مجلة الرسالة/العدد 666/حزب الاستقلال المراكشي

مجلة الرسالة/العدد 666/حزب الاستقلال المراكشي

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1946



مظهر من مظاهر الكفاح العربي للحرية

لباحث فاضل

في فاتحة يناير 1944 تأسس بمراكش حزب سياسي كبير تحت اسم (حزب الاستقلال) انتظمت في سلكه جميع الأحزاب والهيئات السياسية الموجودة من قبل. وفي يوم 11 يناير 1944 حرر مذكرة قدمها إلى جلالة ملك مراكش والى ممثلي إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا يعلن ضرورة الاعتراف باستقلال مراكش استقلالا تاما وإجراء انتخابات لتأليف مجلس تأسيسي ينظم البلاد تنظيما دستوريا وتوقيع الحكومة المراكشية على وثيقة الأمم المتحدة ليصبح لها الحق في مشاركة العالم الحر في مؤتمراته ومسئولياته في تنظيمات ما بعد الحرب.

وقد وجدت الأمة المراكشية في مذكرة حزب الاستقلال تعبيراً صريحاً وصادقاً عن رغبتها فاندفعت تؤيدها بكل حماسة بوادي وحواضر، ورأى الفرنسيون والحلفاء بأعينهم إجماع أمة بأكملها طيلة ثلاثة أسابيع إلى أن انقلبت ميادين التأييد وتقرير المصير إلى ميادين قتال ودماء ووحشية مظلمة تسجل العار الأبدي على الفرنسيين.

وأقيل من منصبه ونفي إلى الصحراء صاحب المعالي وزير العدلية الإسلامية سيدي محمد بن العربي، وصاحب المعالي وزير المعارف العلامة الحاج أحمد بركاش، وسعادة محافظ العاصمة، كما اعتقل الكاتب العام لحزب الاستقلال أحمد بلافريج وقدم للمحاكمة العسكرية هو وثلة من الزعماء السياسيين، بحجة الاتصال بالألمان، وقد حكمت المحاكم العسكرية ببراءتهم جميعاً، فأخرج بلافريج من السجن العسكري إلى جزيرة كورسيكا حيث هو الآن منفي مع زوجه.

وقد أكد حزب الاستقلال في تلك الظروف السود أن موقفه لم يتغير وأن مذكرة 11 يناير هي الأساس الوحيد لكل تفاهم مع الفرنسيين. أما الفرنسيين فقد نظموا هجوما سياسياً مضاداً هو إعلان دار الحماية عزمها على إدخال بعض الإصلاحات بعد أن تؤسس لجاناً رسمية تدرس لها ما تحتاجه مراكش من الإصلاحات. وقد كتب حزب الاستقلال مذكرة مطولة قدمها للفرنسيين وأظهر فيها ما يحتوي عليه برنامج دار الحماية من مراوغة وسخف، كما أكد إن مذكرة 11 يناير هي وحدها الحل الوحيد الممكن للتقارب بين المراكشيين والفرنسيين.

ماذا يريد الفرنسيين من مراكش؟

يريدون أن تبقى جاهلة، ولا أدل على ذلك من أن المراكشيين لم ينتجوا زهاء ثلث قرن كامل قضوه تحت تحكمات الفرنسيين سوى ثلاثة أطباء ونحو سبعة من المحامين ونزر من المدرسين!

ويريدون منها أن تكون مفككة العرى متنازعة مقسمة على نفسها، ولا أدل على ذلك من (الظهير البربري) الشهير الصادر يوم 16 مايو 1930 والمرسومات والقرارات التي تبعته والتي فرضت على سكان البوادي العربية أن يخرجوا عن الإسلام بالنار والحديد والشنق، وأن يقطعوا كل صلة باللغة العربية وأن يعزلوا عزلا عن كل اتصال ببقية مواطنيهم المراكشيين. ويريد الفرنسيون من مراكش أن يكون فلاحيها متشردين وقطاع طرق ولا أدل على ذلك من مرسوم 1927 القاضي باعتبار نزع أراضي الفلاح المراكشي لفائدة (المستعمر) الفرنسي من المصلحة العامة. وليتصور القارئ أن مراكش من الأقاليم التي تشيع فيها الملكية الصغيرة، فتكوين (عزبة) للتعمير تطلب اعتياديا نزع أراضي مئة إلى مئة وخمسين فلاحا مراكشياً يسلمون أراضيها العزيزة لسيدهم المستعمر وينزلون هم إلى المدن يائسين من الحياة يزيدون في عدد البؤساء المجرمين. وهذه السياسة مستمرة منذ صدر مرسوم 1927.

