مجلة الرسالة/العدد 663/على هامش النقد:

مجلة الرسالة/العدد 663/على هامش النقد:

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1946



(بين الفلسفة والأدب)

تأليف الأستاذ علي أدهم

للأستاذ سيد قطب

عنوان يلخص موضوعات الكتاب، ويلخص الكاتب في الوقت ذاته - وهي مصادفة فذة! - فالكتاب بين اتجاهين في كل موضوعاته: إما فلسفة الأدب، وإما أدب الفلسفة. والكاتب كذلك في هذا الكتاب وفي سواه من كتبه وبحوثه يتجه إلى هذين الاتجاهين؛ فهما قطبا تفكيره وإحساسه بالحياة. سواء كتب في الأدب أو الفلسفة أو التاريخ وهي موضوعاته المختارة

أخرج قبل هذا الكتاب: محاورات رينان (مترجمة)، وصقر قريش، والمنصور بن أبي عامر، والخطايا السبع (مترجمة). والمذاهب السياسية المعاصرة. ونظرات في الحياة والمجتمع. كما نشر عشرات الفصول في شتى المجلات في مثل هذه الموضوعات.

وحيثما نظرت في عمل من أعماله لاحظت أنه ينظر للأدب بعين الفيلسوف، ويتذوق الفلسفة بحس الأديب، ويتناول الشخصيات والحوادث بشعور مزيج من الفلسفة والأدب على السواء

والأستاذ أدهم هنا في كتابه الجديد يجول في ميدانه الأصيل، ويستخدم أفضل ملكاته، فينتج أفضل نتاجه. فالكتاب مجموعة فصول متفرقة يلخصها العنوان المتقدم، وتحتوي على الموضوعات التالية بعد المقدمة: (ملتقى الشعر والفلسفة، موازنة بين أبي العلاء وشوبنهاور، أبو العلاء وفلسفة التاريخ، تولستوي وفلسفة التاريخ، شوبنهاور وفلسفة التاريخ، فكرة التقدم، فلسفة تاريخ الفلسفة، البطل والإنسان الأعلى. السياسة والأخلاق، التمرد على العقل، التاريخ والأبطال)

فهي من حيث الموضوع تلخص اتجاهاته جميعاً على حسب ما أسلفنا. وهي من حيث الشكل فصول مستقلة. وفي هذا النحو من الكتابة يتفوق الأستاذ على أدهم. وهو هنا خير منه في أي كتاب ذي موضوع واحد وفصول مترابطة داخل هذا الموضو ولست أدري إن كان هذا القول يسره أو يغضبه. ولكنه هو الواقع - في تقديري - فهو حين يكتب بحثاً في مقال تتجلى أفضل خصائصه من الدقة والعمق والوضوح، والإحاطة بأطراف موضوعه، وتحليلها للقارئ، بحيث تعطيه الكفاية التي يستريح إليها في حيز محدود؛ وبحيث يشعر أن في هذا الفصل غناء، ما لم يكن هواة المراجع المطولة في الموضوع الذي يطالعه

فهو كاتب مقالة جيد، بل هو في الصف الأول عندنا من كتاب المقالة.

ويحسن أن أصوب هنا خطأ أو بدعة يروّجها من يفهمون الأدب كما يفهمه عشاق الأزياء و (الموديلات)!

لدينا طائفة من هؤلاء يفهمون أن لفنون الأدب مواسم ومواعيد، ولكل فن أو لكل (موديل) باباً معيناً لا يتعداه.

فأدب المقالة قد انتهى في عرف هؤلاء المتحذلقة، كما أن الأوان هو أمان القصة، وكل ما ليس بقصة فهو فصل وتخلف في الأدب.

وفي وقت ما كان المطلوب من الأدباء أن يكتبوا تراجم أو يوميات. وكان المطلوب من الشعراء أن يكتبون ملاحم أو مسرحيات! كما يطلب من الأدباء اليوم أن يكتبوا قصة أو أقصوصة، وإلا فهم متخلفون!

كل هذه الحذلقات منشؤها ضيق الأفق وضعف التذوق، والنظرة إلى الأدب كالنظرة إلى الأزياء كما أسلفت، لكل موعد وإبان!

والحقيقة أن لكل لون من ألوان الأدب موسمه الحاضر في كل آن، والعبرة هي بطريقة التناول لا بشكله، وكل ميسر لما خلق له، وكل أدب أصيل في ذاته فهو أصيل في شكله على تعدد الأشكال وتباعد الأعصار، والمفاضلة بين فنون الأدب على أساس الشكل الذي تؤدي به مفاضلة زائفة، فالفنون كلها من هذه الناحية سواء

وإذا لم يكن بد من المفاضلة، فإنني أحس أن كتابة (المقالة) قد تكون أشقها جميعاً. إذا أردنا أن نحصل على مقالة جيدة، فلا بد في المقالة من فكرة وموضوع، ولا بد من تنسيق داخلي في تسلسل الموضوع، لا يقل عن التنسيق الخارجي بين الفصول المتعددة في الكتاب أو القصة أو المسرحية أو في الترجمة. وأقل فراغ في المقالة أو تقصير يظهر للقارئ بارزاً، في حين قد تختفي هذه المواضع في القصة، لأن الحكاية أو الحبكة تغطي عليها.

ولا أحب أن أرتكب الغلطة ذاتها التي يقع فيها من يفاضلون بين فنون الأدب على أساس الشكل الذي تؤدي فيه. ولكني أريد أن أقول: إن أدب المقالة ليس أسهل ولا أقل مؤنة من سائر الآداب.

