مجلة الرسالة/العدد 665/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 665/الأدب في سير أعلامه:
مِلْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الحرية والجمال
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 6 -
وبينما كان يتكلف ملتن المرح، ويستجيب لدواعي الشباب فيغني أنغام الحب، كانت نفسه تنطوي على معاني غير هذه هي في الواقع أرب مشاعره ومنتجع خواطره ومتجه خياله، فتراه ينظم قصيدة استهلها بقوله (إيه يا لغة قومي) أشار فيها إلى رغبته في التخلص من العب واللهو وعبر عن عظيم طموحه فقال إنه يفضل أن يتخذ لغة قومه سبيلا إلى موضوع اخطر شأناً فيستخدمها إذ يسمو عقله حتى يبلغ أسباب السماوات فيطلع إلى الآلهة وهم منصتون إلى ما يترنم به أبولو؛ ثم يغني هو بدوره فينبئ عن الأشياء الخفية التي وقعت ولم تزل الطبيعة في مهدها.
وهكذا يصور له كبرياء عقله موضوعا عظيما لشعره فيتخيل وهو دون العشرين ملحمة كونية تدور على خلق الدنيا وتكشف عن أغراض الدين وعن وضيفته فيها؛ وما يرضي طموحه موضوعا أقل من هذا، ولا تقنع فطرته الشاعرة ولا عبقريته الباكرة بما يقنع به غيره من الشعراء فيتعلق خياله بأعظم ما يتعلق به خيال وأعمقه، وماذا وراء الخليقة والآلهة في مسارح الذهن ومطارح الخيال؟ وإنا لنلمح في ما يطمح إليه صورة مبهمة غامضة للفردوس المفقود، ونراها هنا إغريقية الأشباح أولمبية الآلهة، فهل كان يفكر الشاعر الناشئ منذ ذلك العهد في آيته الكبرى ويريد أن يتخذ من مثيولوجيا الإغريق مادتها ولباسها؟ ذلك ما لا نستطيع الجزم به؛ على أننا نجزم في هذا الصدد بأن الشاعر كان يومئذ يشغل باله ويهجس في نفسه موضوع عريض فخم، ولسوف نرى أن هذا الموضوع لن يبرح يطرق خياله ويهز نفسه حتى يتغنى بالفردوس المفقود. . .
وإنه ليرتفع بشعره إذا تناول أمراً يتصل بالدين، فيمد جناحي عبقريته ويرتفع ويحلق أفق لم يكن ليبلغ في العلو مثله في غير ما يتصل بالدين؛ تجد مثلاً رائعاً في أنشودته الجميلة النبيلة التي نظمها سنة 1629 وهو في الحادية والعشرين من عمره في عيد ميلاد المسيح وسماها (أنشودة في صباح الميلاد) وهي إذا نظرنا إلى سنة وقتئذ جديرة بالإعجاب حقاً، تستحق ما نالت يومئذ من عظيم الثناء ويستحق صاحبها ما اكتسب من ذيوع الصيت ونباهة الاسم. ولقد أحس كل من قرأها أنه تلقاء روح عبقرية وثابة غلابة تملأ النفس شعوراً بتكامل القوة وإعجابا بروعة الفن وافتننا بسحر الخيال. هذا إلى براعة الموسيقى وسمو اللحن وجلال الفكرة، ولعلها في زعم بعض مؤرخي الأدب أجمل أنشودة في بابها في اللغة الإنجليزية كلها.
تخلص ملتن في هذه الأنشودة من تأثير أوفيد، وما عسى أن توحيه أوصافه وصور جماله من فتنة وإغراء، وأراد أن يلبس معانيه لباساً روحانياً طهوراً وذلك بأن يطلق روحه من عقال الجمال اللغوي فيختار موضوعاً يواتي ما يطلب. ولقد جمع في أنشودته هذه بين جلال الدين وجمال الطبيعة، وكأنما أراد بذلك أن يشير إلى وضيفة الشاعر الملهم إلهاما قدسياً وإلى صفات فنه، فجاءت هذه الأنشودة مثلاً يضربه لمقدرته على التوفيق بين الجمال الذي يطرب له والسمو الروحي الذي يتعلق به.
