مجلة الرسالة/العدد 669/الأدب في سير أعلامه:

مجلة الرسالة/العدد 669/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 04 - 1946



ملتن. . .

للأستاذ محمود الخفيف

- 10 -

تابع لمسرحية كومس الغنائية:

وما إن تتم العذراء أغنيتها حتى يبدو كومس، وقد طرب لهذه الأغنية وعجب كيف ينبعث مثل هذا اللحن من صدر أحد بني الفناء، وما يذكر أنه سمع لحنا مثله حتى ولا ذلك الذي كانت تغنيه أمه مع عذارى البحر فتسحر الملاحين به عن أنفسهم، وتغرق سفنهم؛ ويتقدم الساحر من الفتاة فيسألها من تكون فما يمكن أن يكون مثلها ممن ينتمون إلى هذه الغابة إلا أن تكون هي إلهتها، فهي تقيم فيها مع بان إله الرعاة أو سلفان إله الغاب، وترد الفتاة عليه وقد تمثل لها راعياً عليه سيماء الورع والهدوء قائلة إنها ما غنت فخورة بلحنها، إنما تستميل (إكو) علها ترد عليها من مخبئها. ويسألها الراعي ماذا أضلها، فتجيب بأنه الظلام وهذه المتاهات الملتفة الأوراق؛ فيستنبئها أكان تركها بسبب عدم الوفاء أم بسبب الجفاء؟ فتقول إنما كان ذلك ليبحثا في الوادي عن نبع سائغ برود. ويعجب الراعي كيف يتركانها على ضعفها؛ وليس معها من يحميها، فتجيب أنهما أزمعا أن يعودا على عجل؛ ويقول ربما كان العائق الظلام، فتجيب بقولها ما أسهل الحدس عليها وهي فيما هي فيه من تعس؛ ويسألها الراعي أيكون فقدهما أهم عندها مما هي فيه من حاجة إلى معين، فتنبئه أنهما أخواها، ويستفهمها أوصافهما، فما تجيبه حتى يقول إنه رأى اثنين كما وصفت عند تل قريب، وأنه أكبرهما أن يكونا من بني الإنسان وحسبهما من تلك الخلائق السماوية التي تعيش في ألوان قوس الغمام وتلعب فوق السحب المشتبك بعضها ببعض، وقد أخذه خوف منهما فصلى إذ مر بهما، فأن كان هذان من تبحث عنهما فأن رحلة أشبه بالارتحال إلى السموات تصل بها إليهما.

وتسأله الفتاة عن أقرب السبل إلى ذلك فيقول إنه يقع صوب الغرب من أجمة أشار إليها؛ وتبدي الفتاة خوفها وقلة حيلتها، فأن التنقل في الغابة فيما يرسله النجم من ضوء ق يشق على أمهر هداة السبيل. ويعرض الراعي عليها أن يهديها أو أن يسير بها إلى كوخ متواضع ولكنه أمين؛ وتقبل الفتاة ما يعرض قائلة إن الرفق الذي يبديه إنما يوجد في الأكواخ المسقوفة بتلك الأخشاب المسودة بالدخان أكثر مما يوجد في الأبهاء المزدانة من قصور الأمراء؛ ثم تتجه إلى السماء مستعيذة، وتسترد بصرها ملتفتة إلى الراعي قائلة: دونك أيها الراعي فاهدني السبيل. . .

ويظهر على المسرح بعد ذلك الأخوان فيناجي أكبرهما القمر والنجوم مستعيذاً بنورها، أو متلهفاً إن لم تجبه الكواكب إلى بصيص من الضوء ينبعث من كوخ. ويقول الآخر إنه يرهف سمعه عله يصيب صوت قطيع ينبعث من حظيرة أو زمارة راع أو صياح ديك بعد ساعات الليل؛ ثم يعلن أسفه على أخته العذراء الضعيفة ويتساءل ترى أين أنت يا أختاه! ربما كنت مستلقية على ضفة باردة رطبة أو مسندة جسمك الواهن من الحزن والخوف إلى جذع خشن، وقد نال منك الجوع والحر. ويعود أكبر الأخوين فيدعو أخاه إلى الهدوء والصبر، ويقول له إنه لا يخلق بالمرء أن يقدر السوء وأن يستعجل بالشر، وأنه لا يظن أن الخطر أحدق بأخته فمثلها من لا يزلزل هدوءها الظلام والسكون لأنها معتصمة بالفضيلة. ويسترسل الأخ الأكبر في امتداح العزلة، ويذكر كيف تريش الحكمة فيها جناحيها بالتأمل، ويقول إن من يحمل بين جنبيه نفساً مضيئة يستمتع بالنور وإن كان في قاع الظلمة، وإن من ينطوي على نفس مظلمة وأفكار سوء فإنه يكون في مثل حلكة الليل، وإن مشى في شمس الظهيرة فهو من نفسه في جب. ويلوح أن ملتن يشير هنا على لسان المتكلم إلى عزلته هو في هورتون وطلبه الحكمة والمعرفة لتستضيء بهما نفسه.