ونعود إلى كتاب الأستاذ أدهم، فأقرر أنني خرجت من كل فصل من فصوله بفكرة واضحة كاملة عن موضوعه - بمقدار ما تستطيع (مقالة) أن تحيط بحدود الموضوع - وكل فصل من هذه الفصول لا يقف عند إعطاء فكرة عن الموضوع الذي يعالجه، بل هو يصلح مرجعاً قريباً للباحث في موضوعه، وعلى الأقل مفتاحاً لمراجعه ودليلاً إلى هذه المراجع مأمون الإشارة، موثوقاً بصدقه في الهداية إلى الطريق!

ويشعر القارئ - مع سهولة الأداء ودقته ووضوحه - بأن هناك جهداً ضخماً قد بذل في التحضير، وإخلاصاً للبحث قد توافر في المراجعة، وتثبتاً وتدقيقاً أمام الجزئيات التي يعرض لها. . . وهذه الخصائص هي أقوى ما تطلبه من كاتب يقدم لك قطافه من شتى حدائق الفكر في الشرق والغرب في حيز صغير محدود

كذلك يشعر القارئ في نهاية قراءته للكتاب أنه خير منه وأوسع نظرة إلى الأدب والأشخاص والحياة قبل أن يقراه - وهذه ميزة ليست بالقليلة، وليست كذلك بالشائعة في الكثير مما تخرجه العربية من سيل الكتب في السنوات الأخيرة - بل لا أبالغ إذا قلت: إنها لا تتوافر إلا لعدد محدود من الكتب الكثيرة التي تصدر في كل عام.

ومع أن طبيعة الموضوعات التي تناولها الأستاذ علي أدهم تجعل مجال الخلق الفني فيها محدوداً، إلا أنها استعاضت عن هذه السمة سمات أخرى من الدقة والعمق والوضوح تجعلها في النهاية عملاً فنياً في هذا الحيز المعلوم، وبخاصة ذلك الفصل القيم الذي كتبه عن أبي العلاء، فهو من أفضل ما قرأت عن المعري في القديم والحديث، وقد جاء في مقدمة المؤلف قوله:

(عمل المفكرين والفلاسفة هو إعداد الجو الذي يموج بمختلف الآراء والمذاهب والنظريات. ومن طبيعة القوة الخالقة أنها لم تكشف الأفكار ولا تبتكر النظريات، ولا توجد المذاهب الفكرية، لأنها موكلة بالبناء والتركيب والإنشاء، وليس من أربها الكشف والتحليل والتوضيح والتفسير. فهي تتناول الأفكار والمذاهب والنظريات، وتنفخ فيها روح الحياة، وتضفي عليها الحلل السابغة والألوان الزاهية، ولكي يزدهر الأدب ويسمو الفن، لا بد من وجود هذا الجو المليء بالأفكار، الحافل بالمذاهب والنظريات. ومن ثم كانت أزمة الخلق الأدبي العظيم في تواريخ الآداب قليلة نادرة؛ وبلوغ هذه الذروة في الأدب والفن يستلزم تلاقي قوتين: قوة العبقرية الخالقة، وقوة الزمن. والشاعر أو الكاتب أو الفنان يسمو ويتسع أفقه إذا عرف أشياء قيمة عن الحياة والدنيا قبل أن يتناولهما في فنه؛ والتفكير الفلسفي يجدي على الأدب ويزيد ثروة الخيال، ويعين على إطلاق العقول من قيود الأهواء والنعرات، وتصفيتها من شوائب التعصب والضيق؛ وتأمل عظمة الكون وجلاله، يكسب الفكر عظمة وجلالاً. وقد تخفق الفلسفة في معالجة مشكلات الحياة ومسائل الوجود، وربما كانت تلك المشكلات والمسائل من وراء طاقة عقولنا المحدودة؛ ولكني أعتقد أنها توفق على الدوام فيشيء واحد، وهو أنها ترينا أن الكون أرحب مما نقدر، وأعظم مما نرى).

وهذه كلمات جيدة، وهي تعطي القارئ فكرة عن طريقة المؤلف في تناول موضوعاته؛ وفكرة عن نظرته للحياة والأدب والفلسفة أيضاً، وهي جديرة بأن تفتح أعين الأدباء الخالقين من الشعراء والقصاصين وغيرهم على أن الموهبة وحدها لا تكفي، فلا بد من التزود والاطلاع، لا في موضوع فنهم وحده، ولكن في محيط أوسع، يشمل الفلسفة فيما يشمل.

ومع أنني أنا شخصياً ممن يدعون إلى تلخيص الفن، والشعر خاصة، من ربقة الذهنيات؛ إلا أن القصد والاعتدال والدقة في بيان الأستاذ أدهم لمنطقة الفلسفة ومنطقة الفن في مقدمته وفي الفصول التي تلتها، تجعلني أتفق معه في وجوب تنوع الدراسات والثقافات لمن يريد أن ينشئ فناً ذا قيمة إنسانية.

وكل ما أبديه من تحفظات هو إلا تظهر الذهنية، وقد أغالي فأقول، بل الفكرية، في العمل الفني، وبخاصة الشعر الذي أحب له أن ينطلق مرفرفاً متخففاً من أثقال الذهن المقيد، والفكر الواعي على قدر الإمكان.

وفي النهاية أذكر أن كتاب الأستاذ أدهم قد حقق في اللغة العربية قسطه المناسب من تحقيق هذا الغرض الذي يريده مؤلفه. وهو (تزويد الثقافة المصرية العربية الشرقية بطائفة من الأفكار والآراء والنظريات التي تمهد السبيل للخلق الأدبي والفني العظيمين)

وقد حقق هذا الغرض بأكثر مما حققتها كتب كاملة ظهرت في بعض الموضوعات التي تناولها أوفى موضوعات قريبة منها. وذلك بلا شك حسب فصول مختصرة في كتاب.

سيد قطب