مجلة الرسالة/العدد 671/بناة العلم في الحجاز الحديث:

مجلة الرسالة/العدد 671/بناة العلم في الحجاز الحديث:

مجلة الرسالة - العدد 671
بناة العلم في الحجاز الحديث:
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 05 - 1946



السيد أحمد الفيض آبادي

للأستاذ عبد القدوس الأنصاري

(فصل مستل من الجزء الأول من سلسلة (بناة العلم في الحجاز الحديث). وهو الكتاب الذي يمثل مبادئ اليقظة العلمية الحديثة لمهد العروبة والإسلام، في العصر الحديث، بأسلوب يجمع بين متعة الفن القصصي وعمق البحث العلمي، لمؤلفه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة (المنهل) بمكة ورئيس تحريرها. والكتاب تحت الطبع.

عهد جديد:

كان الفتى قد بلغ الخامسة عشرة من عمره. وكانت الأحلام المعسولة تتراقص أمامه كما تتراقص مياه الغدير الصافي للظمآن في الفيافي الجرداء. وكانت الحياة في نظره رؤى وأحلاماً فيها الكثير من الغموض والإظلام. وقد كسبته الحوادث والأحداث الجسام التي مرت عليه قطعانها وهو ناعم الأظفار، مرونة محدودة ودقة نظر غير بعيدة الأهداف في الحياة والأحياء. . . وكان الفتى خجولا منطويا على نفسه محباً للعزلة أنى وجد إليها سبيلاً.

وكان لا يبتسم لشيء بقدر ما يبتسم للدرس والكتاب، وما يستتبعانه من حفظ ومطالعة وتكرار.

وكأن انطوائيته فتحت له آفاق الدأب على تحصيل ما يرسم له من علوم. فكانت متعته وهجيراه أن يتخيل نفسه وقد بز الأقران، وصار علماً في العلم والأدب العربي يشار إليه بالبنان.

وكانت لديه مع ذلك نفس مكبوتة نزاعة إلى الإلمام بهذه الفنون العصرية التي بدأت تستهويه نغماتها القادمة من آفاق مصر والشام؛ كما استهوت نغمات (سلامة) ابن أبي عمار المشهور بالقس لعبادته وتقواه. ولكنه في حالته الراهنة، وهو الطالب بالمسجد النبوي، لا يكاد يشعر بوجود أية فجوة ينسل من خلالها إلى ذلك الروض الذي يتخيله أنيقاً كل الأناقة، والذي يحن إلى الاستظلال بافيائه كل الحنين.

وفيما هو كذلك وإذا به في أمسية من أماسي الربيع الساجية أمام شخصية بعيدة الصيت هي شخصية السيد أحمد الفيض آبادي التي اشتهرت بالنبل وسمو الأخلاق، وقد تسربت إلى الفتى إشاعات بأن هذه الشخصية مزمعة أن تفتتح معهداً لتعليم الناشئة ما يصلح مستقبلهم في معاشهم وفي معادهم. فيتقدم بالفتى أستاذه ومربيه إلى هذه الشخصية، ويجري بينهما حوار لا يتذكر الفتى الآن أكان قصيراً أم طويلاً، ولكنه يتذكر على كل حال أنه كان حواراً ممتعاً رصعت حواشيه بالبسمات وحسن التفاهم، وتبودلت خلاله عبارات المجاملة والتقدير. وكان الفتى طيلة جلوسه بين يدي الشيخين المتحاورين يحدق النظر ملء عينيه وبقلبه أيضا إلى هذا الرجل الذي بدأ يستشعر له الحب والتقدير برغم بساطة مظهره وتواضعه. وسرعان ما علم الفتى من أستاذه عقب افتراق الرجلين أنهما - في تلك الجلسة الرزينة الهادئة - قد وضعا تصميم الاتفاق على دخول أستاذ الفتى في المدرسة الجديدة الناشئة رئيساً للمدرسين بها، كما علم أنه قد فتح له باب عهد جديد بما تقرر من أن سيكون ضمن طلاب هذا المعهد في عهده الأول.

ومن الحق أن نقول: إن قلب الفتى قد امتلأ غبطة بهذا النبأ السار الذي يحمل في طياته تحولاً جديداً في مجرى حياته بما سيفتح له من أجواء معرفة أوسع مدى من المعرفة التي هو بسبيلها.

