مجلة الرسالة/العدد 67/من ذكريات لبنان
مجلة الرسالة/العدد 67/من ذكريات لبنان
النفوس المغلقة
للأستاذ أديب عباسي
نهضت في الصباح الباكر ودعوت حمالاً يحمل الحقائب إلى المحطة. وكنت قبلها قد هممت مرتين في صباحين متوالين أن أسافر، ولكنني كنت كل مرة أصل المحطة متأخراً عشر دقائق أو نحوها. وكنت بالطبع ألقى اللوم على أصحاب الفندق الذين يتعمدون التلكوء عن تنبيهي صباحاً حتى يستنزفوا البقية من دراهمي! والحقيقة التي لا مراء فيها أن أصحاب الفندق لم يهملوا تنبيهي في الوقت الذي سألتهم أن يفهموني فيه، ولكنها الرغبة الكامنة في هذا البلد الجميل - لبنان - كانت كل مرة تتغلب على الإرادة الشاغرة فتغمض العينين بعد انفتاح، وتضرب على الإذنين بعد انتباه، وتهوم للشعور فيغفو بعد صحو وبقيت بعد حضور.
وكنت بعد أن ابلغ المحطة وأحملق في القطار الذاهب في حنق مكذوب أعود أرضى نفساً وأوفر بشراً مما لو كنت لحقت بهذا القطار - قطار لبنان العجيب - ليحملني بين أنفاسه الفاسدة في أنفاقه المتعددة، وسيره المتخلع البطيء ويلفظني بعد مسيرة سبع ساعات على حال شر من الحال الذي خرج عليه يونان بعد ضيافة ثلاثة أيام قضاها في بطن الحوت في غير رحب ولا سعة.
وسمعت، وآنا لا أزال في الطريق، مناديا ينادي؛ يا أفندي، تفضل! وأدركت إنني آنا المقصود بهذا النداء. فاستدرت ونظرت وإذا شاب حسن البزة واقف بجانب سيارته البديعة وعينه إلي ويديه تشير إلى السيارة. ودنوت أساله في تلكوء متكلف ماذا يريد أجابني متلطفا: أوتوموبيل جميل. وخير لك أن تسير فيه من أن تيسر في القطار.
وبعد أن أستنزف بلاغته في صرفي عن السفر في القطار الجميل قال أنني لا آخذ إلا مثل ما آخذه من كل راكب. وذكر مبلغاً هو ضعف ما يؤخذ عادة أجراً على مثل هذه المسافة. وعندها أدركت أني البس سدارة، ومن هنا سيأتيني الخطر في هذه الصفقة، وبادرت أصلح الموقف على قدر ما يمكنني الإصلاح وقلت: لتعلم أن من غير العراقيين من يحب أن يلبس السدارة (وإخواننا العراقيين - سامحهم الله - يبعثون، حيثما حلوا، موجة من الطمع في نفوس الساقة والباعة. على أن السدارة من ناحية أخرى (حماية) وصاحبها لا يزرأ إلا في نقوده. وفيما عدا ذلك فهو من نفوس القوم حيث تشاء الكرامة ويسموا الأباء والعزة). وبعد مساومة قصيرة رضى صاحبنا بنصف القيمة التي ذكرها.
ووقف السيرة أمام فندق جميل من فنادق (عاليه). وبعد نفخة أو نفختين من بوق السيارة أقبل راكبان: رجل وامرأة يجري أمامها طفلان صغيران.
والرجل ربعة القامة، تخطى العقد الرابع من عمره، جامد الملامح، محني الظهر كأنه يحمل عبئاً ثقيلا. أما الفتاة ففي ربيع الحياة، في قامة هيفاء يخيل إليك أنها نحيلة وما هي بنحيلة؛ ضحوك المبسم في وجه صبوح، ونظرات تشع ذكاء، يكسر منها قليلاً خفر طبيعي ووداعة ملازمة.
وانطلقت بنا السيارة في بطء ملحوظ. فكأن سائقها الذكي فهم من تلفتنا ونظراتنا الشائعة أننا نودع عزيزاً ونشيع غالياً، فلا تحمد السرعة في هذه الحال.
