مجلة الرسالة/العدد 664/وأيضا، تهجم على التخطئة!
مجلة الرسالة/العدد 664/وأيضاً، تهجم على التخطئة!
للأستاذ محمود محمد شاكر
إلى أخي البصام:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فيخيل إلى - والله أعلم - أنك رجل واسع المعرفة، مغرى بالتحصيل، دقيق البصر، تطلب الكلام وإسناده ووجهه ومكانه وضوابطه. وحسب طالب المعرفة أن يكون كمثلك.
وقد طلع على مقالك في الرسالة، فما أدري والله من أي أمريك أعجب؟ من واسع معرفتك، أم من حسن تهديك إلى مواطن الشبهة في كلامي. أم لعلي أعجب من استجلابك للحجة بعد الحجة في تخطئة شيء كان الناس في غنى وراحة عن اضطرابهم بين صوابه وخطئه؟
ومختصر القول هو أنك تريد أن تقول إن الكتاب ينبغي أن يبدأ كما بدئ في بعض كتب رسول الله ﷺ وكتب أصحابه بقولك: (سلام عليك) فإذا كان الختام قيل: (والسلام عليك)، وأن من بدأ الكتاب بقوله: (السلام عليك) فقد أخطأ. أفهذا شيء من أدب الكتابة واتباع السنة وحسب، أم هو قاعدة توجب الاتباع نحواً ولغة ورواية، فيكون من بدأ بقوله: (السلام عليك) معرفاً فقد أخطأ في حق النحو واللغة والرواية؟ وكلامه كله يدل على أن البدء بالسلام المعرف خطأ من قبل النحو واللغة والرواية. أليس كذلك؟
فإذا كان ذلك كذلك، فقد رويت لك قول صاحب اللسان في مادة (سلم): (ويقال السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام بحذف عليكم)، وهذا ولا ريب قول اللغة والرواية والنحو فيما رواه لنا الرواة، في تحديد بدء السلام (الذي هو التحية). هذه واحدة.
ثم ذكرت لك قول الأخفش الذي رددته علي، وقلت إنه لا يعتمد به (هكذا)، لأني لم إذ كر مصدره الذي نقلت عنه، وفيه تصريح بين كتصريح صاحب اللسان، ثم زاد فأظهرنا على العلة فقال إن (سلام عليكم، حذفت منه الزيادة (وهي الألف واللام) كما يحذف الحرف الذي هو من أصل الكلمة في قولنا: (لم يك). وعلة أخرى هي أنه لما كثر استعمال (السلام عليك) بالألف واللام حذفاً لكثرة الاستعمال. وهذا تقرير يدل على أنه اللغة والنحو والرواية تجعل الأصل في السلام المبدوء به هو التعريف.
فإن شئت أن تعرف أن وقع هذا الكلام عن الأخفش فاطلبه في ص 152ج1 من كتاب تهذيب الأسماء واللغات للنووي وفي غيره أيضاً. هذه ثانية.
فإذا شئت أن تزداد علماً فخذ كتاب (المخصص) لأبن سيده ج12 ص 311 وأقرأ قوله: (فأما قولهم: سلام عليك، فإنما استجازوا حذف الألف واللام منه، والابتداء به وهو نكرة، لأنه في معنى الدعاء، ففيه وإن رفعت معنى المنصوب. يريد كأنك تدعو فتقول: (سلاماً). وقوله (استجازوا) دليل على أن الأصل هو التعريف بالألف واللام في ابتداء التحية، وأن الحذف ترخُّص منهم، وهو شبيه بقول الأخفش. هذه ثالثة.
فإن شئت أن تضرب الأمثال لنفسك بالشعر كما ضربتها لي، فاقرأ قول جرير في ديوانه ص 443 وفي النقائض ج1 ص212
يا أمّ ناجية السلام عليكم ... قبل الروح وقبل لوم العذّل
هذه رابعة.
وأن شئت أن تقرأ قول لبيد في الخزانة ج1 ص 217 - 218، وفي ديوانه:
إلى الحول ثم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فافعل تجد قولهم أن كلمة (اسم) مقحمة، وتقدير الكلام فيما يقول النحاة: (ثم السلام عليكم) وتجد أيضاً في إحدى روايات (إلى سنة ثم السلام عليكما). هذه سادسة.
فانظر لنفسك هل أخطأ كل هؤلاء وأصبت أنت؟
واعلم مشكوراً أن المقام في هذا كله مقام ابتداء لا مقام ختام مسبوق بسلام منكرَ غير معرف.
