مجلة الرسالة/العدد 665/كعب الأحبار هو الصهيوني الأول
مجلة الرسالة/العدد 665/كعب الأحبار هو الصهيوني الأول
للأستاذ محمود أبو ريه
(نشر الأستاذ سعيد الأفغاني أن الصهيوني الأول هو عبد الله
بن سبأ الذي تظاهر بالإسلام على عهد عثمان. وأنا على
احترامنا لما نشر الأستاذ الأفغاني نبين أن الصهيوني الأول
فيما حققناه هو (كعب الأحبار) ذلك الكاهن اليهودي الذي اسلم
على عهد عمر خداعاً ونفاقاً، وكان أول من أرسل الصيحة
(بالصهيونية) في بيت المقدس، ولكن الفاروق فطن لهذه
الدعوة الخبيثة وقضى عليها. ولما وجد أن عمر صخرة عاتية
تحول بينه وبين ما يريد بالإسلام من كيد، أخذ مع جماعة من
فارس يأتمرون به ليقتلوه. ولما اندك حصن الإسلام بقتل عمر
أرصد مكره ودهاءه لما أسلم من أجله، فأنشأ يبث من إفكه -
ما شاء أن يبث - في تفسير كتاب الله وأحاديث رسوله. وأنا
نكشف هنا عن حقيقة هذا الحبر الذي لا يزال يظفر بثقة
المسلمين، ويعتبرونه من خيار التابعين، حتى يكون الناس
على بينة من أمره، ويعرفوا مبلغ ضرر هؤلاء اليهود الذين
تظاهروا بالإسلام وانطوت قلوبهم على غيره)
لما قويت شوكة الدعوة الإسلامية واشتد ساعدهم لم يرى الذين كانوا يقفون أمامهم، ويصدون عن سبيلها، إلا أن يكيدوا لها عن طريق الحيلة والخداع، وبعد أن عجز النيل منها بوسائل القوة والنزاع.
ولما كان اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار فلا يعترفون لأحد من غيرهم بفضل، ولا يقرون لنبي بعد موسى برسالة، فإن رجالهم وأحبارهم لم يجدوا بعد أن غلبوا إلى أمرهم، وأخرجوا من ديارهم ألا أن يستعينوا بالمكر ويتغلبوا بالدهاء ليصلوا إلى ما يبتغون. وهداهم المكر اليهودي إلى أن يتظاهروا بالإسلام ويطووا نفوسهم على غيره حتى يخفى كيدهم ويجوز على الناس مكرهم. وكان أقوى هؤلاء الدهاة (كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سبأ) فاستعانوا بإسلامهم واسندوا بين المسلمين مظهرين عبادتهم وتقواهم. ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت وأن المسلمين قد اغتروا بهم وسكنوا إليهم، جعلوا أول همهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم فيدسون فيه ما يريدون من أساطير وخرافات وأوهام لكي يهي هذا الدين ويضعف. ولكي يحكم هؤلاء الدهاة أمرهم كانوا يزعمون تارة أن هذه المفتريات من كتابهم ويدعون أخرى أنها من مكنون علمهم، وما هي في الحقيقة إلا من مفترياتهم، وأنى للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من كلامهم، وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية وهي لغة كتبهم، ومن جهة أخرى فإنهم لا يجارونهم في دهائهم ومكرهم. وبذلك كان الصحابة ومن تبعهم يأخذون كل ما يبثه هؤلاء الدهاة بغير بحث ولا نقد معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه.
وأنا نلم هنا بطرف صغير من تأريخ زعيم هؤلاء الدهاة وشيخهم وهو (كعب الأحبار) وهو الذي نسوق من أجله هذا الحديث.
كعب الأحبار:
هو كعب بن ماتع الحميري من آل ذي رعين، وقيل من ذي الكلاع - من اليمن - كان من أحبار اليهود وعرف بكعب الأحبار، أسلم على عهد عمر علي الراجح وسكن المدينة في خلافة عمر وتحول إلى الشام في زمن عثمان فسكنها ومات بحمص سنة 34هـ.
وقد استصفاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه كما كانوا يقولون عنه أو كما زعم هو في قوله (ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله على موسى، ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة!!!)
وقد أغتر به الصحابة ومن بعده فرووا عنه وسمعوا منه، وكان أكثر من روى عنه من الصحابة أبو هريرة الذي كان كذلك أكثر تحديثاً عن النبي، ذلك بأن هذا الكاهن سلط عليه قوة دهائه لكي يستحوذ عليه وينميه ليلقنه كل ما يريد. ومما أتخذه من أساليب المكر والخداع ليطويه تحت جناحيه أن قال فيه كما روى الذهبي: ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة!!
