مجلة الرسالة/العدد 67/من ذكريات الصبى
مجلة الرسالة/العدد 67/من ذكريات الصبى
الذهاب إلى المدرسة
للأديب حسين شوقي
حينما أعيد على نفسي الآن بعض ذكريات صباي، أدهش من الشخصية المؤلمة التي كانت لي في ذلك العهد.
كنت مضرباً أولاً عن الذهاب إلى المدرسة، برغم تقدمي في السن، وقد بلغت الثامنة. . وكان والدي يحبني كثيراً، فلا يعارضني في رغبتي، برغم إلحاح أفراد أسرتي جميعاً، وبخاصة مريبتي العجوز، وكانت امرأة شركسية شديدة المراس، تفشل معها حيلي وتوسلاتي. . كانت هذه المربية مغرمة بالمشاكسة، فإذا لم تجد من تشاكسه، عمدت إلى ضرب القطط والكلاب وكنا جميعاً نتحمل هذه المربية المتعبة، لأنها قديمة العهد عندتا إذ كانت مربية لوالدتي قبل أن تكون مربية لنا.
وكان لا يروق هذه المربية أن تثير موضوع إرسالي إلى المدرسة إلا أثناء الطعام، فتنغص علي فكان والدي رحمه الله يثور عليها، وينحى عليها باللوم القارس فتسكت، ولكن تعود فتتمتم شتائم - بالتركية - تتناول الجميع. . فكنت من جانبي أنتهز هذه الفرصة للثأر منها، إذ أعيد بالعربية في صوت عال هذه الشتائم. . فيهيج عليها الجمع ويضطرونها إلى مغادرة الحجرة مغضبة ثائرة. .
ولكن لما تكررت منى هذه (الدسائس الشرقية) أفتضحأمري، وأخذت مريبتي تقابل دسائس بالدس لي، فألحت إلحاحاً شديداً في إرسالي إلى المدرسة حتى تمكنت من ذلك، للتخلص مني غالباً، لا حباً في العلم.
أدخلت مدرسة الأباء اليسوعيين (بالظاهر) بالقسم التحضيري الذي تديره الراهبات. . وكان بين مريبتي وبيني نضال كل يوم في الصباح، إذ كنت أحاول إلا أذهب إلى المدرسة، متعللاً بالمرض. ز ولكن مريبتي الخبيثة كانت تفهم حيلتي، فتقول: حسين. . إذا كنت مريضاً فابق بالمنزل، ولكن عليك أن تأخذ مسهلاً، فكانت بقولها هذا تضعني بين أمرين أحلاهما مرّ. . وكنت في النهاية أفضل المسهل لأن المدرسة كانت سجناً؛ إذ أغادر المنزل الساعة السابعة صباحاً (وكنا وقتئذ نقيم في المطرية)، ولا أعود إلا في الساعة السابعة مساءً، أي أن النهار كان يولد ويموت وأنا بعيد عنه وعن ضوء شعاعه البهيج. .
حقاً، ما أتعس حياة التلميذ.
كان الخادم المكلف بمرافقتي من المدرسة إلى المنزل يتأخر أحياناً لدى الخروج، فكنت أجهش بالبكاء مخافة أن أقضي ليلى أيضاً بالمدرسة. .
وكان لى رفيق بالمدرسة، مصري كذلك، يبكى مثلي إذا تأخر عنه خادمه، فيا لنا وقتئذ من جوقة ندابة
أما داخل المدرسة فكان الراهبات الطيبات لا يألون جهداً في تحبيب الحياة المدرسية ألينا، فكن يغمروننا بالهدايا، من ورق ملون وحاوى وغيرهما. . ولكن برغم هذا كله كنت أطمح إلى استرداد حريتي المفقودة، فما أبعد الفرق بين حياة تقضى بين جدران أربعة في وسط الغرباء وبين حياتي الأولى التي كنت أقضيها في رياض المطرية الغناء، متنقلا بين الخضرة والزهور.
إن الحرية لا تقدر في كل وقت وفي كل زمن؟
كم كان يرهقني في ذلك الوقت حفظ أشعار لافوتين؟
فكنت أبغض ذلك الشاعر المسكين، كما كنت اسخر منه، لأنه يجعل الحيوانات تتكلم شعراً. . من رأيي إلا يدرس لافوتين وأمثاله في مثل هذه السن التي لا يمكن فيها تقدير هذه النفائس الأدبية. .
ولكن ذهابي إلى تلك المدرسة لم يدم طويلاً، فقد فصلت منها لكثرة انقطاعي عنها، فجيء لي حينئذ - بفضل تعضيد والدي - بمدرسين في المنزل فكان هذا بداية عهد سعيد، لم يطل مع الأسف، إذا نفينا بعده بأشهر قليلة إلى أسبانيا
وأذكر من ذلك العهد أيضاً حادثاً يدل على مقدار حقد الطفل وعلى روح الانتقام الكامنة فيه، وذلك خلاف ما ينسب إليه من طهر وبراءة.
اشترى والدي وقتئذ سيارة (توربيدو) ذات أربعة مقاعد، وكنت أطمح إلى أن أقودها مثل أخي وهو يكبرني بسنوات قليلة؛ ولكن السائق رفض لصغر سني، فرفعت الآمر كعادتي إلى والدي فلم ينصفني على خلاف عادته، بل أعطى الحق للسائق إشفاقاً منه على حياتي. . فأقسمت أن أثار من السائق، وإليك كيف أتيحت لي الفرصة أن أحقق هذه الأمنية: كانت هناك في المطرية في ذلك الوقت حانة تديرها أجنبية فاسدة، يحذروننا منها. فاتفق ذات يوم أنني كنت عائداً في المساء من المحطة المطرية إلى المنزل - مشياً على الأقدام - فاعترض في الطريق جنديان بريطانيان يستفهمان عن عنوان تلك الحانة، فأعطيتهما من فوري عنوان منزل السائق! فكان ما قدرته، إذ عندما جاء السائق - إلى منزلنا - في صباح اليوم التالي، كعادته، كانت عينه اليمنى زرقاء اللون، فقد تشاجر مع الجنديين البريطانيين ذيادًا عن عرضه!.
حسين شوقي