ويرد أصغر الأخوين بقوله إن الزاهد لا يمسه في عزلته أحد ولا يطمع في توافهه أحد، ولا يريد رأسه الأشيب أحد بسوء، ولكن أحرى بالجمال وهو أشبه بشجرة التفاح الذهبي أن يقوم على حراسته تنين. وكيف يطمئن قلبك على عذراء لا حول لها تخبط في ظلام الغابة؟ إنك إذن كمن يلقي بكنز بخيل لدى باب أحد اللصوص ثم يطمئن على سلامته. وما أخشى على أختنا من الظلام والوحشة وإنما أخشى مما يجرانه عليها من اعتداء وقاح تطمعه وحدتها.

ويعود أكبرهما فيذكر لأخيه أنه لا يتكلم عن سلامة أختهما كلام الواثق، ولكنه إن وجد نفسه بين الخوف والأمل فإنه يفضل أن يميل إلى الأمل. ثم يقول أن أخته ليست كما يتصور أخوه لا حول لها قط، فإن لديها قوة خفية لا يتذكرها أخوه، ويسأله أخوه متعجباً ما تلك القوة إلا إذا كان يقصد قوة الله، فيجيب إنه يقصد قوة الله إلى جانب قوة أخرى وهبها الله إياها فصارت قوتها هي، ويعني بها العفة. ثم يستطرد قائلاً العفة يا أخي العفة، ويقرر أن من تتدرع بها لا تخاف شيئاً ولن يستطيع أن يلطخ طهرها أحد. ويسأل أخاه أيؤمن بهذا الذي يقول؟ فإن كان لا يؤمن به فإنه يعيد على سمعه ما ذكره الأقدمون من الإغريق عن قوة العفة، وذكره بقصة ديانا آلهة القمر والصيد وقوسها وسهامها وعفتها التي هابها الآلهة والملوك.

ثم يذكر مينرفا آلهة الحكمة، وما كانت منيرفا تحول إلى مثل الحجارة الباردة إلا بنظراتها الناطقة بقوة العفة، ويسترسل في قوله فيذكر أن النفس إذا اعتنقت العفة في إخلاص، أحيطت بألف من الملائكة يدرؤون عنها كل ما هو بسبب من الذنب والخطيئة، ويصلونها بالسماء فتسمع ما لا تسمع غيرها من الآذان. وفي هذا الموضع من الغنائية يطنب (ملتن) على لسان أحد الأخوين في بيان فضل العفة كما امتدح من قبل العزلة وطلب الحكمة.

ويطرق سمع الأخوين صوت فينصتان ويقدران أنه إما أن يكون صوت ضال مثلهما أو صوت لص يدعو منسره؛ ويسأل الله أصغرهما لأختهما السلامة والنجاة، ويتأهب أكبرهما للدفاع، ويستنجد السماء له ولأخيه. . .

ويظهر عقب ذلك الروح الحارس في زي أحد الرعاة فيظنه الأخوان راعياً يعرفانه من رعاة أبيهما، ويسألانه ما خطبه، وهل فقد من غنمه شيئاً، فهو يبحث عنه، ويجيبهما أن الأمر أخطر مما يظنان، ثم يسأل عن أختهما فينبآنه أنهما تركاها قليلاً وعادا فلم يجداها، فيطلعهما على مخاوفه وهواجسه، فيسألانه أن يفصح فيقص عليهما ما علمه عن كومس وقبيله وما برع فيه من السحر، ويصف ما يبعثون في الغابة من جلبة وضوضاء، ثم يقول: قد سمعت أغنيه حلوة يرتفع بها صوت رقيق ملؤه الخشوع يسري فوق متن الهواء كما تسري نفحات العطر المقطر صوت بات الصمت ذاته حياله كالمأخوذ عن نفسه حتى لقد ودّ لو أنكر ذاتيته ذهب إلى غير عودة إذا كان صوت كهذا يحل محله. . . وأرهفت أذني أستمع فتبينت أنه صوت سيدتي أختكما الحبيبة، فمضيت لتوي صوب الصوت ولكني ألفيت ذلك الساحر اللعين قد أدركها قبل أن أصل وظهر لها في لباس قروي وهي تسأله عن اثنين تاها في ظلمات الغابة فاستخلصت أنها تسأل عنكما فخففت أبحث في الغابة حتى لقيتكما هنا، ولست أعلم ماذا كان من أمر الفتاة بعد ذلك.

