مجلة الرسالة/العدد 666/قصص فرعونية:

مجلة الرسالة/العدد 666/قصص فرعونية:

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1946


2 - قصة سينوحيت

للأديب مصري قديم

للأستاذ محمد خليفة التونسي

(ملخص ما نشر في العدد 663)

أشرك ملك مصر أمنمحعت الأول قبل وفاته بعشر سنوات ابنه

وولي عهده أسرتسن الأول في حكم مصر، وكان أسرتسن

يقوم بقيادة الجيوش في حملاته الخارجية بينما يبقى أبوه في

العاصمة لتدبير شؤون مصر.

في إحدى حملات أسرتسن على ليبيا كان يرافقه بطل القصة سينوحيت الذي كان حافظ أختام الملك ونديمه ومستشاره والقيم على شؤون الغرباء، وبينما الجيش عائد إلى العاصمة من الغرب جاء رسول من القصر إلى أسرتسن يحمل إليه نعي أبيه سراً، وسمع سينحوت بموت أمنمحعت فقرر الفرار من الجيش بل من مصر، لنه رأى أن بقائه فيها خطراً على حياته بعد موت أمنمحعت واستبداد أسرتسن بالأمر فيها، فاختفى في أحد الحقول حتى مر الجيش على مكمنه فلم يره، ثم سار إلى سنفرو ثم الحميزة ثم عبر النيل إلى الشرق على طوف وجده هناك حتى وصل إلى الجبل الأحمر، ثم سار إلى الشمال مجتازاً مسلحة عند عين شمس كانت تحمي مصر من غارات الأسيويين ثم انحدر في وادي كيمور (طوميلات) وفيه كاد يهلك ظمأ لولا أن عثر عليه رجال من الساتي (بدو آسيا) فعرفوه وأنقذوه وأضافوه عندهم أياماً، ثم رحل عنهم إلى أدوم. . . وها هو ذا سينوحيت يروي بقية القصة. . . .

لم تطل إقامتي في أدوم أكثر من ستة اشهر، وهناك وافاني من الأمير أمونشي الحاكم على مرتفعات تنو رسول يطلب مني أن ارحل إليه، إذ كان في حاشية هذا الأمير بعض المصريين الذين كانوا يعرفونني، فوصفوني عنده، وأخبروه بمنزلتي فلبيت دعوته وأتيت، فطلب مني الإقامة معه معللا ذلك بقرب بلاده من مصر، وبأن من اليسير عليّ، وأنا في بلاده، أن أقف على ما يجري في مصر من أحداث.

وربما كان الرجل خالجه إن أمراً ما هو الذي ألجأني إلى أن أهجر بلادي، فشاء الوقوف عليه، فحاول استدراجي لأكشف له عنه، فسألني عما دفعني إلى المجيء، وعما جرى في البلاط، وما إذا كان الملك سحتب آب رع (أمنمحعت الأول) قد رحل إلى السماء.

فهمت حيلة الرجل فلم تنطل عليّ، وقلت له مداوراً حتى لا يهتدي إلى ما كان: (إنني لم آتي هنا فراراً من ذنب جنيته: فأنا لم أنطق بفاحشة ولا أصغيت إلى رأي امرئ، ولا حوكمت أمام القضاء، ولكني - إذ كنت في تمهو (ليبيا) - ترددت في السفر، غير إنني وجدت أنه لا يليق بشجاعتي أن أعدل عما أزمعت من الرحلة فرحلت، لم يكن من أمري غير ما حدثتك، فأنا لا أدري ما دفعني إلى هذا الإقليم).

قال الأمير: (إنما هي مشيئة الإله الكريم، وإن ذكره ليلقي من الروع في قلوب الأجانب ما يلقى عام القحط في قلب الفلاح).