وبقدر اغتباط الفتى بهذه الناحية كان اغتباطه أيضا لما أدركه - عقب دخوله المدرسة - من أن المدير قد قرر صرف مكافآت شهرية للطالبين بقدر جدهم وتفوقهم. . . ولم لا يغتبط الفتى بهذه الإعانة التي ستمهد له قسطاً وافراً من حياة الاستقلال الذاتي، وتساعده على التفرغ لتحصيل العلم؟. . . فهو وإن يك مكفي الشؤون لدى مربيه الذي هو خاله وابن عمه وأستاذه، إلا أنه مع ذلك كان يشعر من زمن الطفولة الغضة أنه يتيم، ومن دأب اليتيم أن يشعر بأنه في حاجة رتيبة إلى المعونة المادية الوافرة ضماناً لتحسين حاله في المستقبل الغامض المجهول.

وقد ازداد جهد الفتى وتضاعف إقباله على التحصيل، وواصل ليله بنهاره، ولم يرض مطلقاً إبان دراسته إلا أن يكون الأول في كل الاختبارات، وآثر النصب على الراحة، وأعرض بالكلية - وما كان من قبل مقبلاً - عن ألوان اللهو والمتع التي كانت تستهوي أقرانه الآخرين.

وكان الفتى مغتبطاً بهذا العهد الجديد أيما اغتباط، وقد شعر المدير بما يحمله قلبه من حرص واجتهاد، فما قصر في إغداق المساعدات عليه، وحباه بمختلف الرفد والمعونة، وصار يعهد إليه، فوق ذلك، ببعض المهام زيادة في تنشيطه ورفعاً لمستواه الفكري في ميدان الأعمال الإدارية والاجتماعية.

وقد ظل على ذلك المنوال حتى إذا أكمل مقررات الدراسة العالية دخل فحصاً طويلاً مرهقاً، ويخرج منه وقد نال أرقام الدرجة الأولى في أغلب العلوم والفنون، وبذلك أخذ الشهادة العالية في طليعة من أخذها.

وكم كان اغتباط المدير بنجاح الفتى ونجاح زميله معه، هذا النجاح الباهر المرموق، وكان الفتيان الزميلان يمثلان وحدهما (الفوج الأول) من متخرجي هذا المعهد. . . وفي أيام الاختبار الذي تخرج منه الفتى لوّح المدير له بأنه سيعينه عقب نجاحه مدرساً معيداً بالمدرسة غير أن ضرورات اجتماعية دعت الفتى إلى أن يقبل وظيفة كتابية بديوان إمارة المدينة المنورة، وقد أحس يومئذ بشيء من وخز الضمير تجاه مديره الذي طالما عطف عليه فذهب إلى داره مبكراً ليقدم إليه جميل العذر، فالعذر مقبول عند كرام الناس، وانه ليصافحه إذ يسأله في تأثر:

- أحق أنك وظفت في الديوان؟!. . .

- أجل يا مولاي، ولقد قضت بذلك ضرورات اجتماعية، وسأخدم المعهد الذي له عليّ فضل وافر، وأنا خارج عنه، أكثر مما أخدمه وأنا فيه.

وكانت هذه الجمل التي خرجت من قلب الفتى يتهدج بها صوته في نبرات الصدق والإخلاص والوفاء بلسماً لتأثر المدير الوقور، فهتف قائلا:

- سنرى ما يكون من البر بوعدك الذي اقتطعته على نفسك.

وتلا ذلك صمت أدرك الفتى منه أن المياه قد عادت إلى مجاريها أو كادت، فيستأذن منصرفاً إلى تأملاته في الحياة والأحياء، ماذا كان أمره من قبل وإلى ماذا صار؟ وإلى ماذا سيؤول هذا الأمر؟ ولكنه لم ينس قط لا في تلك اللحظة الدقيقة العابر، ولا فيما تلاها من لحظات وساعات وشهور وسنين، واجب البر بوعده الذي اقتطعه على نفسه يومئذ لتلك الشخصية النبيلة الممتازة.

عبد القدوس الأنصاري