مجلة الرسالة/العدد 670/في مقالين:

مجلة الرسالة/العدد 670/في مقالين:

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 05 - 1946



حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل الجامعة الأزهرية

للأستاذ محمود أحمد الغمراوي

شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقاً

. . . أما بعد، فقد قرأت ما كتبتم في العدد رقم 666 من مجلة (الرسالة) إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف من حل حاسم لمشكلة الأزهر، وما كتبه حضرة الأستاذ عباس محمود العقاد في العدد رقم667 عن مستقبل الجامعة الأزهرية، فوجدتكما ترميان إلى غرض واحد يستوقف النظر ويدعوا إلى التأمل.

وقبل التحدث أقدم بين يدي الحديث إلى حضرتي الأستاذين شكراً خالصاً لعنايتهما بأمر الأزهر وبحث أدوائه ودوائه في وقت شغل فيه المنسوبون إلى الأزهر بالتافه من شؤمهم، غير مكترثين لما يكتنف الأزهر من خطر، ولا ناظرين إلى ما يهدد وجودهم ووجوده من بلاء وافد، وخطب راصد، وموت حاصد.

وإن في عناية الأستاذين الكبيرين بالبحث في ستقبل الأزهر وحل مشكلته، قياما بحق تتقاضاه من كل ذي شعور كريم مكانة الأزهر التاريخية، وقيامه بحفظ الشريعة واللغة العربية زهاء ألف عام، فاستحقت مصر بذلك تقدير الأمم الإسلامية وأن تكون زعيمة الأمة العربية. وفي هذه العناية من جانب الأستاذ الزيات خاصة وفاء واعتراف بما للأزهر من صلة وثيقة بفنه البارع وأدبه الرفيع، وبما يدين به قلمه العربي الفصيح من بلاغة وحسن الهام امتاز بهما على الأقلام؛ ففي قنة الأزهر نبتت شجرته، ومن ماء مزنه ارتوت نبعته، ومن عودها كانت قصبته. وإذا كان رجل الفن من أغير الناس على فنه، وأحرصهم على خلود مدرسته، فأكبر ظني أن الأستاذ الزيات حين تقدم إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف بما تقدم به من علاج رأى أن فيه حلاً حاسماً لمشكلة الأزهر، كان ثائراً من أجل الأزهر لا عليه، وغاضباً مما يجري فيه من الأحداث وحواليه، وإلا فما أظن طبيباً يتقدم لطب مريضه بدواء قاتل يرديه، ولا أحسب ابنا بارا يريش سهمه لمثقفه ويرميه فيصميه. ومن أجل ذلك يطمع الأزهر أن يراجع الأستاذان الرأي فيما كتباه عن مستقبله وح مشكله، فقد يجدان لوناً آخر من العلاج يكون فيه للأزهر الشفاء والعافية فيوافيان به القراء إن شاء الله.

اتفقت كلمة الأستاذين على أن غاية الأزهر أن يفقه الناس في الدين وفيما تفرع من أصوله من شتى العلوم؛ وأن سبيله إلي هذه الغاية أن يعلم اللغة وما اتصل بآدابها من مختلف الفنون. فالدين واللغة هما علة وجوده، وجوهر علمه، وثمرة عمله؛ وأنه لهذا ولكونه أقدم جامعة في العالم بأسره تكون الأمة ذات الشأن الأول فيه حقيقة بأن تحافظ عليه وتستديم بقاءه وازدهاره.

واستشرف القاري، وأذن لما يرد بعد هذا القول لعله يسمع رأياً نافعاً، أو يرى علاجاً ناجعاً، يطب الأزهر فيشفى داءه، ويرجع إليه العافية ويكفل بقاءه، حتى يرى الأزهر قد تشامخ بناؤه، وعمر فناؤه، وصفت سماؤه، وطاب ورده وماؤه، وحي أمله وقوى رجاؤه، وازدحمت بالوافدين عليه لطلب العلم أرجاؤه، وتجاوبت بالعلم في جوانبه أصداؤه.

ولكننا لم نجد بعد البيان الذي مهداه، والقول الذي قدماه، سوى سهام تصوب، وسنان تحرَّب، وقد شمر الراميان عن ساعديهما، وكشفا عن ساقيهما ينتضلان، والأزهر بينهما كدريئة تتنائل إليها السهام، تارة من عن اليمين ومرة من الأمام، مسددين إليه الرماية، يرميان جاهدين إلى غاية!

أما الغاية فهي:

1 - أن يلغى التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية ليلقى بمقاليده إلى وزارة المعارف تلزمه وتقسمه وتعممه على الوجه الذي تراه، وذلك تراه، وذلك بدء الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة.