وأما نص ابن قتيبة فهو كلام لغموض فيه، فالرجل يقول لك: (تكتب في صدر الكتاب: سلام عليك، وفي آخره السلام عليك) ولم يقل لك إنه ينبغي، ولا أن القاعدة (أن تكتب في صدر الكتاب كذا. . .)، وهو إنما ذكر هذا في كتابه في (باب الهجاء) لا في باب أدب الكتابة كما ترى، ولم يأمر الرجل ولم ينه، ولم يقل لك إن من قال في أول كتابه (السلام عليك) معرفاً فقد أخطأ، كما شئت أنت تقوَّله. وأما ما ذكره من أمر التعريف، فإنه أراد أن يعلمك لم عُرّف ثانيا وقد جاء منكراً وهو أول، وكان حقه أن يأتي في الآخر منكراً مرفوعاً كما جاء في الأول فقال لك: (لأن الشيء إذ ابدئ بذكره كان نكرة، فإذا أعدته صار معرفة، وكذا كل شئ تقول: مر بنا رجل، ثم تقول: رأيت الرجل قد رجع. فكذلك لما صرت إلى آخر الكتاب، وقد جرى في أوله ذكر السلام عرفته أنه ذلك السلام المتقدم)، ويريد أن يقول إن التعريف هنا (للعهد لا للجنس). هذا كل ما في كلام الرجل، لم يوجب شيئاً ولم يمنع شيئاً.
وأما الآية التي في سورة مريم من قول عيسى عليه السلام: (والسلام على يوم ولدت ويوم أموت. . .)، وما جاء من قول الزمخشري فيها: (قيل أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله) يعني في قول الله تعالى ليحيى: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت. . .) فذلك تفسير من الزمخشري لمعنى (ال) في قول من قال إن التعريف هنا للعهد. وأبي الزمخشري أن يكون كذلك، لأن العهد هاهنا باطل عنده، فالسلام المذكور في قصة يحيى كان من قول الله سبحانه قبل مولد عيسى، وهو آت في أول السورة في الآية (15)، ثم مضى بعدها (واذكر في الكتاب مريم) وذكر الله سبحانه قصتها، حتى أفضت إلى كلام عيسى وهو في المهد إذ قال: (والسلام على يوم ولدت. . .) في الآية (33)، فبين السلام الأول والثاني (1) انقطاع في المدة (2) وانقطاع في السَّرد (3) واختلاف في مبتدئ السلام وملقيه، فالأول من الله والثاني من عيسى. هذا وسلام عيسى في الآية الثانية المعرف فيها السلام، ابتداء ولا ريب.
ومن أجل ذلك ذهب الزمخشري إلى أن التعريف هاهنا للجنس لا للعهد (وهذا كما ترى يخالف كل المخالفة ما أراده ابن قتيبة في كلامه). ثم ذكر الزمخشري نكتة البلاغة في التعريف فقال إن تعريف الجنس هو الصحيح لا تعريف العهد (ليكون ذلك تعريضاً باللعنة على متهمي مريم وعلى أعدائها من اليهود). وهذا عندي تعليل ضعيف جداً من الشيخ رضي الله عنه، وكان خليقاً به أن يصرف عنه وجهه. ولولا أنه كان مولعاً بنكت البلاغة لما وقع في مثل ما وقع فيه. وأن شئت أن تزداد فقهاً ومعرفة بما قلت فاقرأ تفسير الشهاب الخفاجي والآلوسي والقونوي وأبا حيان وكتاب الأنموذج للرازي وتدبر ما فيها كل التدبر.
وأما قوله في الآية الأخرى من سورة طه: (والسلام على من أتبع الهدى) إن معنى التعريف هاهنا التعريض بحلول العذاب على من كذب وتولى، فهذا جيد وحسن لقوله تعالى في الآية التي تليها: (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى). وهذا أيضا طلب لنكت البلاغة، وتبيان لأن التعريف هاهنا للجنس. ولكن الزمخشري لم يقل لك، ولا غيره فيما أحسب يقول لك: إن تعريف الجنس ينبغي أبداً أن يكون متضمنا معنى التعريض بشيء كالعذاب أو الويل أو الهلاك أو سوى ذلك كله.
