مجلة الرسالة/العدد 671/كتب قرأتها:

مجلة الرسالة/العدد 671/كتب قرأتها:

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 05 - 1946



في غربال ميخائيل نعيمة

للأستاذ حبيب الزحلاوي

كتاب يساير الجيل بعد الجيل، يمضي قدماً مع الفكر في تطوره، والعقل في تدبره، والقلب في يقظته. تقرأ فيه صور التوثب في شبابك، وسورة الترصّن في كهولتك، وآية التوطد والاستقرار في شيخوختك. تلمح فيه الدقيق من رسوم الحياة مجسمة في سطور تعبر كل كلمة وجملة وعبارة فيها عن معنى جديد من معاني الحياة دائمة التجدد. إنما هو كتاب خالد، قد يصلح على كر السنين، لزمنك، ولمن يأتي بعد زمنك

هذا الكتاب هو (الغربال) ومؤلفه هو الأستاذ ميخائيل نعيمة. . .

من خلائق مؤلف كتاب (الغربال) صفاء في الذهن، كما يقول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، واستقامة في النقد، وغيرة على الإصلاح، وفهم لوظيفة الأدب، وقبس من فلسفة، ولذعة من التهكم).

لم يغال الأستاذ العقاد في وصف مزايا المؤلف الأدبية، ولم يفتعل له من الخلائق ما ليس فيه.

إن نظرة فاحصة تلقى على فصول الكتاب تكفي لإقامة البرهان وإنهاض الدليل، على أن الأستاذ العقاد لم يداهن مؤلف (الغربال) ولم يرائه كما يرائي ويمالق أكثر أدباء هذا العصر خصوصاً من يدعون أنهم من النقاد المتجردين عن الأهواء والأغراض. كما أنها تشير بوضوح إلى اتجاهات المؤلف وإلى الهدف الذي صوب إليه سهمه والغاية التي رمى إليها وأنه كان لا محيص البتة لصاحب نفس كبيرة مثله، يعرف الحب والتمرد، والحرية، عن صرخة مدوية يصرخها في وقت كثر فيه لغط الرجعيين المتحجرين من الكتّاب المحافظين في مستهل هذا القرن واشتد نقيق الضفادع، أعني الكتاب الذين أخذوا يهرفون بالتجديد العصري، والحديث المبتكر.

صدر كتاب (الغربال) إثر صدور (الديوان) لمؤلفيه الأستاذين عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، وانفجرت فوهة بركان (الديوان) تقذف الحمم عقب صدور (منهل الوارد في علم الانتقاد) لمؤلفه المرحوم قسطاكي بك الحمص، لذلك رأيت أن أقول كلمة عابرة في الكتابين الأخيرين توصلا إلى تعريف الكتاب الأول، ولأقرر أيضا أن فن النقد الأدبي سلك إلينا المسلك الطبيعي في تدرجه وتطوره.

لم يكن الأدب العربي يعرف أن للنقد قواعد بأصول تعرف به مزايا هذا الفن ومدارسه وأساليبه وتقسيماته. وقد عرفنا نحن أبناء هذا الجيل أن المرحوم قسطاكي الحمصي نقل لنا ما كتبه جهابذة فن النقد عند الفرنسيين أمثال سنت بوف، ورينان، وتين، وفرديناند برونتير، وأميل فاجيه، وأدلف بريسون، وجول لوميتر. فكان رحمه الله مشعل المصباح الأول في جادّة هذا الفن في مستهل القرن العشرين أي في عام 1907.

أما كتاب الديوان فقد كان معولاً في قبضة رجلين قويين اهويا به على ثلاثة من (أصنام الأدب) كنا نحسبهم آلهة في ثياب شعراء وقد حدث ذلك في عام 1921.

أما كتاب (الغربال) فقد صدر في عام 1923 يحمل في طياته جواهر القواعد التي نقلها قسطاكي الحمصي عن الفرنسيين، ولباب فنون النقد التي أخذها هو عن كبار النقاد من الروس والأمريكان والإنجليز، ولم يتحرج من انتزاع المعول من قبضتي العقاد والمازني وهزّه في وجوه شعراء وكتاب، فأرعبتهم هزة المعول تلك أكثر مما أوجعتهم ضربات العقاد والمازني، ثم أخذ يعرفنا بالكاتب والشاعر والناقد، يوضح لنا معالمهم، ويعدد خصائصهم، ويشرح مزاياهم، فقال في الكاتب:

(. . . إنما الكاتب قلب يخبر، وعقل يفكر، وقلم يسطر، فحيث لا شعور فلا فكر، وحيث لا فكر فلا بيان، وحيث لا بيان فلا أدب.

(الشعر والفكر والبيان، ثلاثة لا يكون رجل كاتباً إلا إذا توفرت له أكثر من توفرها لسواد إخوانه في البشرية، ولولا تفاوت الناس بعمق الشعور واتساعه، وحدّة الفكر واندفاعه، وجمال البيان وجلائه، لكان من عرف القراءة والكتابة كاتبا. . .

(على سطح هذه الأرض قلوب عديدة، غير أن أكثرها تتدفق الحياة من حوله ومن فوقه، فتنحدر عنه انحدار الموجة عن الصخرة. إن أمثال هذه القلوب لا تخبر، وإن خبرت، فعن تخمة في البطن، أو تكمش، أو عن وجع في الرأس.

(وعلى الأرض عقول كثيرة، وأكثرها تتناوله الأشياء ولا يتناولها، وتغربله ولايغربلها، فأمثال هذه العقول لا تفكر بل تدور مع الليل والنهار، بقوة العادة والاستمرار.

(وعلى الأرض قناطير من الأقلام، ولكن منها ما يقول له العقل والقلب اكتب (نعم) فيكتب (لا) إن مثل هذا القلم لا يسطر، وإن سطر فحروفاً سوداء على أوراق بيضاء لا علاقة لها بين عقل الكاتب وقلبه.

(ومن نكد البشرية - وقد يكون من حسن حظها - أن أمثال ما ذكرت من العقول والقلوب والأقلام، هي القاعدة السائدة فيها، وما أختلف عنها فشذوذ، وكل شاذ نادر، لذلك ندر وجود الكتاب والشعراء وأبناء الفن.

(للناقدين ولع بتحديد مراتب الكتاب والشعراء، والمقابلة بين الواحد والآخر، وتفضيل هذا على ذاك، أو ذاك على ذلك، وقد يكون في مقابلتهم وتفاضيلهم نفع لهم ولقارئيهم، أما أنا فإن عثرت على كاتب له قلب يخبر، وعقل يفكر، وقلم يسطر، شكرت ربي ألف مرة ومرة، وتركت للقارئ المقارنة بينه وبين سواه، ومحاسبته الخطأ والصواب، والحلال والحرام، والنفع والضرر، فتقديرك الكاتب منوط بما تقرأ من نفسك وعنها، في سطوره وبين سطوره، لا بما يقرؤه سواك، فرب كتاب أطالعه فألفيه ترديد أصداء بعيدة، هي أصداء أفكار وعواطف خبرتها ونبذتها من زمان، ويطالعه سواي فيرى في كل سطر من سطوره فكراً جديداً وعاطفة جميلة والعكس بالعكس.

(لذلك لست أرى جزيل نفع في المقارنة بين الكتاب والشعراء، ومتى أنست من كاتب قلباً يحس، وفكراً يقابل ويستنتج، وقلماً يصور بإخلاص، قست إذ ذاك مقدرته الكتابية، لا بعدد ما ضمن سطوره من (الحقائق الراهنات) و (المعجزات البينات) وغريب المفردات، بل ما يثيره فيّ من العواطف والأفكار، وبما يوجه إليه بصري من ظواهر الأمور وبواطنها حتى إني لأوثر كاتباً يخالفني في كل رأي أراه، على كاتب ينطق بأفكاري وعواطفي، فقد يروقني من الثاني جلاء في الإفصاح ليس لي، وتلك منّة صغيرة، ولكن منة الأول عليّ أكبر وأوفر، لأنه يكشف لعيني عوالم كانت خفية عنها، ويفسح لفكري وعاطفتي مجالاً ما كان لهما، فيدفعني بذلك إلى تصفية حسابي مع نفسي، وإلى تقويم بضاعتي الروحية، ولولا ذاك لما عرفت أني من أبناء هذه الحياة. . .)

في الناس من يعتقد أن لا فائدة ألبته للنقد الأدبي مادامت أقيسته قائمة على الذوق الذاتي، وفيهم من يقول إن في مكنة كل كاتب التصدي للنقد، فيتجنى إذا طاب له التجني، ويتعسف إذا حفزته نزوة إلى العسف، وإنه في الواقع لا يجني من النقد سوى عداوة الناس، وخصومة الأصدقاء. فإلى هؤلاء وأضاربهم أقول: ما أكثر ما يقال في الناقد من حق ومن باطل، وما أحوج الناقد إلى الجرأة والصبر على مخالفة الناس، لا لأنه أعرف ببواعث نفسه على النقد من سواه، وأبصر من تسديد سهامه إلى أهدافها، وأكثر نخوة على الحياة الأدبية من كل الناس، بل لأنه غيور على الأدب مخلص للحياة الأدبية، بيد أن مؤلف (الغربال) يقول. . .:

(. . . إن مهنة الناقد الغربلة، لكنها ليست غربلة الناس، بل غربلة ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول. . . وظيفة الناقد حك فكره بفكر المؤلف، واستجهار عاطفته، وتنقية قمحه عن زوانه واحساكه.

(البقية في العدد القادم)

حبيب الزحلاوي