلابسها من اختيار الأصلح أو الأوفق وإنما قصدوا سد خانة من بعض خانات كانت مفتوحة أمامهم فقذفوا بي إليها، وكان ذلك من حظي إذ غدوت جندياً من جنود الإسلام والعروبة حينما تفتحت أنظاري على أرض فلسطين ومنازل الوحي الخالدة والنبوة.
وحضر قوم لتهنئتي أو لتعزيتي، إذ المتفق عليه أن القدس والشرق منفى يرسل إليه من أفلس في بلاد أمريكا وأوروبا ليستجم ثم يعود إلى بلاد النور. وهذا ما تراءى لهم، وقد كان يصح أن يبدو لي شيء من ذلك، ولكن الآية التي سمعتها من ذلك القارئ الأعمى في محطة من إقليم الشرقية كانت تخفف وقع كل هذا علي وتجعلني أسلم بأن في ذلك الخير كل الخير، وأقول هذه إرادة المولى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).
ووصلت إلى مدينة القدس في الجزء الأخير من سنة 1935 لأتولى عملاً جديداً ولألقى وجوها جديدة. وكان أول ما قمت به هو توجهي لزيارة المسجد الأقصى، وكان ذلك في شهر رمضان، ودخلته وأنا على نية ثابتة بأنه المسجد الذي ورد ذكره في الآية التي تلاها القارئ.
ودخلته وقد غمرتني نفحة من نفحات الله، جعلتني أشعر في قرارة نفسي بحوادث التاريخ الجلي التي حملها على هذا الصعيد، وكأن كل ركن من أركان هذا المسجد يشير إلي، وكأن كل حجر من أحجار قبة الصخرة يحادثني. ثلاث عشرة مائة من السنين، تركة ضخمة من الجهاد والمجد، هل يدرك أهلها ما هي؟
إن الأمم الإسلامية التي نعيش وسطها ونحيا، كانت تبدو في ذلك الوقت وقد أفلست إفلاساً يكاد يكون تاماً في حياتها وتنازلت عن حيويتها وعن أي مظهر من مظاهر الإستقلال، حتى اعتقد كثيرون أنها موطن الخمود والنوم والجمود والتخاذل، فهل تكون لها عودة؟ وهل تقوى أذرعتها ونفوسها الواهية على حمل الأمانة؟ أم ستقعد بها الهمم؟ يوم لم تعد تفكر في شيء سوى ملاذها وتكالبها على المادة وما تسوقه غليه غرائزها الواهية، حينما فقدت كل عناصر القوة والأنفة، وانحطت إلى درجة الجماد فلم تعد تهمها هذه المساجد والمدارس، أو تترك في نفوسها شيئاً أو بعض الشئ، وبعد أن خيل إلى كثيرين أن ماتت لديها كل دوافع الكفاح وفنيت فيها بواعث الثورة والدعوة لخير العمل؟
كنت أطوف بالصخرة وأنا أتأمل كل ذلك وأقول متى تتحرك أم العروبة وتنهض من كبوتها وتستيقظ من نومها العميق وتخلع ما هي فيه من ذلة ومسكنة؟ إن كل ما أراه أمامي في وجوههم وسيرهم ومعاشهم وفي المدن وفي القرى يدعو إلى الأسى والألم، وهم بعيدون كل البعد عن حيوية المبادئ التي قامت عليها الرسالة المحمدية الكبرى.
سرت في أنحاء الحرم وهو متسع الأرجاء، لا أقول يكاد يكون خالياً، بل هو أكثر من أن يكون خالياً، أما أنا فتخيلته في نفسي يفيض بصفوف المصلين: كان يبدو لي صحنه ووجهاته وجوانبه يوم الفتح الأكبر، يوم دخله سلطاننا صلاح الدين بجند مصر فأقام أول صلاة للجمعة فيه، وكيف تبارى العلماء والفضلاء فجهز كل واحد منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون خطيب ذلك اليوم.
كنت أفكر كيف أذن المؤذنون على منائر المسجد الأقصى وأسواره فارتجفت المدينة بأصوات التكبير والتهليل، ومر أمامي كيف تقدم الملك السلطان المتواضع بقبة الصخرة فرسم للقاضي محي الدين محمد بن زكي الدين علي القرشي، أن يخطب، وكيف ألبسه العماد الكاتب جبة سوداء من تشاريف الخلافة العباسية، فلبسها وصعد المنبر واستفتح بسورة الفاتحة، فقرأها بأكملها، وقرأ أول سورة الأنعام، ثم قرأ من سورة الإسراء، ثم قرأ من سورة الكهف، ثم من سورة النمل، ثم من سورة سبأ، ثم من سورة فاطر، كما تجد ذلك مفصلاً في كتاب الأنس الجليل.