ويريد الفرنسيون من مراكش أن لا يسمع فيها صوت غير صوتهم ولا تنفذ إرادة غير إرادتهم، وليس أدل على ذلك من إن مراكش تعيش قانونياً وعملياً تحت الحصار (الأحكام العرفية) منذ سنة 1914 إلى اليوم، وهي مقسمة إلى مناطق على رأس كل منطقة منها حاكم عسكري ليس لسلطته حدود، وعلى رأس الحكام العسكريين القائد الأعلى لجيوش الاحتلال بيده تفويض عام لإصدار أوامر باسمه متى شاء وكيف شاء، فالمراسيم الملكية نفسها يوقف تطبيقها أو يناقضها أو يعدلها بحسب مصلحة جيش الاحتلال ووفقاً للمرسوم الملكي نفسه الصادر سنة 1914 القاضي بوضع البلاد تحت حالة الحصار (الأحكام العسكرية) وطبقا لهذه الحالة المؤلمة ليس للمراكشيين ولا جريدة واحدة أو مجلة، بينما تصدر الجالية الفرنسية عشرات الجرائد والمجلات من كل الألوان والنزعات. وليس للمراكشيين الآن ولا جمعية واحدة. وقد حلت إبان حوادث يناير 1944 جميع الجمعيات والهيئات التي كان سمح بها من قبل لغايات استعمارية مختلفة. والمراكشيون محظور عليهم بحكم مرسوم 1938 أن ينتسبوا لأية نقابة، ومحظور عليهم أن يعقدوا أي اجتماع كيفما كانت صبغته، ومحظور عليهم أن يتظلموا أو يقدموا عرائض تكشف عن رغباتهم، وليس للمراكشيين أية هيئة انتخابية تمثلهم إزاء السلطة بينما ينتخب الفرنسيون في مراكش للمجالس البلدية والغرف الفلاحية (الزراعية) والتجارية والصناعية ولمجلس شورى الحكومة المراكشية والبرلمان الفرنسي مباشرة برغم وضع مراكش الدولي والوطني، والمراكشيون محظور عليهم التعليم الحر بينما أطفالهم الصغار على حد ما جاء في خطاب جلالة الملك يوم 18 نوفمبر الأخير متشردون في الطرقات العامة لا يجدون مدارس تكون منهم رجالاً قديرين، ولا تتسع المدارس الحالية لأكثر من ثلاثين ألف طفل فقط.

والمراكشيون يعيشون تحت نظام بوليسي محكم، يسير الإنسان والأرصاد الجواسيس تتبعه وأخباره يبحث عنها حتى في منزله ومع أولاده، وكل شخص من المحتمل استدعاؤه لإدارة المحافظة على الأمن حيث يذوق ألواناً من التعذيب الجسماني والكلام على تهمة مختلقة أو تافهة، ومن الممكن إبقاؤه تحت يد الشرطة في آفاق التعذيب المظلمة شهراً أو أكثر ثم إطلاقه من غير أن يمر بمحكمة أو يسمع له بدفاع يثبت براءته عند البوليس. . . ليتصور القارئ إن روح الشرف وعاطفة التضامن والشجاعة ونقاوة الضمير وكل ما يعتبر فضيلة في علم الأخلاق يعتبر في نظر الفرنسيون في مراكش جرائم خطيرة يطارد أصحابها وينكل بهم شر تنكيل؛ لأن العقلية الاستعمارية الفرنسية لا تعترف بحياد لأحد مطلقاً؛ فإما خادم لهم يدل على غيره ويتعلق لأصغر الجواسيس وهو يتظاهر بالرضى والابتسام، وإما عدو تعرقل مصالحه اليومية باستمرار وينتظر به أول فرصة ليرمى به في السجن أو ليساق إلى غرفة التعذيب في قسم المحافظ على الأمن.

هذه هي الحالة النفسية والمادية التي تعيش عليها مراكش تحت الاستعمار الفرنسي المفروض، ولكن المراكشيين يفضلون الموت على هذه الحياة التعسة التي سامتهم من البؤس الفظيع ما لا يطيقون. لذلك صرخ حزب الاستقلال حزب مراكش الأعظم الوحيد باسم اثني عشر مليون مراكشي أن (لا حماية)، فزلزل الفرنسيون للتأييد الجارف الذي لقيته هذه الصرخة العنيفة من ملايين المواطنين ابتداء من صاحب الجلالة ملك البلاد المحبوب إلى أصغر فلاح في جبل الأطلس، ثم سددوا بنادقهم المجرمة ونيرانهم إلى صدر شعب بريء وقالوا إن يد الألمان حركته.

وهذا الشعب الذي لم يخجل الفرنسيون أن يقولوا إن يد الألمان حركته هو الشعب الذي قدم بسخاء دماء أبنائه النفيس ليحرر صقلية وتونس وإيطاليا وفرنسا ووضع جميع موارده الاقتصادية وقواعده الحربية تحت تصرف المكافحين في سبيل الحرية لتصبح العدالة فارضة على الجميع أن يحترموا له حريته هو أيضاً من غير أن يضطر إلى إراقة دمه مرة أخرى.

مراكش

(خبير)