وأطلت زوجة المزامل من نافذة السيارة، وأخذت تجيل الطرف في كل ما يمكنها من اتجاه. والتفت إليها زوجها ونصحها متراضياً بأن تكف عن النظر والالتفات، وإلا أصابها الدوار، ثم إذا كان لابد من النظر إلى الأمام فقط.
والتفتت إليه الفتاة وقالت في وداعة ظاهرة: لست أرى أمامي إلا الزفت؛ فهل تريد لي أن أغادر لبنان وليس ما بقع عليه ناظري إلا الزفت؟ إنني أحب أن أشبع النظر من لبنان، وأشبع الخاطر من فتنته قبل آن أغادر. فبادرها بقوله: ماذا في لبنان مما يفتنك ويتصباك، ويجعلك تعرضين نفسك لخطر الدوار المؤكد؟
عندما خاطبته في شيء من التبرم وكثير من الأغراء في استثارته إلى مشاركتها في متعتها وقالت:
الله! إلا ترى هذه الجبال كيف تهاوت صخورها عند الحضيض، وكيف شخصت برؤوسها الممدة كأنها أعسال رصت صفاً وراء صف؟ ثم إلا ترى إلى هذه الأخاديد، والوهاد كيف تقطعها تقطيعاً بديعاً فتجعل منها مثل ما تجعل الشوارع من المدينة؟ وإليك هذه الأشجار، منها الجبار يقف ثابتاً لا تلويه ريح ولا يثنيه إعصار تستكين إلى ظلها هذه الشجيرات الصغيرات كإنها الحجلان تفيء إلى جنح الأم وتلوذ بحنوها وتدنو قدر ما تدنو من قلبها الخفاق. إلا ترى في ذلك جمال أولاً جلالاً؟؟ وأي جمال وأية فتنة في هذه الجبال الجرداء الشامخة تقوم إلى جانبها هذه التلال الوطيئة في هذا الحقل من شجر الأرز، والسنديان يكلل رؤوسها، وكأن كل ربوة من رباها دوحة جبارة واحدة أغصانها جذوع هذه الأشجار وأوراقها أغصانها!! ثم هذه الغيوم ومنها الذي أسف إلى قعر الوادي وأختلط بأهله اختلاط الألفة، وجاورهم جواراً زالت معه الكلفة؛ ومنها الذي أبى إلا تصعيداً ومنافسة لأعلى هذه الجبال فيختم على رأسه إكليلاً من ذهب صباح مساء، ومن فضة فيما بين ذلك؛ ومنها الذي أبى إمعاناً في التحليق والتصعيد فوق ذلك، فجعلت من التيارات القوية ما يجعله النسر من ريش الطائر، وقد شد النسر عليه مخالبه وألهبه سعار الجوع؟ ثم هذا البحر المسجى من ورائنا، جاث عند ركبتي لبنان يبللها بزبده ويغسلها بموجه، ويهمس في إذنه أن خل مكانك، وتعال أبوئك الصدر بدل أن تكتفي مني بالزبد، والزبد دائماً يذهب جفاء. وقديمًا أغراء همس البحر السحري فتحرك وتناول خير ما أنبت، وبعث به جواري من الارزملء ضلوعها رجولة وقلوب كبيرة. . . أو نسيت الباروك وماءه القر النمير؟ أنسيت ينأبيع لبنان المثلجة وكيف كنا نتجرع ماءها قطرة قطرة لما كانت تفعل الجرع الكبيرة المتوالية في الأسنان؟ ثم هل نسيت البارحة وكيف أمطرتنا السماء وابلاً أتضطرنا أن نتعطف المعاطف كأننا من العام في شهر آذار؟ أمثل هذا يجتمع ويتيسر لغير لبنان من بقاع الدنيا؟ أوه! وماذا أقول في هذه المدن المنثورة المنورة، وقد ألهبتها في الليل مشاعل الكهرباء، فغدت نجوماً تومض على الأرض، وتتحدى السماء فتحار أيهما أجمل وأروع: تلك التي تحتك، أم هذه التي فوقك؟ وهذه البيوت المبثوثة هنا وهناك، لا هي بالقرى المتراصة ولا هي بالصوامع، المنعزلة، ترف عليها وحولها أغصان السنديان والصنوبر رفيفاً كأن يداً سحرية ترّوح عليها؛ وأخيراً هذه الحمائم البيضاء في عرض البحر تمد أجنحتها للريح تتلقى منه المدد، فتسير باسم الله مجراها ومرساها؟ أنسيت كل هذا لتسألني ماذا في لبنان من جمال وماذا أرى من فتنة؟ إلا يفتنك بالله هذا التعانق الشديد بين السماء والماء والغبراء، وهذه الألفة الفاتنة بين هذه العناصر حتى لكان هذا ما خلق إلا ليكمل ذاك، ولا ذاك إلا ليكمل هذا؟؟!
