مجلة الرسالة/العدد 670/إصلاح الأزهر بين دعاته وأباته
مجلة الرسالة/العدد 670/إصلاح الأزهر بين دعاته وأباته
تقرأ بعد هذه الكلمة مقالا للأستاذ محمود الغمراوي صور فيه المخاوف التي تساور بعض علماء الأزهر من عواقب الاقتراح الذي اقترحته الرسالة في عدد مضى على مشيخة الأزهر ووزارة المعارف لحل مشكلة الأزهر. صور الأستاذ الفاضل ما توهم من تلك المخاوف تصويراً يروعك منه حفاظ المؤمن وإشفاق الناصح؛ ولكن الألوان والضلال التي اختارها صورته جعلتها ادخل في باب الخطابة منها في باب المنطق! من تلك الظلال (هذه السهام التي تسدد إلى الأزهر، وهذه الأسنة التي تشرع على القرآن). ومن تلك الألوان هذا (الفرض الذي يقتل الأزهريون بأيديهم لغتهم ودينهم) وهذا التهويل عليهم (بالبلاء الوافد والخطب الراصد والموت الحاصد). والأستاذ اعلم الناس بأن المستعمرين أنفسهم لم يبلغوا من الجحود بآيات الله أن سول الشيطان لهم بعض ذلك، بله الذين يؤمنون بأن العالم لا يسعد إلا بالدين، وأن الدين لا يجدد إلا بالأزهر، وأن الأزهر متى أستكمل أداة التعليم وساير حاجة العصر نهض بالشرق نهضة أصيلة حرة، تنشأ من قواه وتقوم على مزاياه وتتغلغل في أصوله. ذلك لأن ثقافته المشتقة من مصدر الوحي وقانون الطبيعة متى اتصلت بتيار الفكر الحديث تفاعلت هي وهو، فيكون من هذا التفاعل ما يريد به الله تجديد دينه وكفاية شرعه وإدامة ذكره.
على أن الأستاذ الغمراوي قصر جهده في مقاله على عرض اقتراح الرسالة في صورة الهولة ليفزع بها المخلصين لدينهم ولغتهم فلم يشر بتعديل فيه ولا ببديل منه، كأنه يرضى للأزهر أن يظل كما هو يملك الكلام، ويجتر الماضي، ويقتات الفتات، ويبطل الاجتهاد، ويعطل العقل، ويصم أذنيه عن أصوات العالم وحركات الفلك!
ولكن الأستاذ من صدور العلماء المعروفين بطول الباع في علوم الدين، وسعة الاطلاع على فنون اللغة؛ فلا بد أن يعلم أن ميزة الإسلام التي تفرد بها مسايرته للتطور ومطاولته للزمن؛ فإذا حصرناه في زمان محدود، أو قصرناه على نظام معين، سلبناه هذه الميزة، وفصلناه عن دنيا الناس؛ فهو إذن من المصلحين المحافظين الذين يجددون بقدر، ولا يتقدمون إلا في أناة وحذر، لأنه يرى الحال داعية إلى الإصلاح، ولكنه يطلب من الأستاذ العقاد ومني أن نراجع الرأي فيما كتبناه لعلنا نجد (لوناً آخر من العلاج يكون فيه للأزهر الشفاء والعافية).
ذلك هم المجددون المحافظون، وأما غيرهم ممن يعارضون الاقتراح فطائفتان: طائفة السلفيين المتزمتين، وهؤلاء قد وقفوا عند حدود النقل، فلا يرون لفهم أن يبتكر، ولا لعقل أن يعترض، ولا لمصلح أن يجدد، لان التجديد بدعة، وكل بدعة على إطلاقها ظلاله. وطائفة الأحرار المستقلين، وهؤلاء يعارضون الاقتراح لا لأنهم يناهضون الإصلاح، وإنما يخشون أن يفلت زمام الأزهر من أيديهم فتصبح قيادته لوزارة المعارف. ويخيل إلى أن المعارضين الأفاضل على اختلافهم في أسباب المعارضة ولو قرءوا الاقتراح على عادة الأزهريين من التفلية والتحليل لما وجدوا فيه مبعثاً للخوف ولا مثاراً للشك. وبحسبنا أن نوضح ما أشكل من جوانب الرأي لنصبح جميعاً متفقين على الأسس التي يجب أن يقوم عليها بناء الأزهر القديم والجديد.
يرى الأستاذ الغمراوي والذين يذهبون مذهبه أن الاقتراح (يجب نصف الأزهر ويدق رأسه):
1 - لأن إلغاء التعليم الابتدائي من المعاهد الدينية يستتبع إلغاء حفظ القرآن، إذ كان حفظه كله أو نصفه شرطاً في قبول الطالب، وإلغاء هذا الشرط ينقص الإعداد الديني تلك السنوات الست التي كان يقضيها الصبي في حفظ القرآن.
2 - ولأن تحويل المعاهد الدينية إلى مدارس ثانوية تساير منهاج وزارة المعارف في الثقافة العامة، وتنفرد في سني التوجيه بعلومها الخاصة، يحرم الأزهر ست سنوات أخرى كان يقضيها الطالب في دراسة اللغة والدين بأقسامه الابتدائية والثانوية.
3 - ولأن المواد المدنية على نهجها المعروف في برامج الوزارة ستطغي على المواد الدينية، فيقل المحصول الديني واللغوي لدى الطلاب، وتضعف الملكة الأزهرية الخاصة لفهم الدرس والكتاب.
4 - ولأن الاعتماد على حملة الشهادة الابتدائية العامة في تغذية أقسام الأزهر الثانوية يعرضها للهزال بانصراف التلاميذ عنها إلى المدارس الثانوية الأخرى اتباعاً لأهواء العصر المادية.
وسترى بعد إيضاح ما أنبهم من استراب إلا إجمال فكرته وإيجاز شكله
1 - لا يستتبع إلغاء التعليم الابتدائي من المعاهد الدينية إلغاء حفظ القرآن واستقطاع ست سنوات من زمن الإعداد الديني واللغوي، لأن المعاهد الدينية الابتدائية إنما تستقبل داخليها وهم في سن الثانية عشر، وهي السن التي ينتهي فيها الصبي من الدراسة الابتدائية العامة دون أن يأخذ من زمن الدراسة الأزهرية وقتاً كثر أو قل، وإنما تكون مداركه وملكاته قد تهيأت لحفظ القران في مدى السنوات الثانوية الخمس أو الست عن رغبة وفهم. ومن الذي يمنع مشيخة الأزهر أن تجعل حفظ القرآن فرضاً على كل طالب في كل سنة من سني الدراسة في المدرس الثانوية الأزهرية وأمرها في يديها، وإعدادها منها واليها؟
2 - إن المعاهد الدينية التي نقترح جعلها مدارس ثانوية بالمعنى الرسمي المعروف ستظل بالطبع تابعة للأزهر خاضعة لإدارته، فله إذا شاء أن يزيدها سنة أو أكثر، وأن يبدأ الدراسة الدينية واللغوية من سنتها الأولى، على شرط أن يحافظ على مواد الثقافة العامة المقررة في برنامج الوزارة من لغات وآداب وعلوم ورياضة، وأن يتقدم طلابها المنتهون إلى امتحان التوجيهية العام، ليكون لهم ما لسائر إخوانهم من ميزة الشهادة الرسمية، ولتفتح لهم أبواب الوظائف التي أجملناها في الاقتراح لحاملي الشهادة الثانوية. وإذن تكون مدة الدراسة الدينية واللغوية اثنتي عشرة سنة لا ستاً كما ظن الأستاذ.
3 - لا خوف من طغيان المواد المدنية على المواد الدينية في الدرس والتحصيل ما دام الوقت متسعاً، والأستاذ كفؤاً، والكتاب مهذباً، والمنهاج مستقيما، وتوزيع المواد دقيقاً، والإدارة حازمة، والمراقبة يقظى؛ فإن الوقت إذا أحسن استخدامه اتسع ضيقه، والكتاب إذا حذف فضوله قصر طوله.
4 - من المحال أن ينصرف التلاميذ عن المدارس الثانوية الأزهرية؛ لأن الاقتراح يقصر وظائف تدريس الدين واللغة والأدب في جميع مدارس الدولة والأمة على الأزهر، فإذا أضيف إلى ذلك وظائف التحرير والترجمة ومهنتا الصحافة والتمثيل، كان الراغب في ممارسة أمر من هذه الأمور محتوماً عليه أن يدخل الأزهر لأنه لا يستطيع بلوغه إلا عن طريقه.
وجملة الأمر أن الاقتراح يرمي إلى تجديد الأزهر وتوحيد التعليم على الوجه الذي يحفظ للأزهر طابعه وللأمة وحدتها. فإذا تجاذب الباحثون أطراف الرأي في حدود هاذين الغرضين، استبان الطريق، واتحدت الوجهة، وتلاقوا جميعاً عند الغاية المقصودة لا محالة! أحمد حسن الزيات