فقلت: (غفواً فلقد تسلم ابنه مقاليد الملك، وتربع على عرشه، وإنه لفريد بين من سبقوه في أخلاقه وعظمته، فهو حازم أريب في كل ما يدبر من أساليب ملكه، وهو يسبغ عطفه على كل من يخلص له، وهو - إلى ذلك - قائد بارع دوخ بجيوشه الأقطار الأجنبية عندما كان أبوه حياً في القصر، وهو بطل صنديد فريد في قتاله: إنه - إذا دارت المعركة - ليقتحم صفوف أعدائه الطغاة غير هياب ولا وجل، فيطيح أبواقهم، ويهشم جماجمهم، ويصدع صفوفهم بضارباته القوية حتى يشل قواهم، فيكفوا عن القتال ويولوا الأدبار، وهو مقتحم لا يأبه بالأخطار، ولا فبل لأشجع الشجعان بالوقوف في وجهه كما انه عداء سريع لا يستطيع أحد أن يفلت منه، بل يتخطفه قبل أن يبلغ مأمن، وإذا ما استحر القتل انقض على أعدائه فنفضهم من حوله نفضا وهجم ذات اليمين وذات الشمال ومن الخلف ومن الأمام، وتساقطت ضارباته العنيفة الثقيلة في كل ناحية، والويل لمن حلت عليه إحدى ضارباته إنها لتجند له وتسحقه، انه هو الأسد الهصور ينشب براثينه في أعدائه بلا شفقه، فإذا هم كالكلاب الذليلة الخاشعة قد انفضوا من حوله، حتى إذا ما انهزموا لم يعفهم بل يطاردهم حتى يلحق بهم ويمزقهم شر ممزق. لقد أمدته الإله ببطشها وجبروتها، وإنها دائما لترعاه وتكفل له الغلبة على الأعداء الذين لا يؤمنون بها، وقد جمع إلى كل ذلك فضائل جمة، فهو أنيس حلو الشمائل لطيف المعشر نافذ البصيرة قدير على أن يخلب الألباب ويستميل القلوب، وما من أحد في شعبه إلا وهو يؤثره على نفسه، ويفتديه بحياته. وقد تمرس بالحكم ومصاعبه منذ ولد، وكان مولده بشيرا بتكاثر الذريات، وشعبه متمسك به، يحبه ويستريح إلى حكمه، وهو حريص على إن يمد حدود مصر نحو الجنوب، وان كانت الأقاليم الشمالية لم تخضع له، وهذه قبائل الساتي لم تذق ضرباته، ولكن من يدري فربما اجتاح يوما هذه الأقاليم، فخير لك إن تقدم له فروض الولاء حتى يعرفك، ولا ريب أنه سيشملك بعطفه).

فقال: (ما أسعد مصر! إن موقعها حسن وشؤونها مدبرة بأحكام وسداد، وهاأنذا أعاهدك على أن أقدم إليك كل مساعدة أستطيعها ما دمت أنت بجانبي آية تقديري لمصر التي أنت منها).

وقد أوفى الأمير بعهده فزف ألي كبرى بناته، وترك لي أن أختار ما أشاء من أرضه ليقطعني إياه، وكان - فيما عرض عليّ غير ذلك - مقاطعة (له على جانب عظيم من الخصوبة ووفرة الثمرات، اسمها (ياع) كانت حافلة بالحبوب من حنطة وشعير، فياضة من عنب وتين، زاخرة بالعسل، ونبيذها كثير كالماء، وكانت تمرح فيها قطعان لا حصر لها من الماشية.

ولم يقنع الأمير أن غمرني بعطاياه، بل أقامني - رغبة في استبقائي إلى جانبه، والانتفاع بي في ولايته - أميراً على قبيلة من أضخم القبائل التي تمرح في ولايته، فكان رجالها يتكفلون بطعامي كل يوم، فيقدم لي خير الأطعمة من خبز ولحوم طيور وغزلان، وأشهى الأشربة من لبن ونبيذ، وكان يقدم لي الزبد مستخلصا من اللبن، وكثيراً ما كنت أصيد الغزلان أو تصيدها لي كلابي المكلبة فوق ما كان يقدم إلى من رجال القبيلة.

أقمت في تلك القبيلة سنوات طويلات رزقت في أثناءها عدة أولاد، ولما بلغ أولادي أشدهم جعلتهم زعماء على العشائر، وكنت حاكماً باراً كريماً أمد الطعام للجوعان، والماء للظمآن، وأبسط رعايتي على كل من يطلب الأمان، وابذل عوني لكل من أذله الزمان، وأعاقب اللصوص وقطاع الطرقات حتى عم الأمن والرخاء إقليمي، وكنت أواسي بمالي من أنتهب ماله، وكان قصري ملجأ لذوي الحاجة، وما ضننت بمساعدتي على أحد ممن لاذ بي.

وكان الأمير قد اسند قيادة جيشه إلي، فكنت في غزواتي عند حسن رأيه فيّ؛ وأظهرت من البسالة والحنكة ما ظنني أهله؛ فما غزوت قوما إلا انتصرت عليهم، وظفرت منهم بمغانم كثيرة وما عدت من حرب إلا وأنا أسوق معي أسراهم وماشيتهم، وكنت لا أنفك أدبر مكايد الحروب، والقي في المعارك بنفسي ضاربا بحسامي أو راميا بنبالي، وكانت جموع الساتي تهجم على بلاد الأمير فتعيث فيها فسادا، فاستطعت أن أوقف غزواتهم، وأنقذ البلاد من شرورهم، وأردهم إلى مواطنهم في القفار.

ولما نمت أخباري غلى الأمير عظمت مكانتي عنده، وتمكنت محبتي في قلبه.