وبعد أن غمرت فتاتنا فتاها بهذا السيل الجارف من الأسئلة صمتت ترقب وتتأمل. وفتح صاحبنا فاه. . أو تدري بماذا أجاب عن كل ذلك؟ قد تحسبه أضاف لوناً آخر إلى هذه اللوحة التي رسمها خيال فتاتنا بهذه السرعة الطائرة؟ لا! إن شيئاً من لم يحدث، إذ لم يزد صاحبنا أن قال:
هذه الجبال قد رأيت مثلها وأعلى منها في البرازيل. والأشجار - كذلك - في البرازيل لفةّ منداحة تكاد لا تدع لأحد منفذاً. والبحر رأيت أضعافاً سعته في طريق إلى أمريكا. والمطر كثيراً أيضاً في تلك البلاد. والباروك يعد (حنفية) ماء بالنسبة إلى الأمزون.
عندما كدت أنشق غيظاً، وهممت والله أن أتناول شيئاً واطرحه في وجه هذا الجلف الغليظ القلب، الذي لا يرى إلا أن يقيس الجمال بالأميال، ويكيله بالمكيال. وحاولت الفتاة محاولات يائسة أن تنبه من هذا الصخر مكامن الإحساس بالجمال، فكانت - كما يقولون - كالصاروخ في واد، وكالنافخ في رماد.
وأدركت أخيراً من الفتاة ومن فتاها: هي شعلة من الذكاء والثقافة العالية، والإحساس العميق بالحياة، والتفطن إلى همس الجمال بله صوته. أما هذا الذي يجالسها فهو من هؤلاء الذين ذهبوا إلى أمريكا ورجعوا خلواً من كل شيء، إلا المال، فتقدموا بهذا الطعم المغري، فاصطادوا خير الفتيات جمالا ًوعلماً وذكاءً.
وصاحبنا هذا - مع الأسف الشديد - ليس بالمثال النادر في الشرق ولا الشاذ، وإلا ما كنا نعني به ونغثى على القارئ الكريم بعرض صورته البغيضة، إنما هو يمثل لنا طغمة من الناس في شرقنا كثيرة كثرة مفزعة حقا، لا تتفتح نفوسهم على جمال ولا تنبسط لفتنة ولا تنشط لمتعة من متع الفن. يعيش الواحد من هؤلاء في بقعة ركم الجمال فيها ركماً، ولكنه يحيا - آن صح انه يحيا - ويموت، وكان هذا الجمال لا يعنيه بحال من الأحوال، وكأن هذه المفاتن لأناس من غير طينته، وفي عالم غير عالمه، وقد يصيب بعضهم من ينبه فيهم مراكز الجمال، والتفطن إلى مواطن الملاحة فتتبدل النفوس غير النفوس وتنقلب حياتهم انقلاباً شديداً، وتتفسح أمامهم متع الحياة إنفساحاً يمتد مداه على قدر ما تكشف لهم من مفاتن الطبيعة ومجالي الجمال، إلا أن السواد الأعظم منهم يظلون على جهودهم ونضوب أنفسهم مهما حاولت أن تثير فيهم مكامن الإحساس بالجمال، وتذوق الفن. وإذا رايتهم يستملحون أو يستظرفون فإنما يفعلونها من طرف لسان ومجاراة، خشية أن يرموا بتبلد الإحساس وعقم العاطفة، ولسنا نعزو هذا إلى نقص طبيعي في الإحساس، ونضوب معين العاطفة في الشرقيين؛ إنما نعزوه متأكدين إلى نقص في التربية وتقصير في التوجيه. فمدارسنا قلما تعنى بتنبيه مواطن الإحساس بالجمال الصغار، وإذا فعلت ففي صورة سطحية ميكانيكية، وهو تقصير يدفع الشرقيون؛ اليوم ثمنه غالياً - يدفعون ثمنه ضعفاً في الوطنية، وجموداً عن التضحية. وهل ترجو خيراً ممن لا يرى في جبال بلاده ولا في سهولها، ولا في حزونها ولا في أنهارها، ولا في ينأ بيعها ولا في أشجارها، ولا في أطيارها، ولا في سمائها، ولا في مائها سحراً ولا فتنة يربطانه بها بعرى من الشوق والهيام لا تنفصم ولا نهى؟؟ هذا الأوربي إجمالاً، والإنكليزى على التخصيص، أنظر كيف ينقل ذكرى جباله وأنهاره، وقراه ودساكره، ووديانه وينأ بيعه ومدنه إلى أمريكا وأفريقيا وأستراليا وغيرها من قارات العالم؛ لم يستطيعوا أن ينقلوا هذه الأشياء العزيزة عليهم بالذات فتقلوا ذكراها المحبة، فظلت تربطهم بها رابطة من الشوق والهيام يؤكدها التذكير ويديمها النوى.