ثم شرع بالخطة فبدأها: (الحمد لله معز الإسلام بنصره) وصلى على نبيه الذي أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى وعرج به إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى. . . وذكر أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وصلى على آله وأصحابه والتابعين؛ وقال (أيها الناس ابشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام. . . وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه). . . لقد جددتم للإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية والمنازلات الخيبرية والهجمات الخالدية. . .)
كان كل هذا يمر أمام عيني ورأسي مطرق وخطواتي سريعة وأحبس الدمع في عيني حتى انتهيت من قبة الصخرة واتجهن إلى المسجد فدخلت إلى المحراب لأقرأ أثر السلطان المجاهد بحروف ذهبية:
(أمر بتجديد هذا المحراب المقدس، وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مؤسس، عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين ما فتحه الله على يديه سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة).
فأديت تحية المسجد في هذا المحراب الخالد وترحمت على بانيه وعلى أرواح الشهداء وشعرت براحة تملأ نفسي حينما خرجت متجهاً إلى المجلس الإسلامي الأعلى، ماراً بمدرسة قايتباي سلطان مصر، واستقبلني أعضاؤه ومعهم سماحة مفتي فلسطين الأكبر، وقد غمر الإيمان نفسي وتملكتني نشوة لم أتمالك لساني عن التعبير بما يجول بين جوانحي. قلت:
(إننا في فلسطين ومصر أمة واحدة، اشترك الآباء والأجداد في هذا التراث الإسلامي العربي كما اشتركنا في السراء والضراء، فهم قد واجهوا الموت معاً، وعاينوا الهزائم سوياً، كما فرحت نفوسهم بأيام النصر المتلاحقة المتتابعة. وها نحن اليوم نلاقي من أيام الشدائد ما يذكرنا بالأيام الحالكة السواد التي عاشها السلف ومن تقدمنا، فهل كانت أيامهم أقل سواداً من الأيام التي نعيشها؟ كلا كانت أشد وأوقع، فلم يفت ذلك في عضدهم ولا لانت قناتهم أمام مصائبها، ولذلك ألقوا علينا درساً باستشهادهم وموتهم وهزائمهم ومعاركهم وانتصاراتهم، ألقوا علينا درس يقظة وصبر وأناة وعناد وتمسك بالعروة الوثقى وتعاليم الإسلام الخالدة.
يا صاحب السماحة! إن دروس الماضي باقية في نفوسنا لن تبيد أبداً، وإننا نستمد منها قوة إذا ضعفت قوتنا، ونستلهم من وحيها آمالاً إذا ضعفت آمالنا في المستقبل. وإننا لنأتي إلى هذه البقعة الطاهرة وننظر إلى هذا الجامع وإلى صحنه ورحباته وصخرته فنجدد عهدنا لكم، وتغمرنا روح الإيمان والثقة والتمسك والأمانة التي في أعناقنا نحن إخوانكم الذين اشتركنا معكم طول القرون الماضية، ولنؤكد لكم مرة أخرى أن مصيرنا مرتبط بمصيركم وأن حياتنا لا قيمة لها بدونكم.
وأقول أننا نعيش أياماً مملوءة بالآلام والأحزان، ولكن المستقبل لله وحده، وهو الذي ذكرنا في محكم آياته، وأنزل سكينته على قلوبنا وخط في سجل القدر أن هذه الأرض لنا، وأن الأيام التي وعدنا بها مرة بعد مرة، آتية لا ريب فيها.
إن كل الدلائل لتقنعني أن الأمم ومعها مصر ستبعث بعثاً جديداً). . .
كانت عيونهم تفيض بالإيمان ودموع الغبطة، وكانت مودة وصداقة وأخوة، وبدأت حياة جديدة ودخلت دنيا يعمرها الإيمان والعمل في سبيل الله، وكان التوفيق وحقت كلمته تعالى فكانت هي العليا.
حصل ذلك في صباح يوم السبت 14 ديسمبر 1935 وكانت أول زيارة رسمية لي بالقدس وأول عمل أبدأه.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان