مجلة الرسالة/العدد 671/نظرات في أدب المتأخرين

مجلة الرسالة/العدد 671/نظرات في أدب المتأخرين

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 05 - 1946



للأستاذ عباس حسن خضر

الأدب والحرفة:

منذ احتاج الأديب إلى استكمال عدته من الدراسة والثقافة اضطر إلى استدبار وجوه المكاسب، ونحي عنه الصوارف، وراح يمتص رحيق الآداب ليخرجه للناس أدباً مصفى. واتخذ كثير من الأدباء بعض آدابهم بضاعة نافقة في سوق المدائح، فطافوا بها على القصور، وانتجعوا الغنى؛ وقد جعل ابن الرومي مكافأة الأديب حقا لازماً إذ قال:

إن امرأ رفض المكاسب واغتدى ... يتعلم الآداب حتى أحكما

فكسا وحلى كل أروع ماجد ... من حر ما حاك القريض ونظمَّا

ثقةً برعى الأكرمين حقوقه ... لأحقُّ ملتمس بألا يحرما

فاجتمع لأولئك المال وإحكام الآداب، على أننا لم نعد من عزف عن ذلك المورد، وعكف على منهل الأدب، ينهل منه ويعل، ويفيض على خاطره، فيرسله غزلاً وتشبيباً أو حكمة وفلسفة.

وكثيرا ما حاق البلاء بالمشتغلين بالأدب لما شغلهم عن تدبير أمرهم ودفع ما نزل بهم، حتى عدت (حرفة الأدب) مجلبة للبؤسى وشؤماً على من أدركته، قال يعقوب الخزيمي:

ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً تحته شوم

وقرنها شاعر آخر بإجادة الخط، فشكا من اصطلاحهما عليه:

لما أجدت حروف الخط حرفني ... عن كل حظ وجاءت حرفة الأدب

أقوت منازل مالي حينُ وطِّنها ... مخيِّما سفطٌ الأقلام والكتب

ولقد وصل ما جرته حرفة الأدب إلى قصر الخليفة الشاعر ابن المعتز حين قتله المقتدر، وزعم أنه مات حتف أنفه، فقال علي بن محمد ابن بسام:

لله درك من ميْت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب

ما فيه لوٌّ ولا ليتٌ فينقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب

قال مؤرخو الأدب: ولما ولي الأمور أولياء من الأعاجم لا يقيمون للشعر وزناً أهملوا الشعراء، فنصرف هؤلاء إلى الحرف والصناعات، فكان منهم الجزار والحمامي والقصار، وكثر قولهم في الأشياء التافهة كالسبحة والمخدة والمروحة؛ وعدوا ذلك نزولاً بالأدب عن درجاته وحطاً له في دركاته، وقد رأيت أن هذا ليس صحيحا كله، ولئن صح أن الشعر فقد شيئاً ببعده عن ظل الممدوحين الوارف - لقد كسب به أشياء، أولها أن هؤلاء الشعراء - وقد عدموا الممدوحين المغدقين من الملوك والأمراء - وجدوا بديلاً أجل منهم وأعود عليهم باللذة الروحية، وهو سيد الخلق، فهشت له نفوسهم، وجعلوا ينشدون المدائح النبوية، وازدهر هذا الفن في قصائد لا تتأخر قيد أنملة عن قصائد الفحول من المتقدمين، وحسبك بردة البوصيري التي أولها:

أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم

وقد كان من الشعراء ذوي الصناعات المعيشية من أجاد وأفتن في القول كأبي الحسين الجزار؛ وإلى جانب إجادتهم في أغراض الشعر المختلفة برزت صناعاتهم في أشعارهم، واستخدموا مصطلحاتها في معانيهم، فأحسنوا وظرفوا، قال الجزار:

لا تلمني مولاي في سوء فعلي ... عندما قد رأيتني قصابا

كيف لا أرتضي الجزارة ما عش ... ت قديماً وأترك الآدابا؟

وبها صارت الكلاب تُرِّجي ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

وكتب إليه النصير الحمامي:

ومذ لزمت الحمام صرت به ... خلا يداري من لا يداريه

أعرف حر الأسى وبارده ... وآخذ الماء من مجاريه

فكتب إليه الجزار:

حسن التأني مما يعين على ... رزق الفتى والعقول تختلف

والعبد قد صار في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف

على أنه لا يقدم الأدب ولا يؤخره - من حيث القيمة الذاتية - أن يكون الأدباء من ذوي الحرف أو من أهل الرياسات

وصف الأشياء التافهة:

رأيت مما عابه مؤرخو الأدب على الشعراء المتأخرين وصفهم للأشياء التافهة. ولست أدري كيف يعد هذا تخلفاً في مضمار الشعر؟! كأن مقياس الإجادة في الوصف عندهم أن يكون الموصوف جليلاً، فمن يصف الفيل مثلا أشعر ممن يصف العصفور، لمجرد أن العصفور صغير والفيل كبير؛ وواصف جبال (الهملايا) - على هذا القياس - أشعر شعراء العالم ولا جدال. . .!

والهبل لأم عنترة القائل:

وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غرداً كفعل الشارب المترنم

هزجاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم

لأنه يصف الذباب فيشبهه في مرحه بالشارب المترنم، ويمثله وهو يحك ذراعه بذراعه بمقطوع اليد مكباً على الزناد ليقدحه، وما الذباب؟ وما الأجذم المكب؟ أوَ ليسا تافهين حقيرين؟! وما إعجاب النقاد ومنهم الجاحظ بهذا التصوير؟!

ويا ويح امرئ القيس! ألم يجد غير قلوب الطير المتناثرة، والحشف البالي، فيبني لها بيتاً فخماً كهذا:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدي وكره العناب والحشف البالي

والعجب العجاب أن يكون العائبون مؤرخي الأدب المحدثين وهم يعلمون أن كل شيء يصلح موضوعا للأدب ما دام موضع حس الأديب وانفعال نفسه، ولا يهم بعد ذلك أن يكون هذا الشيء جبلا أو نملة. ثم لننظر ما قال شعراؤنا المتأخرون في أشيائهم التافهة، قال شهاب الدين الحلبي في سبحة:

وسبحة مسودة لونها ... يحكي سواد القلب والناظر

كأنني عند اشتغالي بها ... أعد أيامك يا هاجري

وقال محمد بن سور بن إسرائيل في مروحة:

ومحبوبة في القيظ لم تخل من يد ... وفي القر تجفوها أكف الحبائب

إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقا ... أتت بالهوا الممدود من كل جانب

وقال ابن نباتة في دواة فولاذ:

دواة لها جنس الحديد وبأسه ... وزادت عليه في الندى فهي أبهر

وكمل معناها يراعك منشئاً ... ففولاذها في الحالتين مجوهر

على أنك ترى هؤلاء الشعراء لم يتصدوا لوصف هذه الأشياء باستقصاء أجزائها وصفاً مقصوداً لذاته، وإنما استثاروا بها خواطرهم فأتت بهذه المعاني الشعرية الجميلة، فجاء قولهم متحركا نابضا بالحياة، لا عيب فيه إلا أنه ليس مقولا في رضوى وثهلان!

البديع:

يكاد ينعقد الإجماع على استهجان ما امتلأ به أدب المتأخرين من ألوان البديع، فهم يأخذونه جملة واحدة بأن العناية مبذولة فيه إلى الزخارف البديعة والتحسينات اللفظية، مرتبين على ذلك انتقاصه وتهجينه وتنفير المتعلمين منه، ولعلهم يبتغون من وراء ذلك صرف الناشئين عن التكلف إلى الاسترسال. ولكني أقرر أولاً أن ثمة فرقاً بين الصنعة والتكلف، فالصنعة لابد منها في كل عمل فني يقترب من الكمال، يزاولها الفنان فتكون من تمام جمال الفن. ولقد كان زهير يأخذ شعره بالصنعة إذا كان يعاود حولياته بالتنقيح والتثقيف، وتعاقب بعده شعراء تناولوا أشعارهم بالتصنيع والتحسين كالحيطئة وبشار، حتى كان مسلم ابن الوليد وأبو تمام وابن المعتز فالتفتوا إلى المحسنات اللفظية والمعنوية وحسن موقعها في الكلام، فاتخذوها في صناعتهم الشعرية قصداً، وكثيراً ما كانت تواتي أسلافهم عفواً ومن فيض الخاطر، وازدانت بها آيات الكتاب وأحاديث الرسول. أما شعراؤنا المتأخرون فقد زادوا فيها وأكثروا منها حتى صارت ركناً من أركان الأدب، وأصبحت غرض كل أديب، وقد ترامى بها الحال حتى جاوزت الألفاظ إلى الأشخاص في البيتين الظريفين الآتيين:

وقالوا يا قبيح الوجه تهوى ... مليحاً دونه السمر الرشاق

فقلت: وهل أنا إلا أديب ... فكيف يفوتني هذا الطباق!

ولا ينبغي أن يغض المتكلف المرذول من قدر البديع المحكم الصنع، وما البديع إلا مادة زينة كالذهب والأزهار، يختلف المزيَّن بها باختلاف الصياغة والتنسيق، وهنا الحد بين الصنعة والتكلف.

وكيف تحمل على التخلي عن الصنعة في الآثار الأدبية؟ أليس اختيار الألفاظ وإحكام النسج وترتيب الأفكار والمعاني صناعة؟ ولو تخلينا عنها لما استقام للشعر وزن ولا اطردت له قافية.

ويقولون: إن المتأخرين كانوا يصنِّعون في أدبهم ليعوضوا فقره في المعاني. ولو أنهم حقاً شعروا بشيء من ذلك لعملوا على تلافيه، والشعور بالنقص مبدأ الكمال، كما يقال. ولا يصح الخلط بين أدب عصر المماليك وبين أدب العصور السابقة، فإن الأول كان حقاً فقيراً في المعاني والأفكار، بل كان فقيراً في الصنعة نفسها، وكان متكلفاً غير مقبول، وما عنه نتحدث.

وبعد فقد قصدت إلى نفض الغبار عن محاسن في أدب المتأخرين عدت عليه مساوئ، ولعلي بهذا قضيت بعض حق الزمني من التمتع بقراءة بعض هذا الأدب زمناً لقيت فيه العنت من نبش قبور المخطوطات بدار الكتب المصرية، وإلى القائمين على إحياء الآثار الأدبية يساق الحديث.

عباس حسان خضر