مجلة الرسالة/العدد 672/آفة الشرق هذا الغرب!

مجلة الرسالة/العدد 672/آفة الشرق هذا الغرب!

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1946


يخيل إلي من هول ما أسمع وأرى أن هذا الغرب قد مسخ حوتاً من حيتان الأساطير له رؤوس أربعة قد فغر أفواهها جميعاً على الساحلين الأفريقي والأسيوي، يريد أن يطبق فكوكها على العالم العربي بأسره، وإنما عوق هذه الحلاقيم عن الازدراد هذا الخلاف الصاخب بين تلك الرؤوس على الاقتسام كيف يكون، وعلى الالتقام متى يبدأ! وإذا تصورت أفواج السمك حين يسوقها التيار إلى شبكة الحوت فتجزع وتضطرب؛ تصورت أمم الشرق الصغيرة وقد روعها هذا الوحش الهائل وهي وادعة في ظلال دينها، قانعة بحلال الرزق من أرضها، فتنظر إليه نظر المقضي عليه، تستنجد بالعهود فلا تنجد، وتستغيث بالمواثيق فلا تغاث، وترى بين منخري الحوت تشرشل جالساً وقد انقلب سيجاره الفخم بين شفتيه مدفعاً ضخما يقذف بالحمم السود على أرض (العلمين) وعلى ظهرها وبفضلها كتب الله له المجد ولشبعه السلامة!

تشرشل هذا الذي وقف ذات يوم على الساحل البريطاني يستقبل الهزيمة الساحقة الماحقة من دنكرك وقلبه واجف ودمعه واكف، يضرع إلى الله أن يثبت قدميه العجوزين المتخاذلتين أمام الإعصار النازي الجارف ليعيد نعمة الحرية إلى الناس، ويقيم ميزان العدالة في الأرض؛ فلما تمت له المعجزة، وقتل هتلر كما قتلت البعوضة النمرود، قام اليوم يدعو أمريكا إلى شركة أخوية بين الناطقين باللغة الإنجليزية تصوب أسهمها المراشة إلى كل دولة تطلب المساواة، وإلى كل أمة تريد التحرر، لأن الذي ورث ملكوت هتلر وسلطانه، يجب أن يرث كذلك عنصريته وطغيانه!

تشرشل هذا الذي كان كلما لكمه هتلر بجمع يده الحديدية لكمة الموت، خر فاقد القوة والوعي كالثور المنزوف، فيدركه المرحوم روزفلت، فيجلسه ويسنده، ويمسح الدم عن وجهه، وينفض التراب عن جسمه، ثم ينضحه بالماء حتى يفيق. فإذا أفاق قام مترنحاً إلى الكنيسة يصلي، أو إلى المذياع يستغيث، أو إلى مجلس العموم يبكي، أو إلى البيت الأبيض يستجدي، أو إلى المحيط الأطلسي يستوحي السماء رسالة العدالة الاجتماعية فتنزل عليه ألواحها المزيفة من سجيل؛ هذا الرجل الذي نجا لأن عمره طويل، وانتصر لأن جهده قليل، يتبجح اليوم بالعصبية والإمبراطورية والدومنيون، ويألم أشد الألم لأن وزارة العمال قررت إجلاء الجنود الإنجليزية عن مصر بعد أربع وستين عاماً جثمت فيها على صد المكروب، فلا تنسم إلا كما ينسم المحتضر، ولا تتحرك إلا كما يتحرك المبهوظ؛ والمستر تشرشل يعلم كما يعلم كل الناس لماذا دخلوها، وكيف احتلوها، وكم سجلت مضابط برلمانهم العتيق وعود أسلافه بالجلاء عن بلد لم يملكوه بالفتح ولا بالإرث ولا بالهبة، وإنما فرضوا لأنفسهم عليه (حق ارتفاق) بالمرور، ثم جعلوا احتلاله واجباً لحماية هذا (الحق)! ثم اختلفت الأسماء على هذا الاحتلال، من الاستعمار المقنع، إلى الحماية السافرة، إلى الاستقلال الصوري، إلى الصداقة الجبرية؛ ولكن المسمى ظل في جميع هذه الحالات واحدا، وهو الوزير الذي يأمر في (دوننج ستريت)، والسفير الذي ينفذ في (قصر الدبارة)، والأسطول الذي يهدد في (مالطة)!!

حتى غيرت هذه الحرب الدنيا، فتغيرت عقول الناس، وتبدلت وسائل النقل، واختلفت أسلحة القتال، وتغلبت مبادئ الاشتراكية، وتأصلت فكرة الحرية، واستحيا بنو آدم أن يظلوا على شريعة الوحوش يحكمون الأظفار والأنياب فيما يشجر بينهم من خلاف؛ فاتخذوا (ميثاقا) للأمم، وألفوا مجلساً للأمن، وأقاموا محكمة للعدل، وطمعوا أن يقيموا العالم الجديد على هذه القواعد؛ ولكن تشرشل وسائر المحافظين لم يكونوا جادين يوم نادوا مع ترومان وستالين بهذه المبادئ، لأنهم مطمئنون إلى براعتهم في مماطلة الموت كلما طلع عليهم بمنجله الرهيب! ومن يدري! لعل الموت الذري في زيارته القادمة لا يقبل من المخادعين بعد ذلك مطلا ولا ختلا ولا فدية!