ويجزع أصغر الأخوين مشفقاً على أخته؛ أما أكبرهما فيظل على يقينه وثقته في الفضيلة والاعتصام بها، فقد تهاجم الفضيلة ولكنها لا تغلب، وتباغتها القوة الظالمة ولكنها لا تزعزعها؛ وأن ما يريده السوء من خطر جسيم يصبح إذاً امتحنت به الفضيلة أعظم دواعي الفخر. ولا بد من أن يرتد الشر فينطوي على نفسه فهو من نفسه ينبت ثم إنه يأكل نفسه. ويعلن الفتى عزمه على مقاتلة ذلك الساحر حتى يرد ما اقتنص وهو صاغر أو يجره من ذوائبه إلى ميتة كريهة فيذهب لعيناً كما لعنت حياته؛ ولكن الروح الحارس أو الراعي يرد عليه بأن شجاعته هذه وإن كان يكبرها لن تجدي عنه شيئاً فذلك الساحر قادر على أن يشل بسحره مفاصله ويتلف كل عضلة في جسمه؛ ويتعجب الفتى ويسأله كيف تجرؤ إذن على أن يدنو من الساحر كما فعل؟ فيظهره الراعي على سر، وذلك أن صبياً من الرعاة دله على نبات يكشف السحر ويأمن به من غوائل السحرة ويفرح بذلك الإخوان، ويعتزمان لقاء الساحر وكسر زجاجته وقهره.

ويتغير المنظر على المسرح، فإذا جانب من قصر عظيم يتبدى للأعين وقد صفت فيه الموائد المغطاة بالأقمشة الموشاة، وزخر بأنماط الزينة وترقرق فيه لحن موسيقى هادئ. وتجلس العذراء على كرسي مسحور، ويظهر كومس وقبيله فيمد إليها يده بكأس، فتأخذها ولكنها تضعها جانبا وتهم بالوقوف، فيأمرها الساحر أن تجلس، فإنه إن هز عصاه أحالها إلى تمثال من المرمر أو صنع بها كما صنع أبولو بدافني؛ وترد العذراء عليه مغضبة بقولها لا تفخر أيها الأحمق، إنك إن استطعت أن تسيطر بسحرك على جسمي فلن تنال من حرية عقلي بكل ما أوتيت من السحر.

ويترفق الساحر في قوله، ويحاول إغراءها بأن تشرب من كأسه وألا تغضب، وأن تنفي عن نفسها الهم، ففي ذلك القصر لا يعرف الحزن؛ وهذا الشراب الذي تحتويه الكأس يملأ النفس حبوراً وقوة وشباباً. ولن يبلغ مبلغه في هذا السبيل ذلك الشراب الذي أعطته في مصر زوجة ثون لهيلينا ابنة جوف؛ وما أحوج العذراء إليه كما يحتاج كل امرئ إلى ما ينعشه بعد النصب ويريحه بعد العناء، وقد مسها التعب والجوع، وهذا الشراب يدرأ عنها ذلك جميعاً، وتصيح به الفتاة: إنه لن يفعل أيها الكذوب الخائن، وإنه لن يرد إلى لسانك ما نفيته عنه بكذبك من الصدق والأمانة. أهذا هو الكوخ الأمين الذي حدثتني عنه؟ وما هذه الأشباح المنكرة التي أرى؟ هذه الشياطين القبيحة الرؤوس! يا رحمة الله احرسيني. . . اذهب عني بسحرك أيها الساحر البغيض، لو كان ما تقدمه لي كأساً من شراب جونو الذي تشربه إذ تطعم على مائدتها ما تناولته من يدك الخائنة؛ إنه لن يعطي الطيبات من الأشياء إلا الطيبون، ولن تسيغ الخبيث نفس عاقلة تضبطها الحكمة.

ويعلن كومس عجبه من حماقة بني الإنسان وتصديقهم كلام الفلاسفة في القناعة والزهد؛ ولم تخرج الطبيعة إذاً كنوزها وثمارها وزينتها إن لم يك ذلك لتدخل بها السرور على الأنفس المتطلعة إلى كل معجب جميل، وما غناء الحرير والذهب الذي يعبده الناس جميعا وغيرهما من الجواهر؟ إن الإنسان إذا قنع بالتافه من الطعام والشراب والخشن من الثياب لم يعرف أنعم الله ولم يشكره؛ وأين تذهب تلك الأنعم إذا تراكمت بعضها فوق بعض لزهد الناس فيها؟ ويهيب الساحر بالعذراء ألا تخدع نفسها بتلك الكلمة الجوفاء ألا وهي العفاف؛ فإن الجمال لا يكنز وإنما يجب أن تتناوله الأيدي؛ وإذا تصرمت الأيام ذوى كما تذوي الورد في عودها. والجمال فخار الطبيعة، ولذلك يجب أن يعلن في القصور والولائم وعظيم الحفلات حيث يتدبر الناس في عجيب صنعه؛ ويختم الساحر كلامه بأن يدعو الفتاة إلى التفكر فيما يقول فهي في زمن الشباب. . .

وترد عليه العذراء قائلة: ما تصورت من قبل أن تنفرج شفتاي بالكلام في جو كريه كهذا الجو، ولكن ما الحيلة وهذا الساحر يدلس على الرأي ويظن أنه قادر على أن يسحر فكري كما سحر عيني فيأتي بكلام زائف يلبسه لباس العقل؛ وإني لأكره أن تتمكن الرذيلة من أن تدلي بحججها ولا يكون للفضيلة لسان يصد تبجحها. أيها المخادع لا تتهم الطبيعة البريئة كما لو كانت تريد أن تبث في قلوب بنيها الزهو والخيلاء بما تفيض عليهم من كنوزها. إنها ما تخرج خيراتها إلا للطيبين الذين يعيشون وفق قوانينها الحكيمة، ويسيرون حسب ما يقتضيه الاعتدال. ولئن أتيح لكل رجل ممن أضنتهم الفاقة قدر بسيط لائق به مما جعلته الأبهة والترف ركاماً بعضها فوق بعض في أيد قليلة، فإن أنعم الطبيعة بذلك توزع في عدالة، وعندئذ فلا تتلف في خزائنها، وعلى ذلك يكون شكر المتفضل المنعم قد أدته كل نفس. ألا أن النهم لا يتجه إلى السماء ومن حوله ما تمتلئ به مائدته الفخمة، ولكنه يضيف إلى تهمه كفرانه بالنعمة، ذلك الكفران الدنيء الغبي فيمتلئ ويخوض في حق طاعمه. أأزيدك من قولي أم كفاك ما قلت؟ إنه لا يسعني إلا أن أقول شيئاً أرد به على ذلك الذي يجرؤ أن يسلح لسانه البذيء بكلمات حقيرة يوجهها ضد تلك القوة المتشحة بأشعة الشمس، قوة العفة ولكن ما غناء ذلك؟ إنك لا أذن لك ولا قلب حتى تفهم ذلك الرأي السامي وذلك السر العلوي اللذين ينبغي النطق بهما ليتكشف لك الخطير العاقل ألا وهو مبدأ العفاف، ومثلك من لا يستحق أن يعرف من السعادة أكثر مما هو فيه فأهنأ بلباقتك الحبيبة إليك وفصاحتك المرحة التي مرنت على لجاجها الخادع. وإنك لأصغر عندي من أن ترى نفسك وقد لزمتك الحجة. ولئن تكلمت فإن ما لهذه القضية الطاهرة من أحقية في الكلام لا تقاوم جدير أن يشعل جوانب نفسي حماسة بحيث يتحرك بالعطف على كل أصم من الجماد وتهتز الأرض الجافية فإذا بصرح سحرك الذي امتد عالياً صوب السماء ينقض كومات فوق رأسك الزائف.

ويحدث كومس نفسه قائلاً: إن لكلامها لوقعاً، وإني لأحس أن كلماتها إنما تمليها عليها قوة عليا ومع أنني لست من بني الفناء، فإن رعشة باردة تهز كياني كله كما بعث جوف الرعد إذ غضب فألقى بأبيه ساتورن في العالم السفلي، وكما تثير السلاسل المهتزة من رعد في آذان ملاحي ساتورن، ومع ذلك فيجب على أن أتغافل عما أجس وأعود إلى محاولتي معها وأنا أكثر مما كنت قوة، ثم يتجه إلى العذراء قائلاً حسبك هذا فإنه مما تلغون به في الحديث عن الخلق، وإنه ليخالف قوانيننا وقواعدنا، ولست أطيق منه أكثر مما فعلت، وما هو إلا مظهر نفس غاضبة، ولكن هذه الكأس تشفي ذلك كله سريعاً. إن رشفة واحدة منها تغرق النفس المكتئبة في فيض من السرور تقصر دونه مباهج الأحلام فارجعي إلى صوابك واشربي. . .

ويندفع أخواها وقد شهر كل منهما سيفه، ويضرب أحدهما زجاجة فيلقيها من يده فتتحطم فوق الأرض، ويهم أتباعه بالمقاومة ولكن الأخوين يدفعانهم بسيفيهما، وعندئذ يدخل الروح الحارس. . .

(يتبع)

الحقيف