مجلة الرسالة/العدد 664/من مذكراتي في أمس القريب:
مجلة الرسالة/العدد 664/من مذكراتي في أمس القريب:
حول إنعام. . .
للأستاذ فؤاد صروف
في 26 أبريل 1945:
شرف الملك أمس حفلة افتتاح معمل المصل الجديد، وأنعم على الدكتور شوشه بريبة باشا. فنعم المنعم ونعم المنَعم عليه. . .
وقد كنت منذ سنوات في مجلس أديب كبير، فدار الحديث على الرتب والأوسمة. وكان أغلب الرأي بين المتحدثين أن تلغى الرتب كما فعلت العراق وسوريا ولبنان، ولكن الكبير قال: إذا ألغيناها فكيف نستطيع أن نميز الرجل الذي يستحق التقدير والتميز لما يتفوق فيه على الأقران من علم أو أدب أو فضل؟ وكانت الكلمات الأخيرة في السؤال لا تزال تضطرب على شفتي السائل، حين دخلت المجلس سيدة ذكية حصيفة، فوجه السؤال إليها، فقالت دون أن تتردد لحظة واحدة: حسبه تقدير النخبة من المثقفين. فكان قولها فصل الخطاب.
والدكتور شوشه، ظفر أمس بعد إنعام الملك السامي، بالحسنيين: تقدير الملك المتمثل في رتبة عالية، وتقدير النخبة من المثقفين، الذين عرفوه فأنزلوه من تقديرهم في المنزلة العالية.
وحين قرأت ذكر الدكتور علي توفيق شوشه أمس، تزاحمت الخواطر على ذهني، فقد عرفته أول ما عرفته، حين كان وكيلا لمعامل الصحة فمديرا لها. فكان يومئذ مكباً على البحث العلمي الأصيل، مستغرقاً فيه دون أن ينصرف عن شئون الإدارة. ولم يكن بحثه بحثاً في فراغ - على ما يقول علماء الطبيعة، بل كان بحثاً في مشكلة معينة، لها صلة بالإنسانية التي تتعذب، وبالإنسانية المصرية على وجه خاص. فقد كان همه أن يكشف سبيلا لمكافحة سم العقرب الذي يكثر المصابون به في مصر. وقد فعل.
ثم عرفته محاضراً مجيداً بالإنجليزية والعربية، وقد قيل لي إنه أحسن محاضر بالألمانية، ولكن لا أعرفها. وعرفته زميلا محترم في المجتمع المصري للثقافة العلمية، و المجمع حين تولى رئاسته. فتجلى لي في كل هذا رجلا آخر: فهو رجل ليس واسع العلم دقيق البحث وحسب، بل يستطيع أيضا أن يبسط العلم وينقله من لغة إلى لغة نقلا بارعاً، تعلو عبارته العلمية الدقيقة سمة من طرافة الأدب. وقد أتيح لي أن أنشر في المقتطف، وفي كتب المجتمع السنوية، نصوص أربع من محاضراته في الغازات الحربية، وسيرة كوخ وأعماله، والمعركة اليومية في الجسم البشري، وتقدم الطب خلال خمسين سنة. وكان لابد من أن أديم النظر فيها عند تصحيح التجارب، وكنت أتوسل بتلك التجارب لكي أذهب إليه في المعامل لأظفر بشيئين: أن أفحصها معه فأضمن دقتها، بين إدارة المعامل وبحثه العلمي الأصيل، أن أقدر أسلوبه البارع في تقريب العلم، وحسه اللغوي الدقيق في التعبير عن المعاني العلمية ومصطلحاتها، قديمها وجديدها على السواء.
ثم عين وكيلا لوزارة الصحة، وكأن السنين الطويلة التي قضاها في تحصيل العلم وممارسة بحوثه الأصيلة، وإعدادٍ المحاضرات لقريب معانيه وإلقائها، وما علمه بالتجربة من حاجة مصر إلى الإصلاح الصحي من وجوهه الكثيرة، وما فطر عليه من حب الخير والعمل - قد احتشدت جميعاً، لتكون الأساس لمشروعات الصحية المتعددة التي وضعها أو محصها مع الوزراء الذين تولوا الوزارة، والمتخصصين من رجال الوزارة ورجال كلية الطب، فصح فيه يومئذ ذلك القول المأثور: (هذا المنصب لهذا الرجل).
هذه المعاني الثلاثة: البحث العلمي الأصيل الذي يحول بعض المجهول معلوماً - والمحاضرة العلمية المثقفة التي تجعل بعيد معاني العلم دانياً منقاداً، وتطبيق قواعد العلم وأغرض العلم في أعمال الحكومة والإدارة لتحقيق خير الشعب - هي التي تألقت في ذهني حين علمت بأن جلالة الملك تفضل فحصه بأنعام سام، كان إنعاماً على العلم النافع جميعاً.
وهذه المعاني الثلاثة تقرر حقيقة، وترسم دستوراً لجميع العاملين. اما الحقيقة، فمسطورة في سجل خدمته، واما الدستور فزكن من الخطة العظيمة التي لابد لمصر من أن تختطها - منذ اليوم بل منذ الساعة، لكي تعد نفسها لمواجهة مشكلات الغد وحلها، حتى تستطيع أن تقيم في هذا الوادي عالماً افضل من عالم امس الغابر، عالماً يقوم على الوفر دون العوز، وعلى الصحة دون السقم، وعلى العلم دون الجهل، وعلى أخلاق الرجال.
وفي وضع هذه الخطة وانفاذها لابد لنا من أن نربي العلماء الذين يتولون العلم ببحوثهم الأصيلة. ولست في حاجة الى إقامة الدليل على أن العلم قوة، وينبغي أن نطلبه ولو في الصين. فليس ثمة ناحية من نواحي حياة الفرد او المجتمع لم يتغلغل فيها العلم فرفع من شأنها وأصلح من أمرها: الزراعة والصناعة والغذاء والصحة والمواصلات والمخاطبات. وكثير مما أنجبه العلماء في سائر بلاد الناس، يصلح لنا فيصح أن نتعمق فيه ونتدرب عليه ثم نتخذه في ما يصلح له من شؤننا. ولكننا نجد في بيئتنا مشكلات خاصة، لا يصلح لبحثها أو حلها إلا علماؤنا. وهم ماضون في ذلك بحمد الله، ولكن عددهم يجب أن يزداد أضعافاً. وتأييدهم من الحكومة والشعب يجب أن يستفيض في الميزانية، وعلى ألسنة الناس وفي مجالسهم وصحفهم، وصلتهم بالصناعة المصرية ينبغي أن تتوثق. وحبذا لو طالع القراء الكتب السنوية التي أصدرها المجمع المصري للثقافة العلمية - وهذا المجمع الذي كان الدكتور شوشة أحد مؤسسيه، ثم احد رؤسائه - إذن لوجدوا في مئات من الصفحات، في خمسة عشر مجلداً نفسياً أو تزيد، عشرات من المسائل القومية في الزراعة والصناعة وتوليد الطاقة، وحفظ التربة، وكفاح المرض، وتجويد الغذاء وتحسين الصحة العامة لا يصلح لبحثها وحلها إلا الاكفاء من المصريين، الذين جرى على حب البلاد والسعب في عروقهم، وتدربوا على البحث العلمي الأصيل. وما خبرية الدكتور شوشة وسم العقرب، ومرشحات الماء في المنازل الريفية والقرى الصغيرة والمتوسطة الذي أخرجها منذ سنوات، سوى مثلين وحسب.
أما تبسيط العلم وتقريب معانيه البعيدة، وبث روحه العالية في جماعات الناس التي لم تظفر لسبب من الأسباب بالقسط الذي تتوق إليه منه، فقد أصبح لزاماً في هذا العصر الذي اتسع فيه نطاق المعرفة اتساعاً لا عهد لنا بمثله في عصر سابق من عصور التاريخ. فكل علم من العلوم القديمة قد نما واتسع نطاقاً وتشعب فروعاً، فتولدت منه علوم جديدة كل منها أدق من سابقه معنى وأشد عناية بالتفاصيل، فهو لذلك أشق على الحصر والإحاطة به. فقد كشف المنظار عن كواكب ونظم منظومة من النجوم والسدم يتعذر على عقل واحد أن يلم بها جميعاً، وأصبح رجال الجيولوجيا يذكرون ألوف الملايين من السنين على حين كان رجال العصور السابقة لا يذكرون إلا الألوف، وأماط علم الطبيعة اللثام عن كون منتظم في الذرة، والبيولوجيا عن كائن حي في الخلية. وأبان علم وظائف الأعضاء طائفة يتعذر حصرها من أسرار الأعضاء، وأثبت علم النفس وجود عوالم من الفكر والشعور في كل حلم، وجاء رجال علم الإنسان فوصفوا لنا صورة عجيبة عن قدم الإنسان على سطح الأرض، وجاراهم رجال الآثار فأخرجوا من جوف الأرض مدناً وحضارات، وتبعت ذلك المخترعات العجيبة لتي يسرت أساليب الحياة، ولكنها خلقت طائفة كبيرة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية تكاد تستعصي علي الحل.
وفي هذا كله روعة تأخذ بمجامع النفس، ولكن يكمن فيه خطر لابد من تبينه والتحذير منه وصار لكم علم، ولكل فرع من علم ألفاظ خاصة لا يفهمها إلا المتخصصون. وصار زعماء معظم الأبحاث عاجزين عن وصف ما يكشفون بلغة الناس.
ومن هنا اشتدت الحاجه إلى المعلم الذي يستطيع أن يفهم الشعب ثم يحطم الحاجز الغوي القائم بين المتخصص والأمة، أو الحاجز الغوي بين لغة ولغة أو كليهما، كما هي الحال عندنا الآن.
ومن آيات التوفيق في كفاح هذا الطراز من العلم المثقف. والدكتور شوشه مثال بيننا لما أسداه أولئك العلماء إلى قومهم. فعلمه الواسع الدقيق يمده بالقدر على الغوص على المعاني البعيدة في العلوم التي توفر عليها، وخياله الخصب يمهد له تصوير تلك المعاني صورا شائقة قريبة، وحسه اللغوي الأدبي يمكن له إفراغها في عبارات ناصعة عربيه وبيان عال. والقوى الثلاث تضبط إحداها الأخرى: فالعلم يضبط الخيال فلا يشذ، ويمسك القلم فلا يغرق، وإذا العبارة القصيرة، أو المحاضرة الطويلة، آية في الوضوح والرواء والإحكام.
وهذه مهمة شاقه كالصبابة لا يعرفها إلا من يعانيها، ولولا العمل العظيم الذي يضطلع به الدكتور شوشة في وزارة الصحة، وما لمشروعاتها من أثر خطير في مستقبل الشعب المصري، لكنت رجوته، ولكتبت أحثّ الحكومة، على أن ينقطع للمحاضرة في الموضوعات التي توفر عليها وشغف بها.
ولكن العمل الذي يضطلع به في الحكومة ينزل في الصميم من مستقبلنا. فصحة الشعب، من أي النواحي أتيتها، هي والأرض رأس مالنا الأول، وواجب محتوم على كل قادر أن يشارك في دراسة المشكلات واقتراح حلول لها والعمل عملا جاداً متصلا على تنفيذها. وقد مضت سنون على الدكتور شوشه، وهذه الناحية من حياة مصر في المركز من عنايته، وقد طالما سمعه يتحدّث فيها مع زملائه حين كانت وزارة الصحة وكالة، ثم في وزارة الصحة وكلية الطب ومعهد الأبحاث وغيرها من الهيئات.
وما قطعه هو وزملاؤه. ليس إلا مرحلة قصيرة من طريق وعر، في حرب تُشن على الجهل والمرض والفاقة، وستظل أرحاؤها تدور، حتى تصبح الكنانة جنة على الأرض.
فؤاد صروف