ولو كان ذلك كذلك أيها الصديق لكان قصر تعريف الجنس على التعريض عجناً من العجب المضحك، فانظر إلى قولك (سلام عليك) التي كان أصلها (سلاما عليك) منصوبة بفعل محذوف، والتي عدل بها من النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات معنى السلام واستقراره، مع بقائها في معنى الدعاء، فأنت إذا عرفتها تعريف الجنس فقلت (السلام عليك) اقتضت التعريض، فعندئذ تقول لي كما قلت: (وبديهي أيها الأستاذ أنك لا تعني بقولك (السلام عليكم) في بدء كتابك الأول تعريضاً بأحد إذ لا حاجة إلى التعريض).
فخذ عندئذ أختها وهي قولهم (حمد الله) التي كان أصلها (حمداً لله) منصوبة بفعل محذوف، والتي عدل بها من النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات معنى الحمد واستقراره، مع بقائها في معنى من معاني الشكر والدعاء. فإذا عرفتها تعريف الجنس فقلت: (الحمد لله رب العالمين) أفيقتضي ذلك تعريضأً أو توبيخاً أو تهكماً!!! ألا يكون هذا عندئذ عجباً من العجب المضحك. . .
ومن أجل تعريف الجنس ما أتعب الزمخشري نفسه في آية مريم وفي آية طه، وفي سورة الفاتحة من تفسير قوله: (الحمد لله) فاقرأه هناك وتدبره كل التدبير.
وأما مسألة حديث التشهد فأراك جُرت فيها على الحق. ولقد قلت في مقالك: (أما أهل القبلة فتشُّهدهم بعد الصلاة مختلف فيه، فمنهم من يقول (للسلام عليك). وقبل كل شئ، فتشُّهد أهل القبلة لا يكون (بعد الصلاة) وهو (من الصلاة) ومن تركه أو بدّل فيه بطلت صلاته. هذه واحدة، وأما الثانية، فاختلاف أهل القبلة ليس يقال كما رويتَ، فالصحابة جميعاً والتابعون من بعدهم، وأئمة المذاهب من عرفت منهم ومن لم تعرف، مذهبهم تعريف السلام في التشهد كله إلا (ابن عباس) من الصحابة، والشافعي من أصحاب المذاهب، فإنه ارتضى تشهد أبن عباس وآثره لأنه عنده (هو) أتم الروايات وأكملها، ولكنه لم ينكر التعريف، ولا استنكره المزني ولا سواه من أئمة مذهبه. فلو أنت عنيت نفسك فرجعت إلى شرح البخاري كابن حجر (ج2 ص 261 وما بعدها) والعيني (ج6 ص 109 وما بعدها) لعرفت أن الصحابة والتابعين مجمعون على روايته بالتعريف في التشهد إن رسول الله ﷺ كان يعلمهم التشهد كما يعلم السورة من القرآن، ولرأيت النووي وهو من أصحاب الشافعي يقول: (قوله السلام عليك أيها النبي، يجوز في السلام في الموضعين حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل). أبعد هذا يا سيدي تطالبني بأن أطلعك أنت (على نص يوثق به يشير إلى أنهم منذ زمن الرسول (ص) يقولون في التشهد السلام عليك أيها النبي)! عسى ولعل، ولعل أهل القبلة أخطئوا جميعاً وأصبحت أنت! بما أوتيت من التدقيق والتحقيق والفحص وطلب المواثيق!!
وأما إنكارك الحديث على ما خيّلت لك، وأنه مما لا يستشهد به أهل اللغة والنحو، واحتجاجك على ذلك بشيء اقتطعته من بحث في خزانة الأدب ج1 ص 6، ولم تتمه على وجهه بالتدقيق والتحقيق والفحص وطلب المواثيق كدأبك وعلى عادتك، فهذا باب وحده لو ارتطمت فيه لم تعرف مخرجك منه. وما الذي ألجأك إلى هذا أيها العزيز؟ الآني أتيتك بحديث المسند ج4 ص 439 وفيه النص على أن المسلمين كانوا يبدءون التحية بقولهم (السلام عليك)؟
والحديث الصحيح الذي استخلصه رواتنا رضي الله عنهم، فنفوا عنه كذب الكاذبين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين حجه في اللغة ولا في اللغة والنحو، ولو زعم لك أنه لا يكون حجة في اللغة ولا في النحو فاعلم أنه مبطل، وأنه غافل لا يدري ما يقول. ولو رجع إلى الخزانة التي نقلت عنها (وحسبك ولا أزيدك) علمت أن صاحبك نقل الذي نقلت لي في كلامك، وأنه رجل عالم طالبُ حق لا مغرور بباطل، فقد ذكر وجوه اعتراض المطلبين في الاحتجاج بالحديث ثم نقضها حجة حجة، وصرح بأن تدوين الأحاديث وضبطها وقع في صدر الأول من قبل أن تفسد اللغة وترتضخ الألسنة باللكنة الأعجمية، كما يعلم ذلك من درس تاريخ رواية الحديث وتدوينه حقّ دراسة، ثم صرح في آخر كلامه بأن لا فرق بين جميع روايات الحديث مهما اختلفت ألفاظها، في صحة الاستدلال بها في اللغة والنحو. وكنت حقيقاً أن تقرأ كلَّ هذا قراءة طالب العلم، فلا تسألني أن أغلق باب الاستشهاد بالحديث، من أجل كلمات رويتها لم تحسن وضعها في مواضعها.