سبب إسلامه:
وضع هذا الكاهن لإسلامه سبباً عجيباً فقد أحرج أبن سعد عن سعيد بن المسيب قال: قال العباس ما منعك أن تسلم في عهد النبي وأبى بكر؟ فقال إن أبي كتب لي كتاباً من التوراة فقال اعمل بهذا وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على الولد أن لا أفضي الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام قلت لعل أبي غيب عني علماً ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته فجئت الآن مسلماً!
وروى عبد الله بن عمر أن رجلاً من أهل اليمن جاء إلى كعب فقال له: إن فلاناً الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة! فقال كعب هاتها، فقال له الرجل: انه يقول لك ألم تكن سيداً شريفاً مطاعاً؟! فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب أتراك راجعاً إليه؟ قال نعم! قال فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا يفر منك! وقل له: يقول لك، أسألك بالذي فلق البحر لموسى، وأسألك بالله الذي ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها كل شيء!! ألست تجد في كلمات الله تعالى أن أمة محمد ثلاث أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد!! فإنه سيقول لك نعم! فقل له يقول لك كعب: اجعلني في أي الأثلاث شئت!
كيف كانوا يمكرون بالمسلمين:
أتبع هؤلاء الأحبار طرقاً عجيبة لكي يستحوذوا على عقول المسلمين، وإليك طرفاً من هذه الأساليب:
أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام وهو من أحبار اليهود أنه مكتوب في التوراة في السطور الأولى (محمد رسول الله عبده المختار مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه في الشام) وهذا الذي قاله أبن سلام قد أحكمه الداهية كعب، فقد روي عنه الدرامي: في السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار لا فظ ولا غليظ ولا صاخب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وفي السطر الثاني: محمد رسول الله أمته الحمادون يحمدون الله في كل منزل ويكبرون على كل شرف رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة! ويأتزرون على أوساطهم ويوضئون أطرافهم وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل.
كعب وعمر:
لما أتى كعب إلى المدينة على عهد عمر مظهراً إسلامه أخذ يعمل في دهاء لما أسلم من أجله، فكان أول أمر وجه أليه همه أن يفتري الكذب على النبي، ولكن عمر فطن لكيده فنهاه على أن يروي عن النبي شيئاً وتوعده بأن يترك الحديث عن رسول الله أو يلحقه بأرض القردة.
وعلى أن عمر رضي الله عنه قد ظل يراقب هذا الداهية بحكمته وحزمه وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته كما جرى ذلك في قصة الصخرة التي ستعرفها فيما بعد، فأن شدة دهاء هذا الرجل قد تغلبت على حزم عمر ويقظته فظل يعمل بكيده في السر والعلن حتى انتهى الأمر بقتل عمر بمؤامرة أشترك فيها هذا الكاهن وجماعة معه منهم الهرمزان ملك خورستان وكان قد جئ به أسيراً إلى المدينة.
قتل عمر:
ذكر المسور بن مخرمة أن عمر لما أنصرف إلى منزله بعد أن أوعد أبو لؤلؤة جاءه كعب الأحبار فقال يا أمير المؤمنين (أعهد) فأنت ميت في ثلاث ليال (رواية الطبري في ثلاث أيام) قال وما يدريك؟ قال أجده في كتاب التوراة! قال عمر: أتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال الهم لا، ولكن أجد حليتك وصفتك، وأنت قد فني أجلك! قال ذلك وعمر لا يحس وجعاً، فلما كان الغد جاءه كعب، فقال بقي يومان! فلما كان الغد جاءه وقال: مضى يومان وبقي يوم! وهي لك إلى صبيحتها، فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالاً فإذا استوت كّبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجره فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته. ودخل عليه كعب وقال له: ألم أقل لك أنك لا تموت ألا شهيداً وأنك تقول من أين وإني في جزيرة العرب؟ وفي رواية أخرى: لما دخل كعب على عمر قال له: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين)
ومما يملخ عرق الشك في آمر تأمر كعب بعمر ما أخرجه الخطيب عن مالك، أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي وهي زوجته فوجدها تبكي، فقال ما يبكيك؟ قالت هذا (اليهودي) أي كعب يقول أنك باب من أبواب جهنم! فقال عمر ما شاء الله! ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه فقال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة! فقال ما هذا! مرة في الجنة! ومرة في النار! فقال: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها فإذا مت اقتحموا!!