ولنعد إلى فتاتنا. فقد شاقني حقاً أن أتابع هذه الدراما الصغيرة إلى النهاية، أبت الفتاة إلا تطلعاً وإسرافاً في التطلع، برغم نصائح زوجها الغالية، فكأن حديثها السابق قد أذكى شعورها وفتح لها أفقاً أوسع للتفطن والاستشراف، وقد آلمني حقا ًأمر هذه الفتاة. فهي تشعر شعوراً عميقاً بهذا الجمال الغزير وتأبى إلا أن تشرك غيرها معها في هذا الشعور، وهي نزعة طبيعية ملحوظة في جميع الناس. فليس أحد يشعر بجمال الفن سواء أكان طبيعياً أم صناعياً. إلا يرغب أن يرى من يساهمه فيه الإحساس ويشاطره المتعة، ولعل المتع الفن هي المتع الوحيدة التي لا يحس بها ارهف الإحساس واحده، إلا إذا كان من يشاركه. فكان كثرة النازرين أو السامعين لآيات الفن، المرايا تتقابل خجول الصورة الأشباح وتزيد الصور.
ويئس صاحبنا من صرف الفتاة عما تريد من النظر التلفت، فراح يتلهى بالصغيرين ويناغيهما، وانتهى به الحديث معهما والمناغاة إلى صيغته بعينها جعلها لازمة حيثه وهي: يا بابا صباح الخير يا بابا وراح يرددها ويدهورها في حنجرته طوال الطريق. وخيل إلى أن الرجل لن يكف عن ترديدها ولو أمسى المساء، وضاقت به الزوجة الوديعة ذرعاً (وللصبر حد) وطلبت إليه متوسلة ان يكف عن الحديث، أو يغير هذه العبارة التي يوشك أن يتبرم بها الصغيرين! وصمت قليلاً. فحيل إلينا إننا قد ارتحنا بهذا القليل من الجرأة من هذه القدر المقرقرة. غير انه ما عتم حتى عاد وكان عشرين ضفدعاً تنق في حلقه! ولعله خشى إذ صمت أن نحسبه ذل وخنس. فضاعف الصخب وزاد الجلب. وقلت: ليتك يا فتاتي لم تحاولي إسكاته، فقد زدته ضرامًا على ضرماً. على انه لم يمض حتى فاجأه أحد الصغيرين بقي شديد ملا صدره واحد يسيل إلى اسفل، وهنا عبس الأب وانقطع عن المناغاة، واضطر أن يشتغل بإماطة ما علق بصدره من هذا السائل المبارك، وقلت في نفسي: عوفيت معدة يا صغيري؛ فقد أبرأت سقمنا، وجازيته جزاء وفاقا، وليت معدتك أوسع قليلاً فقد نحتاج إليها مرة أخرى.
وبلغت السيارة دمشق. وغادرتها وفي القلب ما فيه من غصة وألم بهذا الدهر الأهوج الذي يجمع بين الإنسان وشبه الإنسان.
أديب عباسي