تتألف هذه الأنشودة من سبع وعشرين فقرة بكل فقرة ثمانية اسطر؛ ومهد لها بمقدمة من أربع فقرات، فهي كما ترى ليست بالقصيرة وبخاصة إذا ذكرنا بعض ما يختص به شعر ملتن وهو الإيجاز البليغ الرائع في التعبير عن المعنى المراد، والإيحاء القوي الواسع في استعمال الكلمة المختارة.
يصف ملتن الطبيعة قبيل مولد الطفل وبعد مولده فيبدع ويعجب؛ ويصور فرحة الكون المتطلع إلى المولود تنبعث من سمائه وأرضه لحناً جديداً تغنى به الكواكب وتجاوبها الأرض ويمتزج به غناء الملائكة، فتنتشي انفس الرعاة والناس، ويحسون تآلفاً واتساقا بين موسيقى الكون وموسيقى نفوسهم؛ وما هذا اللحن الجديد الذي تتجاوب به أرجاء الطبيعة وتستجيب له الأنفس إلا رمز لما يبشر به المسيح وما يدعوا إليه من سلام وصفاء ومحبة. ويملأ الشاعر نشيده بما أبدع من صور، فهناك رهط الرعاة فوق المروج الخضر في هيئتهم القروية الساذجة. وهناك الصفان الأول والثاني من قبيلٍ أولي أجنحة من الملائكة بين لابس خوذة وحامل سيف، ومدرع بدرع براق. ثم هناك رهط من الآلهة بين إغريقية وفرعونية، وأنماط من الأرواح الطيبة والخبيثة، وعدد من عذارى الميثولوجيا ومخلوقاتها من طير ووحش وجن. هذا إلى ما سوَّى خياله من مباهج الطبيعة ومفاتنها، وما ابتدع بيانه من ضروب التعبير وصور التشبيه، وأشكال المجاز، وألوان الاستعارة، تنظمها جميعاً موسيقى تكافئ موضوع الأنشودة وتواتي غرض الشاعر، وينهض كل أولئك على أدلة قوية على ذوق مطبوع وفن موهوب وذهن متمكن.
وكأنما أغراه نجاحه بأنشودته هذه بهذه الناحية الدينية فأراد أن يعكف عليها. فها هو ذا ينظم قصيدة جعل موضوعها صلب المسيح، وأخذ يمهد إلى ما لاقاه من ألم هائل وعذاب مخيف؛ غير أنها لم تصادف ما صادفته أنشودة الميلاد من هوى في نفوس سامعيها من أقرانه فكرهها وشهد على نفسه أنه أخفق فيها، وأمسك عن إتمامها لأنها (مطلب فوق ما يصح أن تتطاول إليها سنة يومئذ)؛ وكان ملتن على شدة اعتداده بنفسه يرى مواطن الضعف فيما يأتي من عمل فينتقد نفسه ويتخلص من ضعفه وتلك إحدى محامده ومن أجلها خليق بأوفر الثناء.
وفترت بعد تلك القصيدة حماسته لما هو موصول بالدين، وتطامن طموحه إلى حين؛ فأنصرف إلى مجال آخر لم يتناوله من قبل وهو مجال الطبيعة ومشاهدها وما أنبث فيها من جمال. ولعل إغلاق الكلية بضعة أشهر لتوقي الطاعون وزيارة ملتن أثناء ذلك للريف مما ساعد كذلك على إقباله على هذه الناحية الجديدة في شعره.
نظم ملتن في العام التالي قصيدة في عيد الربيع عنوانها: (أغنية في أحد أصباح مايو) فوصف شهر الورد وبهجته وما يبثه في النفوس من مرح وشباب وسحر، وكيف ترتدي الغابات والخمائل بردائها، وتزهى الربى والخمائل بنعمائه؛ ونظم قصيدة أخرى هي (نجوى البلبل) تفيض كسابقتها بإحساسه بالجمال والمرح وتعبر عن حيوية الشباب ولهوه؛ وتنبئ بأنه لا يزال يهفو إلى الحب قلبه وتتعطش إلى لذاذاته نفسه.
وبرهن ملتن بقصيدتيه هاتين على استعداد عظيم لوصف مشاهد الطبيعة، وتجلت في هذه الناحية مقدرته على الإيحاء والتصوير بالكلمة المختارة تجر وراءها مختلف الصور حتى ليرى المرء بعين خياله ما يرى مثله ببصره من صور الكون ومشاهده، وتلك موهبة تجعله يصنع بألفاظه ما يصنع الرسام بريشته؛ وسيغدو ملتن من شعراء الطبيعة الأفذاذ في أدب العالم كله، وسيظل في الأدب الإنجليزي بعد شكسبير في وصف الطبيعة الشاعر الذي لا يتطاول إلى أفقه أحد. . .
وظهرت دلائل ما يعتلج في أطواء نفسه من حب في سلسلة من الأغنيات نظمها بالطليانية، بعد قصيدتيه الأخيرتين، وقد كتب إلى صديقه ديوداتي يقول: (أكتب إليك ما اكتب وأنا مندهش منه! أعلم أنني أنا الذي طالما تهزأ بالحب واحتقرته وضحكت من شركه وقد وقعت بغتة في هذا الشرك). والحق أن ملتن كان يومئذ يضطرب بين الاستجابة القوية لداعي الحب والخوف من ضلالاته حتى غلبه الحب على أمره، فأخذ يغني ألحاناً يشهد من قراءها أنها من أجمل ألحانه وأعذبها ارتفع فيها بالحب إلى جوه المثالي وأفقه العذري وخياله الشاعر.
وكانت الفتاة التي يشير إليها في أغنياته الجديدة طليانية الأصل يزينها نمط من الجمال الأجنبي يعد جديداً على نفسه جديداً في ناظريه، وقد أفتتن بمحياها الأسمر وعينيها الدعجاوين، وأخذ حبها بمجامع حبه، وأحست بموقعها في نفسه فلم تلبث أن بادلته الحب، وطارحته أحاديث الهوى، فقد نظم أغنياته بالطليانية استجابة لطلبها إذ قالت له (أن الطليانية لغة الحب).
ونظم ملتن في نفس السنة أبياتاً عن شكسبير لطبع في صدر مجموعة من آثاره، وتبين للناس مبلغ ما أوتي من قوة البلاغة ومهارة التعبير فضلاً عن أصالة الخيال الشعري وجماله. وحسبك منه قوله (ما حاجة شكسبير إلى صرح من الأحجار يعمل جيل في إقامته فوق عظامه المجيدة؛ ما حاجة رفاقه إلى هرم يومئ إلى النجم؟ يا ابن الذكر الحي يا أيها العزيز، ويا وارث الصيت المجيد، يا أيها العظيم ما حاجة أسمك إلى تزكية ضعيفة كهذه، وقد بنيت لك من إعجابنا ودهشتنا تمثالاً لا يبلى؟ إنك قد أفضت علينا من شعرك الدفاق ما يخجل حياله كل فن متعثر بطئ، وأستمد كل قلب من أوراق كتابك الذي يجل عن كل قدر، تلك الأسطر التي تنتمي إلى (دلفي)، تلك الأسطر الخوالد التي تركت فيه أعمق الأثر، ولقد سحرتنا عن أنفسنا حتى أحالتنا إلى مرمر من فرط ما تخيلنا وعجبنا! وكان لك وأنت هكذا دفين، من عظمتك ومن أبهى ذكرك وفخامة قبر من أجل الظفر بمثله يتمنى الملوك الموت).
وبعد نشر هذه الأبيات القوية في صدر تلك المجموعة من آثار شكسبير دليلاً على أن ناشريها كانوا ينظرون إليه يومئذ وهو لا يزال طالباً في الكلية نظرتهم إلى شاعر بدأت تتحقق له نباهة الاسم.