2 - أن تجعل المعاهد الدينية في القاهرة وفي الأقاليم مدارس ثانوية يدخلها حاملو الشهادة الابتدائية العامة وتعلم فيها اللغات والرياضيات والآداب والعلوم على منهج وزارة المعارف. وفي أول السنة الثالثة منها يتجه طلابها اتجاهين على حسب مرادهم واستعدادهم: إما اتجاهاً إلى الدين وعلومه، وإما اتجاهاً إلى اللغة وفنونها. . .

3 - أن يقتصر في التعليم الجامعي في الأزهر على كليتين اثنتين: كلية أصول الدين وتندمج فيها كلية الشريعة، وكلية اللغة وتندمج فيها كلية اللغة العربية ودار العلوم وقسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعتي فؤاد وفاروق، ويشترك الكليتان في الدراسة العميقة للغتين العربية والإفرنجية، كما تنفرد كلية الدين بتاريخ الأديان السماوية والأرضية. . .

ويقول الأستاذ العقاد: إنه لا يرى من جانبه ما يخالف فيه الأستاذ الزيات قبل الدخول في التفصيلات التي تعرض عند البحث في تقسيم الكليات، وفي مدة التعليم التي يحتاج إليها الطالب الجامعي في كل منها.

والمهم عنده أن ينتهي التقسيم إلى نظام واحد في التعليم فلا يبقى للثنائية أثر بين كليات الجامعة الأزهرية وغيرها من الجامعات، ولا يحسب الفرق بينها جميعاً إلا كما يحسب الفرق الآن بين كلية الطب وكلية الزراعة أو كلية الآداب. .؟

فالهدف الذي يرميان نحوه، وبيت القصيد عندهما هو تحقيق الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة، أو كما يقول الأستاذ العقاد: ألا يبقى للثنائية أثر بين كليات الجامعة الأزهرية وغيرها من الجامعات؛ وتوحيد الثقافة أو إبطال الثنائية في التعليم لا يتم في رأيهما إلا إذا ألغي نظام التعليم في المعاهد الابتدائية التابعة للأزهر وحولت المعاهد الثانوية إلى مدارس ثانوية كنظام وزارة المعارف على النحو الذي رسمه قلم الأستاذ. فإذا رضى الأزهر أن يترك ست سنوات وهي نصف المدة المقررة لتأهيل الطالب لنيل الشهادة العالية (إذا ساعده الحظ ولم يرسب في أثناء الطلب مرتين أو ثلاثاً) وإذا تجاوز أيضا عن ست سنوات أخرى يقضيها الراغب في دخول المعاهد الدينية في حفظ القرآن الكريم وتبع ذلك أن يتجاوز عن اشتراط حفظ القرآن في قبول الطالب بالمعاهد الأزهرية، لأن القرآن لم تبق له أهمية، ولم يعد ذا صلة بالعقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية؛ إذا تجاوز الأزهر عن هذا طوعاً أو كرهاً، ورضى أن يجب تصفه وتدق رأسه، كان الأزهر جديراً بالحياة حرياً بالبقاء: فيحتفظ بقديمه؟! ويشارك في جديد الناس، ويساهم في شركة المدنية. وحينئذ يصير الطالب الأزهري جديراً بأن يكون عالماً حقاً، وأن تفتح له أبواب السماء فيجد مكانه من وظائف الحكومة كما يجد الطبيب والمهندس والضابط أمكنتهم في كل ديوان يحتاج إليهم!

يقولون لا تبعد وهم يدفنونه ... ولا بعد إلا ما توارى الصفائح

أما إذا ظل الأزهر على تعصبه كما هي عادته، وأبى له جموده أن يتنازل عن وجوده، فإنه يكون غير صالح للبقاء وليس أهلاً للحياة؛ لأنه غير قادر على مسايرة الزمن فيجب أن يسلب اختصاصه ويعطى تراثه لمن هو أقدر منه على مسايرة الزمن والمشي مع القافلة، فيكون تراث الأزهر نهباً مقسماً بين كلية الحقوق ودار العلوم وكلية الآداب: تستقل الحقوق بالشريعة، وتحمل دار العلوم لواء اللغة، وتضطلع كلية الآداب بدراسة أصول الدين: تدرسها على المنهج الجامعي في التقصي والاستيعاب والموازنة.

وإذا حرك أزهري ساكناً أو نبس ببنت شفة قيل له: صه! لست هناك: لست في العير ولا في النفير، إنما أنت شخص متبطل، تنتمي إلى طائفة معاشيه، يربط بعضها ببعض تحصيل المعاش؛ أو حاجتها هي إلى المعاش؛ فلا هي لنفسها ولا لله ولا للوطن.

