مجلة الرسالة/العدد 669/لمحاربة المرض والفقر والجهل:
مجلة الرسالة/العدد 669/لمحاربة المرض والفقر والجهل:
إلى القرية. . . يا شباب
للأستاذ علي الطنطاوي
لما كنت موظفاً (في بغداد) كنت أجلس كل عشية على سطح منزلنا في (الأعظمية) أشرف على الحقول التي تمتد إلى ما حدّ، أرقب الشمس وهي ترجع إلى خدرها، والفلاحين وهم يؤوبون إلى منازلهم في خط طويل متسلسل كأنه نهر جار، نهر يجري منذ عصور مديدة لا يقف ولا ينقطع ولا يبلغ مصبه، يسوقون دوابهم التي أنهكها العمل، وأضناها الكد، كما أضنى أصحابها الشغل المتواصل في الحقول، الشغل السرمديّ الذي يبدأ مع الفلاح حين تبدأ حياته، ولا ينتهي حتى تنتهي، يشتغلون وهم أطفال، ويشتغلون وهم شباب، ويشتغلون وهم شيوخ، لا يستريحون ولا ينالون على تعبهم إلا لقمة من خبز الشعير. . .
فيا لروعة الواقع!
هؤلاء الذين يشتغلون هم ونسائهم وأطفالهم ودوابهم ليقدموا للناس القمح لا يأكلون خبز القمح! هؤلاء الذين يرفعون عماد الدولة لا تدري بهم الدولة، ولا تهتم بهم! هؤلاء الذين يملئون بالذهب صناديق السادة الكسالى يحتقرهم السادة، ولا يدعون في جيوبهم قرشاً يشترون به ثوباً نظيفاً لطفلهم الذي يتبع طفل السيد، كأنه الكلب الجائع يسأله قطعة من (العيش) الأبيض الذي يزرعه أبوه هو، فلا يعطيه إلا الحجر الذي يرجمه به، أنه يستنكف عن أن يمسه بيده الناعمة الرخصة البنان. . .
كنت أرى ذلك فيذهب بي الفكر إلى عشرات من المشاهد رأيتها في قرى الشام وفيما زرت من قرى مصر. . .
يذهب بي الفكر إلى حوران يوم زرت رفيقاً لي كان معلماً في إحدى قراها، فرأيته يسكن عند الفلاح في داره المبنية من الأحجار السود المكدسات، بعضها فوق بعض، لا يمسكها أسمنت ولا طين، ولا يدري الساكن تحتها متى تهبط عليه فترديه قتيلاً. وفي هذه الدار غرف متعددات، في الأولى البقر، وفي الثانية الحمير، وفي الثالثة الخرفان، وفي الرابعة الفلاح وأسرته، يعيشون كما تعيش تلك البهائم. . . ولقد أمسكت بأنفي لما دخلت الغرفة. . . لأن الرائحة كادت تقتلني: رائحة الدواب التي تأتي من هناك، ورائحة (الجلّة. . .) التي يوقدونها في وسط الغرفة، في حفرة حفروها فيها، لأنهم لا يملكون ثمن الحطب ولا الموقد، ولكني صبرت وولجت متوكلا على الله. ولما صافحني الفلاح بيده المتشققة الخشنة شعرت كأني ألمس مبرداً، ولكني صبرت (أيضاً) لعلمي بأن هذه اليد الخشنة هي التي تقدم إلى الخبز الذي أعيش به، والمال الذي اَخذ منه راتبي، وأشتري منه هذه الثياب التي أفتخر بها على الفلاح، وأخشى أن يدنسها بيته. ثم رأيت أطفاله وأردت نفسي على مداعبتهم، فإذا هم يحملون الأقذار على ثيابهم، والذباب على أفواههم، والقذى في عيونهم، والمرض في أجسامهم، وليس في القرية طبيب، وليس فيها دائرة صحة، وليس عند الفلاح مال، وليس عنده علم. أن السادة الذين أخذوا ماله وثمرة كدّه لم يعلموه، ولم يعطوه أجرة الطبيب. . . ثم جاء الفلاح بالأكل وأعقبه بالشاي، وإني اعفي القاريْ من وصف هذا الأكل وهذا الشاي. . . أخشى أن يصيبه الغثيان!
ويعود بي الفكر إلى حوران، وقد زرت تلك القرية مرة ثانية، وكان ذلك في وقت الحصاد، يوم حق للفلاح أن يتمتع بتعبه بعد سعي موسم كامل، يوم نال مكافأته على هذا التعب الطويل، والشغل المضني، فإذا الدائنون المرابون والجابي، ينتظرون على باب المنزل. فلما رجع الفلاح إلى منزله هاشاً باشاً مبتسماً، يحمل المال الذي حصل عليه بجد يمينه وعرق جبينه، اعترضوا طريقه قبل أن يصل إلى أولاده، فأخذوا المال كله فلم يف بالذي يطلبونه وبقى عليه للحكومة أربع وثلاثون ليرة. . .
يا للقانون! يا لحق الخزينة. . .
يا أيها الجابي شد ركابك! يا أيها الجندي أعدّ سوطك وسلاحك! يا أيها الناس أقيموا القيامة على هذا اللص الذي أكل أموال الدولة. . .
حل البلاء بساحة الفلاح المسكين، ونزل عليه جنود الدرك يقيمون حتى يؤدى المال، يتشهون عليه المآكل، ولا يرضون بغير الدجاج والخرفان، وهم في بيوتهم لا يأكلون إلا الزيتون والجبن، ويأخذون شعيره ليطعموه دوابهم ويضربون وجهه وظهره. . . أنهم يطلبون بقية الضريبة. . .
ولكن لم يبقى عنده شيء.
إذن فلتبع أمتعته.
ولم يجدوا عنده إلا الفراش القذر، واللحاف الخلق، والبساط المخرق، والقدر الأسود، فباعوها بالمزاد العلني وتركوه على الأرض.
ولما رجع الجباة كلهم إلى العاصمة. . . وجمعوا ما ملأ الخزانة تبسم ولي الأمر، وقال لأعوانه:
- لقد اجتمع مال يكفي السنة كلها، وإننا لا نستطيع أن نرد هاتيك الوسائط كلها والشفاعات، فأعدوا مرسوماً بإعفاء فلان بك من الضرائب المتراكمة عليه من سبع سنين، وهي تسعة وعشرون ألف ليرة وسبعة وخمسون قرشاً. . .
أعفوه، ولكن تسعة عشر ألف فلاح صاروا ينامون على الأرض، لم يبق لهم فراش!
كنت أذكر ذلك وأنا أنظر إلى خط الفلاحين الذين يعودون إلى دورهم، وقد غاب أوله خلال الظلام، فأفكر في هؤلاء الفلاحين إلى متى يمشون؟ أما لممشاهم نهاية؟ أما لطريقهم أخر؟ أكتب عليهم أن يشاركوا البقر والحمير في عملهم وطعامهم وسكناهم؟ أكان لزاما عليهم أن يعملوا أبداً ليستريح ال (بك) أو (الباشا)؟ ويجوعوا ليأكل؟ ويفنوا جسومهم ونفوسهم ليأخذ هو الذهب فينفقه على موائد الخمور ومجالس الفجور؟
أيبق هؤلاء الناس جاهلين، يعيشون بمعزل عن الحياة، يترفع الشاب المتعلم عن الجلوس إليهم ومصافحتهم والسلام عليهم، وإذا بعثوه ليكون معلماً لهم، أو موظفاً فيهم، أقام الأرض وأقعدها ولم يدع وسيلة للتخلص من هذا (النفي) إلا توسل بها؟
إن الفلاحين في بلاد العرب، هم جمهرة السكان، هم حياة البلاد، هم الشعب، فإلى متى يبقون محرومين من العلم والصحة والنظافة والإنصاف والمدنية؟
فكروا في هذا أيها الشباب. . .
يا أيها الشباب الذين يعرفون القرية ومعيشتها وحالة أهلها. . .
يا أيها الشباب الذين يحبون بلادهم، ويريدون صلاحها. . .
أن الشاب النافع هو الذي يخدم ويعمل ويدع أثراً صالحاً، أما صاحب الجعجعة والكلام الفارغ فلا ينفع أحداً، إن ميدان القرية أحوج الميادين إلى همم الشباب، وذكائهم، ومعرفتهم ونشاطهم، لا أريد أن يترك الطلاب مدارسهم ليزرعوا الأرض، ويعيشوا في الحقل، ولكن أريد أن يفكروا بمثل (مشروع إنعاش القرى) الذي قام به في صيف سنة 1933 نفر من طلاب الكلية الأمريكية في بيروت، فانتخبوا من المتطوعين للعمل في القرية فريقاً بحثوا أسبوعاً في (مؤتمر) عقدوه، ودرسوا أحوال القرية اللبنانية، وعرفوا داءها، وفتشوا عن دوائها، وكان يعاونهم بعض الأساتذة والخبراء الفنيين، ثم ألفوا أربع بعثات وأرسلوها إلى القرى، فدرست الحال عن كثب، ورأت أن العمل في قرية واحدة يقيمون فيها الصيف كله اسهل وأنفع، وأنه يجب على أعضاء البعثة أن يحملوا خياماً يبيتون فيها، وطعاماً لهم وشراباً، ليخففوا عن الفلاح ولا يرزؤوه شيئاً، وليروه لوناً من الحياة جديداً ويحببوه إليه، وكان من أهم أغراض أصحاب ذلك المشروع:
1 - الصحة، فيكون في البعثة الصحية قسم للدرس والإحصاء والتعليم، وقسم للتطبيب.
2 - النظافة، بتعليم الناس ومحاضرتهم، وبالعمل على إصلاح مجاري الماء الطيب والخبيث، وتنظيف الطرق وتجفيف البرك.
3 - الزراعة، بإرشاد الفلاح إلى طرقها الجديدة، وآلاتها الحديثة، وأصول مكافحة الحشرات والأمراض.
4 - تعليم الأميين من الفلاحين، والعمل على إنشاء المدارس لأولادهم.
إننا اليوم على أبواب العطلة الصيفية، وسيبقى أكثر الطلاب في المدن، يرتادون القهوات، ويؤمون السينمات، ولا ينفعون خلالها ولا ينتفعون. فهل يعمل فريق من الطلاب في كل بلد على (إنعاش القرى) على نحو ما ذكرنا، فيكون لهم من ذلك صحة في أجسامهم، وقوة في نفوسهم، وخبرة ببلادهم، وخدمة لإخوانهم، ومأثرة باقية عند الناس وعند الله، ونجاة من ملل الصيف وحره، وبكون لهم من هذه الإقامة في القرية تحت الخيام، وهذا التعاون مع إخوانهم على هذا العمل الصالح سعادة تمر الأيام ويذهب الشباب، ولا تمحي من النفس ذكراها، ويكون ذلك هو الدواء الشافي لهذا الداء المثلث الذي استعصى على الأساة، داء الفقر والجهل والضعف. . . هل يقبل على ذلك شباب (الإخوان المسلمين) السباقين إلى كل خير؟
وهل يعمل هؤلاء الشباب على إنشاء (أدب القرية)؟ ذلك بأن يدعوا الكتاب والشعراء إلى وصف حياة القرية، وأن يكتبوا فيها القصص، والمباحث، ويختلطوا بالفلاحين، ويترجموا لنا آمالهم وآلامهم. وهذا اللون من ألوان الأدب موجود في كل الألسنة واللغات إلا لسان العربي، فإنه قليل فيه أو هو نادر، وعلة ذلك احتقارنا الفلاح، وإهمالنا شأنه، ونسياننا أن الفلاحين ناس مثلنا، يبذلون في سبيلنا كل شيء دون أن تصل إليهم مكافأة، أو ينالوا ربحاً، أو يسمعوا شكراً؛ بل إنهم ليتمنون أن ينظر إليهم الـ (بك) كما ينظر إلى كلبه العزيز عليه، الأثير لديه. . .
فيا لهؤلاء المساكين!
إن المروءة والشرف والواجب الوطني، والدين والإنسانية، وكل مبدأ مقدس يدعوكم إلى مساعدة الفلاح، يا أيها الشباب. . .
فيا أيها الشباب: إلى القرية. . . إلى القرية!
لا. لست اشتراكياً، ولا شيوعياً، ولكني إنسان، وإني مسلم!
علي الطنطاوي