وقد برت يمينه فقد قُتل عمر في ذي الحجة سنة 23هـ
فهل بعد ذلك يتمري أحد أن كعباً هو رأس مؤامرة قتل عمر!
ولعل المسلمين قد ازدادوا ثقة بكعب بعد مقتل عمر إذ حسبوا أن التوراة كما يزعم فيها علم ما كان وما سيكون وما هو كائن! ولكن لما كثر كذبه وفشا بهتانه أخذ بعضهم يقابل ما يرويه بالشك فقد روى البخاري أن معاوية قال فيه (إنا كنا لنبلو عليه الكذب، وقال عنه علي (إنه لكذاب) وكذبه كذلك عبد الملك بن مروان.
قصة الصخرة بين عمر وكعب:
لما افتتحت إيلياء وأرضها على يد عمر في ربيع الآخر سنة 16هـ ودخل عمر بيت المقدس دعا عمر كعب الأحبار وقال له: أين ترى أن نجعل المصلى؟! فقال كعب: إلى الصخرة. فقال له عمر: يا أبن اليهودية، ضاهيت والله اليهود، وفي رواية أخرى خالطتك يهودية! وقد رأيتُك وخَلعَك نَعليك!
ولما أخذوا في تنظيف بيت المقدس من الكناسة التي كانت الروم قد دفنته بها سمع التكبير من خلفه فقال ما هذا؟ فقالوا كبر كعب وكبر الناس بتكبيره! فقال عليَّ به فأتىَ به فقال يا أمير المؤمنين: أنه قد تنبأ علي ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة! قال وكيف؟ فقال إن الروم قد أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه! إلى أن وليت فبعث الله نبياً على الكناسة فقال ابشري، أورى شلم، عليك الفاروق ينقيك مما فيك! وهكذا يلعب بعقول المسلمين.
وقال كعب مرة: (إن الله قال للصخرة أنت عرشي الأدنى وأنها موضع قدم الرحمن). وقد وضع كعب وإخوانه في فضائل بيت المقدس وغيره من البقاع التي في الشام أكاذيب كثيرة ملأت مؤلفات.
ما بثه كعب في التفسير والحديث:
بلغ من دهاء كعب أن جعل بعض الصحابة يروون عنه أحاديث معزوة إلى رسول الله. وفي كتب الحديث في باب رواية الأكابر عن الأصاغر أن العبادلة الثلاثة وأبا هريرة ومعاوية وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار.
ولا نستطيع أن نسوق هنا كل ما بثه في تفسير كتاب الله، وما رواه من أحاديث عن رسول الله لأنها إذا جردت تملأ مجلدات وإنما نجتزئ ببعض الأمثال:
قال معاوية عن ذي القرنين: أنه كان يربط خيله بالثريا.
وقال عن العرش: إنه لما خلق اهتز تعظيماً فطوقه الله بحية لها سبعون ألف جناح، وفي كل جناح سبعون ألف ريشة، وفي كل ريشة سبعون ألف وجه، وفي كل وجه سبعون ألف فم، وفي كل فم سبعون ألف لسان يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر وعدد ورق الشجر. . . الخ فالتوت الحية على العرش. . . وهي ملتوية عليه فتواضع عند ذلك!
وقال الأرضون السبع على الصخرة والصخرة في كف ملك والملك على جناح الحوت والحوت في الماء والماء على الريح والريح على الهواء ريح عقيم لا تلقح وأن قرونها معلقة في العرش.
وقال: إن الله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض فإذا صاح صاحت الديكة.
وما قال كعب لم يلبث أن جاء حديثاً مرفوعاً.
وفي التوراة: أربعة أنهار في الجنة، وفي حديث أبي هريرة أحد من رووا عن كعب أن النبي قال: النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة، أما أبن عباس وقد روى كذلك عن كعب فقد جعلهم خمسة أنهار.
هذا هو كعب الأحبار - الصهيوني الأول - أبرزناه على حقيقته بعد أن نزعنا عنه ثوب الرواية الإسلامية فبدا لهم عارياً - كما خلقته الصهيونية - حتى يكون المسلمون على بصيرة من أمره، ولعلهم بعد ذلك يعملون على تطهير كتب التفسير والحديث والتاريخ من مفترياته ومفتريات إخوانه من كهنة اليهود ليبدو نور الدين مشرقاً في محكم آياته، وتتجلى لهم فضائله في ناصع بياناته، ويتحقق قول الله: سنريهم آياتنا في الأفق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
(المنصورة)
محمود أبو رية