وكان هناك في أرض تنو بطل صنديد شديد البأس لا نظير له في قوته وشجاعته ونزاله، وربما كان قد امتدت عيناه إلى ما أنا من نعم وفيرة وخير سابغ، فطمع في أن يقتلني ليستحوذ على ثروتي.

جاء هذا الرجل يوما يتحداني ويطلب مبارزتي، فلم أدر ما دفعه إلى معاداتي، ولما استشارني الأمير في أمره أجبته: (لست أعرف الرجل، ولا أراني نداً له في بطشه، ولا كفؤاً له في قتاله، ولا أذكر أنني انتهكت له حرمة، ولا هجمت دارا ولا عثت في أرض. فماذا يدعوه إلى مبارزتي! لست أظنه إلا حسودا.

ليعلمن هذا الزنيم أنني لست كالعجل بين البقر يتربص هجوم الثور عليه ليفتك به، فإن الثور المرير ولوع بالنطاح، وليس على الثور الخرع إلا الفرار. سأتدبر أمري معه ولو أنه بدوي مدرب على القتال، ولنتركه وشأنه حتى يظهر أنه شجاع مقدام ولوع بالنزال وانه يعني ما يتوعد به).

شاع خبر المبارزة في البلد وما جاوره، وبات أهل تنو ليلتهم تلك ومالهم من حديث تلوكه ألسنتهم إلا حديث المبارزة بيني وبين البدوي في الصباح. ونمت أنا تلك الليلة حتى إذا ما تنفس الصبح نهضت من نومي لآخذ للمبارزة عتادها، فأعددت قوسي ووضعت نبالي في كنانتي، وما أن طلعت الشمس حتى كانت الجموع ممن نمى إليهم خبر المبارزة في الجهات المجاورة قد تجمهرت لشهود المبارزة، وكان القوم يبكون والنساء، يعولون خوفا عليّ من خصمي الجبار الذي جاء ليبارزني وقد لبس درعه ولأمته، وحمل فأسه، وتأبط كنانته الحافلة بالنبال، وكان المتجمهرون في حزنهم يودون لو أن مبارزا غيري افتداني وتقدم عني لمبارزته.

وحل موعد المبارزة فخرجنا، ودعوته إلى أن يبدأ الرمي ففوق نباله ألي، بيد أني حدت عن طريقها فطاشت نبلة فنبلة، وحلت نوبتي فتفترت له ثم سددت إليه قوسي، وما هو إلا أن أطلقت نبلتي الأولى حتى أصمته في نحره ومرقت من عنقه فخر مجدلا يتلوى ويصرخ من شدة أوجاعه، فاستللت فأسه الذي أعدها لذبحي، وأجهزت بها عليه، ثم وقفت فوقه وهتفت بأعلى صوتي هتاف الانتصار

عندئذ صاح المتجمهرون صيحات الفرح والغبطة، حتى لقد بلغ الأمر بمن كانوا معه أن عداهم هذا الشعور الفياض فشاركوهم في ابتهاجهم وحمدوا إلههم منث إله الحرب وأثنوا عليه، كما ركعت له وصليت إذ مكنني من عدوي. وعندئذ أقبل عليّ الأمير فاحتضنني وعانقني عناقا حارا دل على محبته وإخلاصه لي، وابتهاجا بفوزي على غريمي.

وقد انتقمت من خصمي ما وسعني الانتقام، فصنعت به مثل ما أجمع رأيه أن يفعل بي، فما كدت أفرغ من القضاء عليه حتى ذهبت إلى فسطاطه فحطمته بعد أن استحوذت على كل ما فيه من متاع، كما ضممت إلى ثروتي كل ما كان له من أنعام.

ونبهتني هذه الواقعة إلى حقيقة حالي، وأحسست بالألم ووحدتي في غربتي، وفرط شوقي إلى وطني، فعملت على تقوية مكانتي بالاستزادة من الأموال والأنعام لتكون عونا لي عند البلاء، كما بعثت إلى مولاي الملك هذه الرسالة: (لقد جعلت الإله معتمدي، فانظر - يا مولاي - ما وهبني من خير جزاء اعتمادي عليه. لقد غادرت وطني مهاجرا خاملا، فصرت ذا ولاية وسلطان، ونبه صيتي. وهاأنذا - بعد أن كدت أهلك من المخصمة - صرت أمد الناس بالطعام، وبعد أن كنت عريان أصبحت أختال في أنفس حلل الكتان، وبعد أن كنت وحيدا طريدا أصبحت ذا أسرة كثيرة الأبناء، وفي خدمتي كثير من الحشم، ولي قصر باذخ فخم، وأرض خصيبة شاسعة.

(البقية في العدد الآتي)

محمد خليفة التونسي