لقد كان الشعب الإنجليزي بعيد النظر سديد الرأي حين دهور تشرشل وإيدن وأعوانهما عن كراسي الحكم في صبيحة يوم النصر؛ فإن من انتصر بالسيف لا يصالح إلا بالسيف، ومن عشش الاستعمار في رأسه وفرخ في نفسه لا يستطيع أن يؤمن بالديمقراطية والحرية إيماناً يحمله على أن يحبهما في نفسه وفي غيره، ويرجوهما لصديقه ولعدوه!

على أن عذر تشرشل في موقفه من مصر ومن غيرها ناهض؛ فإن الرجل ربيب العسكرية والاستعمار منذ درج؛ ولكنك تكلف العقل شططا إذا حاولت أن تجد بعض العذر لموقف ترومان الرجل الشعبي من فلسطين!! لقد دس أنفه في هذه القضية دساً، لأن المقادير شاءت أن يكون له في قضايا العالم رأي! فهل فغمت أنفه رائحة العدل فيها، أم سطع في خيشومه عبير الذهب الصهيوني وهو يفيد في الانتخابات والدعايات، وينفع في الحروب والملمات؟ وماذا يضر إذا نافس الأمريكان الإنجليز في إرضاء اليهود على حساب العرب ما دام الأمر لا يكلفهم إلا إيفاد (لجنة) تبحث وتحقق، ثم إرسال (حملة) تنفذ وتطبق؟ أما فلسطين فحسبها من العيوب والذنوب أنها شرقية، وأنها عربية، وأنها مسلمة، فلم لا تكون مشاعاً بين أهل الديانات الثلاث، ثم تقطع إقطاعاً ليهود القارات الخمس؟ ولا تسل بعد ذلك عن حرية الشعوب وحرمة الأوطان وقدسية الحقوق، فإن ذلك كلام كان يقرر ويكرر وسيف هتلر مصلت على الأعناق، وكابوس النازية جاثم على الصدور!

واستالين، ما شأنه والوصاية على طرابلس؟ هل كان يظن أن إنجلترا تترك مفتاح (كرارها) في يد القط؟ إنها ترضى إذا حيل بينها وبينها أن تعود إلى إيطاليا، لأن إيطاليا ريح لا تثير الغبار، وحصى لا يعوق السائر! فإذا سألت هؤلاء الذين يحكمون ويقسمون: لماذا تردون المسلوب إلى سالبه، ولا تردونه إلى صاحبه؟ أجابوك جواب المستعمر الخبير: إنا إذا أعدنا طرابلس إلى أهلها خرجت برقة من قبضة بريطانيا، وأفلتت تونس والجزائر ومراكش من ربقة فرنسا. وجعلها في وصاية الجامعة العربية لا يختلف عن استقلالها في الخطر الذي يهدد الجامعة الغربية؛ لأن الشرق ما دام سوقاً للاستعمار ظلت سلعه المباركة موضع المقايضة والمعاوضة! فإذا حررت رقاب العبيد، وأغلقت سوق الرق، انقلب المستعمرون إلى ديارهم خاسرين يقتل بعضهم بعضاً من الخوف، ويأكل بعضهم بعضاً من الجوع! والرد الذي تقتنع به عقلية الغرب، إنما هو مجابهة العدوان بالعدوان، ومواجهة القوة بالقوة. وليست الإشارة هنا إلى العدوان والقوة من القول الجزاف؛ فإن قوتنا الفكرية متى ذهب عنها مركب النقص الذي اعتراها من طول ما ضامها المستبد وسامها الدخيل، استطعنا أن نقول صادقين لأي أمة من أمم الأرض: لقد اجتمع رجالنا برجالكم في مؤتمر الميثاق وفي مجلس الأمن، فهل وجدتم في عباقرة أوربا وجهابذة أمريكا من يفوق عبد الحميد بدوي، أو محمود حسن، أو حافظ عفيفي مثلا، في رسوخ القدم في القانون، وأصالة الرأي في المشورة، ومتانة الحجة في الجدل، ومقطع الصواب في الحكم؟ وأما القوة المادية، فالعدد وفر، والإيمان صدق، والرأي جميع، والعروة وثيقة. فإذا أعوزتنا الوسائل تبرع بها من يترقب هذه الفرصة ليكيد، ويستعجل هذا اليوم ليستفيد!

أحمد حسن الزيات