مجلة الرسالة/العدد 666/في كتاب البخلاء للجاحظ

مجلة الرسالة/العدد 666/في كتاب البخلاء للجاحظ

مجلة الرسالة - العدد 666
في كتاب البخلاء للجاحظ
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1946



قرأ عظيم من عظماء الفكر في مصر كتاب البخلاء للجاحظ في طبعة وزارة المعارف التي ضبطها وشرحها وصححها الأستاذان أحمد العوامري بك وعلي الجارم بك، عضوا مجمع اللغة العربية الملكي فرأى فيها بعض المآخذ على التصحيح أو على الشرح آثر حفظه الله أن ينشرها في الرسالة خدمة لهذا الكتاب القيم عسى أن تفيد من اقتناه في هذه الطبعة، ومن يريد أن يعيد طبعه عنها. ونحن ننشرها شاكرين للأستاذ العظيم فضله على اللغة، وعطفه على الأدب، وصلته بهما صلة الرجل الكامل الذي يأخذ كل شيء مأخذ الجد الصارم، وإن لم يكن من صميم عمله ولا من حر اختصاصه.

في الجزء الأول

في ص28: (وإذا كان البكاء (الذي) ما دام صاحبه فيه فإنه في بلاء - وربما أعمى البصر وأفسد الدماغ ودل على السخف وقضى على صاحبه بالهلع، وشبه بالأمة اللكعاء وبالحدث الضرع - كذلك، فما ظنك بالضحك الذي لا يزال صاحبه في غاية السرور إلى أن ينقطع عنه سببه؟)

قال الشارحان: لم تكن (الذي) في النسخ التي بين أيدينا وقد أثبتناها من نسخة الشنقيطي ليكون المعنى بها أوضح.

ثم قالا في رقم 5 من الشرح: وقوله (كذلك) خبر كان.

وأنا أرى إن كلمة (الذي) مقحمة لأنها تفسد المعنى، وأن جواب الشرط (إذا) هو قوله: فما ظنك بالضحك الخ. لا قوله (كذلك)؛ لأن كلمة كذلك إنما هي لضم (الحدث الضرع) إلى (الأمة اللكعاء) في تشبيه صاحب البكاء بهما، ومن الخطأ الفصل بين كلمتي الضرع و (كذلك) بتلك (الشرطة) - بذلك تتحرر العبارة، وتنزل على المعنى المعقول الذي يريده الجاحظ وهو أن البكاء مطلقا ما دام صاحبه متلبسا به فهو في بلاء؛ وربما أعمى البصر، وشبه بالأمة اللكعاء وبالحدث الضرع كذلك. وإذا كان هذا شأن البكاء على الإطلاق (أي لا شأن نوع منه) فما ظنك بالضحك الخ.

على أن من يريد إقحام (الذي) بعد كلمة البكاء لتقابل كلمة (الذي) الواردة بعد كلمة الضحك في جواب الشرط، لا بد أن يحذف الواو قبل كلمة (ربما أعمى) لتكون ربما وما بعده خبرا لكان.

وجاء في صفحة 34: (وإن من أعظم الشقوة، وابعد من السعادة، ألا يزال يتذكر زلل المعلمين، ويتناسى سوء استماع المتعلمين) وأظن إن كلمة (من في قوله وابعد من السعادة زائدة أو واجبة التقديم على (أبعد)؛ وإذا حذفت على اعتبارها زائدة فلابد من جر (أبعد) بالعطف على أعظم.

وجاء في صفحة 77: (قال أبو مازن وأرخى عينيه وفكيه ولسانه، ثم قال: سكران والله! أنا سكران). وقال الشارحان تعليقا على (قال) الثانية: كان يمكن أن يستغني عن قال هذه، والصواب في رأيي أن قال الأولى صحتها (مال) إذ لو حذفت قال الثانية لبقى الأشكال في ثم.

وجاء في صفحة 89: (قد عرفت الرأس حق معرفته، وفهمت كسر إلا كسير على حقيقته) والصواب على ما أظن سر إلا كسير لا كسر إلا كسير. وفي الصفحة نفسها (وعرفت التنجيم والزجر والطرق والفكر) وقد فسر الشارحان كلمة الفكر بقولهما: يحتمل أنه يريد بالفكر هنا طرق التفكير، والذي أراه أن المراد بالفكر هنا هو قراءة أفكار الناس لا كيفية تفكيره هو، وهذا النوع هو الشائع الآن عند كثير من المتكهنين.

وجاء في صفحة 90: (ولولا أن أكون سببا في تلف نفسك لعلمتك الساعة الشيء الذي بلغ بقارون) وفسر الشارحان بتلف النفس هنا بما قد ينشأ بتعلم هذا العلم من طغيانها وتمردها. وأقول إن المراد صعوبة تحمل هذا العلم لما ذكره بعد من عجائبه، تلك الصعوبة التي تقتضي بذل جهود مهلكة. وفي الصفحة نفسها فسر الشارحان (صنعة التلطيف) في قول الجاحظ: (ولكني سألقي عليك علم الإدراك، وسبك الرخام، وأسرار السيوف القلعية، وعقاقير السيوف اليمينية، وعمل الفرعوني، وصنعة التلطيف على وجهه). فسرا صنعة التلطيف بصنعة النقش والتزيين. والأظهر إن التلطيف عملية كيميائية كما جاء في طبعة ليدن. وما لا يعرف معناها بعد مراجعة كتاب الحيوان، فالغالب أن معناها التصعيد أي تأويل الجسام إلى غازات، أو تخفيف الكثيف وجعله رقيقا.