ونظم ملتن في سنتيه الأخيرتين بالكلية بضع قصائد في مناسبات، أهمها ثلاث مرثيات وقصيدة كتبها عن نفسه هي أقرب إلى شعر التأملات. أما المرثيات فاثنتان منهما كانتا عن هوبسون الشيخ أحد الموظفين في الكلية وقد قضى فيها من عمره سنين طويلة، وفيها يمزج ملتن العطف بروح الدعابة. وكانت الثالثة عن سيدة في مقتبل العمر تدعى ليدي ونشستر أحدث موتها حزنا عميقا في أواسط المجتمع العليا. ولقد ذاعت مرثية الشاعر الشاب ذيوعا عظيماً في تلك المناسبة، أحبها كل من قرأها أثنى عليها ثناءً كبيراً.
أما القصيدة التي كتبها عن نفسه فكانت في عيد ميلاده الثالث والعشرين، وفيها يعجب الشاعر من سرعة انقضاء الزمن، ويأسف أن يخلوا ربيع حياته الأخير من البراعم والأكمام؛ وهو بهذه الإشارة يضطغن على نفسه، فربيعه زاهر بالحياة والنماء، ولعله يقصد أن أكثر ما جادت به براعته لم ينشر ليدل على وفرة ثماره، أو لعله ضرب من الطموح، فهو إذ يستقل ما عمل حتى يومه هذا إنما يشير إلى ما هو جامع له عزمه في غده.
والشواهد على عزمه المصمم قائمة في موضوع ألقاه في سنته الرابعة والعشرين وهي السنة التي غادر فيها الكلية، وكان الطلاب يتناظرون في العلم والجهل وأن العلم يجلب للمرء من السعادة أكثر مما يجلب الجهل؛ وتحدث ملتن فأفاض وأجاد في بيان فضل العلم وقارن بين أوربا في عصر الظلمات وبينها في عصر النهضة، وأشار إلى الإنسان في بداوته إذ كان يهيم على وجهه ويتخذ من الجبال بيوتاً ويعيش بلا دين وبلا قانون ولا ثقافة كما يعيش ضواري الوحش، وإلى الإنسان في حضارته وما ينعم به من المعرفة ويهتدي به من الدين ويتمتع به من روابط الثقافة. وأختم كلامه فأهاب بالمستمعين أن يكتسبوا كل يوم معرفة جديدة حتى يكون شأنهم شأن الاسكندر حين بكى لأنه لا يجد أمامه عوالم أخرى تطويها انتصاراته. . .
وفي سنة 1632 غادر ملتن الكلية بعد أن حصل على درجاته العلمية الثانية وبعد أن قضى فيها سبع سنين؛ رحل عنها وإنه ليأسف على رحيله كثيرون والكل به معجبون. ولا غرو أن تتغير نظرة الأساتذة والطلاب إليه عما كانت قبل ممن كانت له مثل متانة خلقه ورجاحة عقله وفصاحة لسانه وقوة جنانه وشاعرية روحه وطموح نفسه، خليق بمن عرفوه أن يأسفوا على فرقته وأن يعجبوا بشخصيته. ولقد طلب إليه أكثر من مرة القائمون على أمر الكلية أن يبقى بينهم زميلاً بعد أن تخرج فيها ولكنه لم يجد في نفسه الميل إلى ذلك؛ ونجد مصداقاً في تغير نظرتهم إليه فيما كتبه بعد ذلك بعشرة أعوام إذ أشار إلى ما لقي من احترام على أيدي أساتذة الكلية يفوق ما لقي أنداده منه وإلى رغبة هؤلاء الأساتذة في أن يبقى معهم إلى أن قال (وقد وثقت فوق ذلك من اختصاصهم إياي بالمودة والعطف وذلك من كتبهم التي تلقيتها قبل رحيلي وبعد ذلك بزمن طويل وكلها تفيض بعطفهم علي ومودتهم إلي ومحبتهم إياي).
أما هو فكان يذكر أيامه في كمبردج بخير، بل ما برح يشكوا ن تخلفها في المعرفة وتمسكها بالماضي وتعودها عما كان يرجوا من النهوض.
(يتبع)
الحفيف