وإلا فحدثني أيها العزيز لم ترى اللغة، كصاحب اللسان، وابن الأثير، والزمخشري صاحبك وصاحب كتاب الفائق، وسواهم ممن عرفت ومن لم تعرف كتبهم استشهاداً بالحديث على معان لم توجد في غير، ولو طلبت لها شاهداً من الشعر أو غيره لم تجد. فإما أن يكونوا هم المطلبين، وإما أن تكون أنت على حق، فنبطل من نصف اللغة ونصف النحو وأشياء أخرى كثيرة.
ثم انظر إلىّ أيها الصديق! لست أنت الذي تقول هذا، وتقول لي أيضاً في صدر من كلامك ومنهما ومقرعاً إنه (فإنني أن الحديث لا يستشهد به اللغة والنحو). هو أنت الذي لم يلبث في آخر كلامه أن يناقض هذا كل المناقضة، فنقلت كتاب رسول المقوس، وهو من الحديث، وكتاب أبي بكر إلى المرتدين، وهو من رواية أهل الحديث، ثم أردفت ذلك بقولك: (ومعلوم أن هذه الكتب مدونه ويستشهد بها اللغوين والنحاة)؟! يا عجبا كل العجب! فمن الذي روى لك هذه الكتب سواهم الذين رووا لك الحديث، وحديث التشهد، وحديث سلام في المسند؟ وأين دونت هذه الكتب إلا في الكتابة دوّن فيها الحديث؟ وما فرق ما بين تدوين الحديث وتدوير هذه الكتب؟
وإن كنت قد ارتضيت هذه (الكتب المدونة) حجة يوثق بها، فخذ كتاب الزمخشري، وهو المسمى بالفائق ج2 ص 3، واقرأ فيه وفي غيره: (من محمد رسوله. . .) إلى آخر الكتاب، ولم يعترض الزمخشري أيضاً على هذا البدء، ولم يقل إنه خطأ في اللغة ولا في النحو.
ثم خذ صاحبك الطبري ج3 ص 156 الذي نقلت منه كتاب رسول الله إلى المقوقس، وكتاب أبي بكر، وصاحبك (كتاب صبح الأعشى) ج6 ص 465، الذي نقلت عنه كتاب الرسول إلى كسرى، ثم أقرأ هداك الله: (لمحمد النبي رسول الله ﷺ من خالد بن الوليد. السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. . .) إلى آخر الكتاب.
فهل قنعت أيها العزيز بما سقت إليك؟ وأمحضك النصح أن لا تتبع تلك الناجمة التي نجمت بين أهل اللغة تريد أن تتبجح بالعلم والمعرفة والفقه، فتأتي صواب الناس ترميه بالخطأ على الشك والتوهم وسوء التأويل وفساد الفهم. واعلم أن العربية تعَلم العقل، فمن شاء أن يطلبها بحقها فليصبر عليها صبر المؤمن. وأنت امرؤ فيك خير فلا تضيع ما آتاك الله بالعجلة والتسرّع، فتثبت قبل أن تحكم، وتدبر قبل أن تقطع، واستقصِ قبل أن تستوثق، وانظر لنفسك قبل أن تزل بك قدم، واعلم أن شر أخلاق الناس اللجاجة، وشر اللجاجة لجاجة العالم، وشر لجاجة العالم لجاجته فيما لا يعلم أو فيما لا يحسن، وأن نصف العلم قول المرء فيما لا يدري لست أدري، فالفهمَ الفَهمَ فيما تلجلج في صدرك، هداك الله وأعانك وسدّد خطاكَ. والسلام عليك ورحمة الله.
محمود محمد شاكر