وجاء في صفحة 91: (ولست أرضاك ولو كنت فوق البنين، ولا أثق بك وإن كنت لا حقاً بالآباء، لأني (لم أبالغ) في محبتك)؛ والصواب في محنتك لا في محبتك؛ لأن عبارة (لم أبالغ) لا تتفق في هذا المقام مع في محبتك، إذ الأب يصف حالة قائمة بنفسه قبل الكلام وأثناءه وبعده، فإذا فرضنا أن (في محبتك) غير محرفة؛ فلابد أن يكون ما قبلها محرفا عن (لا أبالغ) وبهذا التصحيح قد تكون عبارة ذلك الأب مفهومة. على إن الحق إنها صحيحة، والمحرف إنما هي العبارة التالية، إذ الأب يقول لابنه إن معارفي التي شغلتني تحصيلها عنك لم تترك لي وقتا أستزيد فيه من اختباري درجة عقليتك وامتحان مبلغ استعدادك. ولذلك تمشت عبارة (لم أبالغ) مع عبارة (في محنتك) لأن الوالد يبالغ دائما في محبة ابنه.

وجاء في صفحة 93: (احتال الآباء في حبس الأموال على أولادهم بالوقف، فاحتالت القضاة على أولادهم بالاستحجار) وقال الشارحان وقد عدل عن الحجر، وهي الكلمة المألوفة إلى الاستحجار التي لم نجدها بهذا المعنى فيما بين أيدينا من المراجع. وأقول: ليس الاستحجار هو الحجر حتى يكون الجاحظ قد عدل عن هذه إلى تلك؛ بل الواضح إن الاستحجار هو طلب الحجر؛ واحتيال القاضي بالاستحجار هو سعيه بسوء نية في جعل أحد الناس يطلب الحجر على الموقوف عليه، وهذا ظاهر لا يدعو للتشكك ولا للرجوع إلى المعاجم.

وفي الصفحة نفسها يقول الجاحظ: (يا ابن الخبيثة: إنك وإن كنت فوق أبناء هذا الزمان فإن الكفاية قد مسختك) وأقول إنها مسحتك بالحاء المهملة لا مسختك كما في المتن، ولا محنتك كما في نسخة ليدن، ولا مجنتك بتشديد الجيم كما ينطق بعض المستشرقين. وذلك إن مسح الرجل أو مسحه بالتشديد معناها قال له قولا حسننا ليخدعه به؛ فالمراد إذن أن الكفاية أي رغد العيش الذي أنت فيه قد فتنتك وخدعتك عن نفسك.

وجاء في صفحة 102: (وزرته أنا والمكي، وكنت أنا على حمار مكار، والمكي على حمار مستعار، فصار الحمار إلى أسوأ من حال المذود) والصواب الزور لا المذود، والزور: الضيوف جمع زائر، مثل ركب وصحب جمع راكب وصاحب.

وجاء في الصفحة نفسها: (فأعاد المسالة فأمكنه من أذن من لا يسمع إلا ما يشتهي)، وقال الشارحان: (فأمكنه إلى آخره، أمكنه من الشيء كمكنه بتشديد الكاف منه، وفاعل أمكنه يعود إلى المكي، وضمير المفعول إلى المسألة بمعنى الطلب ليطابق المرجع. وأقول إن هذا التفسير يفسد عبارة الجاحظ، وهي من أجمل العبارات، والصواب أن صاحب البيت هو الذي أمكن المكي من أذن صماء كما تقول: أعارني أذنا صماء. وجمال العبارة هو في التمكين الموهم بلوغ المقصود، ثم اتباع هذا التمكين ببيان أن الباب الذي انفتح لا يؤدي إليه، وإنما يؤدي إلى نقيضه.

وجاء في صفحة 103: (وصديق كنا قد ابتلينا بمؤاكلته، وقد كان ظن أنا قد عرفناه بالبخل على الطعام، وهجس ذلك في نفسه، وتوهم أنا قد تذاكرنا أمره؛ فكان يتزيد في تكثير الطعام، وفي إظهار الحرص على أن يؤكل حتى قال: من رفع يده قبل القوم غرمناه دينارا، فترى بغضه إن غرم دينارا، وظاهر لأئمته، محتمل في رضا قلبه وما يرجو من نفع ذلك في له). وقال الشارحان بعد أن فسرا هذا الكلام على هذا الضبط: (ولا يخفى ما في هذه العبارة من إيجاز وغموض، وأقول: إن سوء الرسم هو الذي أدى إلى تفسيرهما المعقد، وصواب العبارة إن تضبط هكذا (فترى بغضه أن غرم دينارا، وظاهر لأئمته، محتملين في رضا قلبه إلى آخره) وإذن يكون معنى العبارة أنك أيها القارئ ترى إن بغضه للكرم المدلول عليه بتغريمه الدينار، والدينار أكبر قيمة من كل طعامه، ثم إكراه نفسه على الظهور بمظهر من يلوم على عدم الأكل، هاتين الخصلتين المتناقضتين قد وسعهما قلبه فاحتملهما لما يرجوه من الظفر في النتيجة.

(يتبع)