مجلة الرسالة/العدد 666/فلسطينيات:

مجلة الرسالة/العدد 666/فلسطينيات:

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1946



العزاب. . .!

للأستاذ نجاتي صدقي

تجاوز فهيم عبد الجواد الخامسة والأربعين ولا يزال عزباً. فكم من مرة نصحته أمه في شبابه أن يدخر عندها كل يوم خمسة قروش فلا تمضي أربع سنوات أو خمس إلا وتكون قد جمعت له مهر العروس. . . لكنه كان يقابل رأيها هذا بابتسامة ساخرة ويقول لها: حسن، هاك نصف جنيه عن عشرة أيام! فينساها، وتنسى أمه مسألة الادخار إلى أن تثار الحكاية من جديد، فتنصحه ويدفع، فينسى فتنسى، وهكذا ظل فهيم دون زواج.

فكان مكبوت العاطفة، رقيق الشعور نزقا في بعض الأحيان. وفي عصر أحد الأيام، بينما كان يحاول إغلاق مكتبه الذي يتعاطى فيه أعمال تأجير البيوت، جاءته فتاة أجنبية، وسألته عن غرفة مفروشة أو غير مفروشة، لكنها رجته وألحت في السؤال فوعدها خيراً. . . ولما علم منها في سياق الحديث إنها جاءت المدينة ذلك اليوم، وإنها وحيدة لا أهل لها ولا معيل، أحب إن يمثل معها دور العاطف عليها، فحدثها عن مصاعب الحياة، والحرب وذيولها، وغلاء المعيشة، وأزمة المساكن، وكانت الفتاة توافقه تارة وتخالفه تارة أخرى، وفي نهاية الأمر دعاها إلى تناول العشاء معه، فترددت، فأغراها بمآكل المدينة الشرقية القديمة وبالتفرج على بيوتها وفرشها، فترددت ثانية، لكنها استعرضت في مخيلتها صوراً خيالية براقة فرأت في هذه الدعوة ما يكشف لها أسراراً طالما طالعتها في الروايات والقصص، فأومأت إليه برأسها موافقة، وذهبا سوية إلى مسكنه في دير الأرز الواقع في وسط المدينة القديمة.

كانت الساعة وقتئذ تقارب الثامن مساء، وقد أنتشر الظلام في حارات المدينة وأزقتها، ولم ينرها سوى قناديل زيتية تكاد لا تعكس ضوءها إلا على نفسها فقط!، وكانت الفتاة تسير إلى جانب فهيم أفندي وتتعثر، فيعينها بوضع راحته تحت رسغها برفق، وإذا ما تراءى له أنها ستقع، تأبط ذراعها، فتشكره بكلمات غير واضحة متقطعة. ولما اقتربا من الدير قال لها: حذار من إحداث ضجة أثناء دخولنا الدير. سيري على أطراف قدميك قالت: وهل من شيء تخشاه؟ إنني ضيفتك، ومن يجرؤ ويمانع في زيارتي لك؟. . .

قال: للمسألة صلة بالتقاليد وليس بقواعد الأتيكيت. فمن عاداتنا أن لا تزور امرأة رجلا أعزبا في بيته.

قالت: حقاً إنها لعادة غريبة!. . .

ودخلا الدير كما أفهمها فهيم أفندي، وصعدا إلى الطابق الثاني بهدوء مطلق، وولجا الغرفة بهدوء أيضاً.

ودير الأرز هذا كان فيما مضى من الأيام ملجأ للمتعبدات اليونانيات، إلا أنه تحول إلى مسكن لرقيقي الحال من الناس، فضمت جدرانه مهاجراً بولونياً، ولاجئاً يونانياً، ومجلد كتب، وممرضاً، وبائع الخضار، وغيره بائع الألبان، وصاحب مكتب تأجير البيوت فهيم عبد الجواد، وكان جميع ساكني هذا الدير من العزاب، ولذا كانوا يفرضون على بعضهم بعضاً رقابة أخلاقية شديدة الوطأة.

وما إن أجلس فهيم الفتاة إلى المائدة حتى سمع لغطاً خلف الباب، ثم رأى وجهاً يطل عليه من النافذة التي تعلوه، فعرف فيه وجه جاره مجلد الكتب، وقد اتقدت عيناه فغدتا أشبه بالجمر وأخذ ينقر الزجاج بسبابته مشيراً إلى فهيم إن يفتح باب الغرفة.

فما كان من فهيم إلا زجره، لكن المجلد تمادى في النقر وعلى حين غرة حطم الزجاج بجم يده فأحدث فيه فجوة ومد أصابعه منها إلى المزلاج الداخلي وفتحه. . . وكان الهرج خلف الباب يتزايد، ثم بادر المجلد فهيما بقوله:

- ألا تخاف ربك يا جاري؟!

فقال فهيم: خسئت أيها اللئيم، إنها ضيفي، وحاشا أن أدنس بيتي. . .

فقال المجلد: فوالله إن لم أقضي السهرة برفقتكما أثرت سكان الحي عليكما!. . .

وكانت الفتاة ترتجف من شدة الخوف والفزع، وكان زملاء المجلد يدفعون باب الغرفة بمناكبهم وكادوا يحطمونه لو لم يسارع فهيم إلى فتحه، فإذا به يشاهد الممرض وقد رفع مجلد الكتب على كتفيه، وهو في قميص النوم، وبائع الخضار وقد التف بعباءة وهو حاسر الرأس حافي القدمين، وبائع الألبان واقفاً بسرواله الواسع وبيده هراوة ثقيلة. . .

ما هذه الإغارة؟ وما الذي يريده هؤلاء القوم؟. . .

إنهم العزاب. . . شموا رائحة الأنوثة المسكرة تعبر بأبواب غرفهم، فهبوا من فراشهم وتتبعوا الأثر إلى أن قادتهم أقدامهم إلى غرفة فهيم، وكان منهم ما كان. . .

قال الممرض إلى جاره الذي أخل بشروط العزوبة:

- نحن جيران يا أخي منذ خمس سنوات، وهل قصرت معك في شيء؟ هل طلبت يوماً روحي ولم أضعها تحت تصرفك؟

وقال بائع الخضار: يا فهيم. . . إنني أعهدك صريحاً فلو أطلعتني منذ الأمس على قصدك لكنت مددت لك يد المعونة، ولسترت عليك الأمر، ولما درت هذه الكف ما تفعله الكف الأخرى.

وتقدم بائع الألبان مزمجرا والهراوة في يده وقال: وحق من بسط الأرض، ورفع السماء، إن لم تقبلنا في سهرتك هذه، لأنثرن دماغك في جنبات هذه الغرفة!. . .

أما المسكينة فكانت تسمع ولا تفقه، لكنها أدركت إنها بيت القصيد، وإنها قد وقعت في الفخ.

ولما رأى فهيم إن المسالة قد تأزمت، وان غرفته ستصبح مسرحاً لرواية مخزية، ولفاجعة مؤلمة، قال للفتاة بلغة لا يفقهها جيرانه: -

- لا تجزعي سأغلق عليك الباب، وسأذهب في طلب بوليس الأخلاق. . .

وأقفل الباب على الفتاة واجتاز العزاب وقد تربعوا في الممر يهدرون كالإبل. وبعد دقائق معدودات، عاد فهيم وبرفقته نفران فتبعثر العزاب هنا وهناك، وخرجت الفتاة بحراستهما، وقد سترت رأسها ووجها بمنشفة حتى لا يراها أحد، ثم تركوا الدير أربعتهم وساروا في الطريق معا، دون أن ينبسوا بكلمة واحدة. وإذ بلغوا مسكن النفرين، قف فهيم يستودعهما ويشكرهما على حسن صنيعهما. فأجابه أحدهما: لا شكر على واجب. ولكن هلا تفضلت مع الفتاة لنقضي السهرة عندنا؟!

نجاتي صدقي