لقد جربناك وجربنا أزهرك فلم نجد عندكم غناء، ودعونا الأزهري للسير في ركب الحياة فلم يستجب للداعين نداء، وقال بهير قطع. وسألته الأمة أن يمدها بشيوخ الدين والعربية فعجز ولم يستطع، حتى اضطر أولوا الأمر بسبب عجزه، إلى طرحه ونبذه؛ وأنشئوا دار العلوم لتخرج لهم أئمة في علم اللغات، وابتنوا مدرسة القضاء لتصنع لهم أئمة قادرين على تشريع ما يوافق الهوى والرغبات. فها نحن أولاء ندعوكم أيها الحمقى الجامدون والغلاة المتمردون لتختاروا إحدى خصلتين لكم في كلتيهما هدى وقصد وفلاح ورشد. وليستا كخصلتي الضبع إذ خيرت الثعلب بين أن تقتله أو تمزقه؛ ولكنها خيرة فيها صلة للرحم ورعاية لذمامه وهي أقرب للعدل والتقوى؟ أعرض عليكم لآخر مرة أن تختاروا واحدة من اثنتين: إما أن تقتلوا أنفسكم وتقبروا لغتكم وتتخلوا عن دينكم وتتركوا من زمن دراستكم للغة وللدين ست سنوات تقضونها في دراسة اللغة والدين بالأقسام الابتدائية والثانوية بالمعاهد الدينية وذلك شي يسير لا يتجاوز نصف الزمن المقدر للدراسة في الأزهر وفي المعاهد لنيل شهادة العالمية.

ثم لا تتشبثوا باشتراط حفظ القرآن فيمن تحدثه نفسه بالدراسة فيما يسمى كليات الأزهر فقد علمتم مما قدمناه لكم أن حفظ القرآن لم تبقى له أهمية، ولم يعد ذا صلة بالعقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية، فسوف نكتفي ونستغني عن كل ذلك بما دون في الكتب الأخلاقية والقوانين المدنية.

فإن لم تختاروا هذه ولم تطب نفوسكم بأن تتركوا جمودكم وتقبروا بأيديكم لغتكم ودينكم، فإنكم تكونون قد اخترتم الخصلة الثانية: وهي أن نقتلكم بأيدينا، فنقطع الصلة بينكم وبين الأمة، ونعلن البراءة منكم في العالمين، كما تبرأ الهنود من المنبوذين، وحينئذ ترون العذاب، وتنقطع بكم الأسباب، وتغلق في وجوهكم السبل والأبواب.

هذه هي النذر التي يراها الأستاذ الزيات ظاهرة في الأفق، رآها بما جعل الله له من نور يمشي به، ويسعى بين يديه وبيمينه، فأنذر الأزهريين (وهم قومه وعشيرته) أنذرهم ما يرصدهم في الأفق من المصائب، وحذرهم ما يرتقبهم وينتظرهم من وخيم العواقب؛ ونصح فأبلغ وأخلص في النصح، فجزاه الله من أخ وفي، ومؤمن صادق أبي. ولقد أعذر إذ أنذر، فعسى ألا نتمارى نحن الأزهريين بالنذر.

أما الخطتان اللتان عرضهما للاختيار، فانهما كما بينت ليس فيهما حظ لمختار. وعسى أن يكون الله مدخراً خيراً منهما للأزهر عنده.

يحيي رفات العظام بالية ... والحق يا مال غير ما تصف

ولعله يرى بما أوتي من نور سبيلاً لا حباً يصل منه الأزهر إلى النجاة والحياة.

وقد وددت لو أن في الوقت سعة لأبين أن الأزهر قد أدى للأمة ما طلبته منه: فهو الذي أعطى الأمة دار العلوم في خير عهودها إثماراً وإنتاجاً حيث كانت تخرج أمثال حفني ناصف وعبد العزيز جاويش. وهو الذي قامت على كواهل رجاله وعقول علمائه وعلومهم مدرسة القضاء. وهو الذي خرج للأمة بل العالم الإسلامي عظماء العلماء والمفكرين أمثال المرحومين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وأبي خطوة والطويل والبحيري والشربيني وغيرهم ممن لا يتسع الوقت الضيق لذكر أسمائهم. وإنه لم يضق ذرعاً بما أدخل فيه من علوم نافعة فقد أوسع لها صدره حتى صار لا يستطيع أن يتنفس بالمقدار الذي يحفظ كيانه وحياته التي تمكنه من أداء مهمته التي بينتموها في صدر مقالكم. ولعل الأزهر قد قصر في حق نفسه من هذه الناحية.

وددت لو أن في الوقت متسعاً للإفاضة في هذا؛ غير أن حرصي على أن تدرك هذه الكلمة في عدد الرسالة القادم هو الذي يحملني على أن أختم الحديث بإهدائك أكرم التحيات والسلام عليك ورحمة الله.

محمود أحمد الغمراوي

شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقاً