مجلة الرسالة/العدد 672/في مقالين:

مجلة الرسالة/العدد 672/في مقالين:

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1946


2 - في مقالين:

حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل الجامعة الأزهرية

للأستاذ محمود أحمد الغمراوي

شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقا

بينت في كلمتي السابقة في العدد 670 من مجلة الرسالة ما ينجم من اقتراح حضرة الأستاذ مدير المجلة الذي تقدم فيه إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف بإلغاء التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية، وإلغاء سنتين من مدة التعليم بالمعاهد الثانوية لأزهرية، وإحلال اللغات الأجنبية وعلوم الرياضة والكيمياء والطبيعة محل علوم اللغة العربية، ومحل علوم التفسير والحديث والفقه والتوحيد التي يدرسها الطالب الأزهري في مدة التعليم بالقسم الابتدائي، وفي السنتين المطلوب إلغاؤهما من القسم الثانوي.

وقلت إن هذه السنوات الست المطلوب إسقاطها من زمن تعليم العلوم الدينية والعربية في المعاهد الدينية تعدل نصف المدة التي كانت - إلى زمن بعيد - تؤهل الطالب لنيل شهادة العالمية وألمحت إلى ما يكون لهذا الحل المقترح من أثر سيئ في حياة اللغة العربية: إذ تهن قواها، ويقف نموها، ويضعف نتاجها، ويضؤل محصولها، وتفسد حاسة الذوق اللغوي في أهلها. ذلك إلى ما يستتبعه الاقتراح من تضييع حصص الدين المقررة في ست سنين وإلغاء حفظ القرآن، وفقد حفاظه، فتغلق أبوابه في وجوه المسلمين، ويحجب نوره عن قلوب المؤمنين وتنطمس معالم هدايته فلا ترى للمستهدين، وتستخفي عن الناس حجة الله على العالمين.

ولقد طلبت من الأستاذين الفاضلين أن يعيدا النظر فيما ارتأياه ويراجعا الرأي فيما اقترحاه، لعلهما يجدان لوناً آخر من العلاج يكون فيه للأزهر صلاح ورشد، ونجاة وقصد، فيوافيا القراء به. بيد أن ما طلعت به الرسالة علينا العدد 670 تحت عنوان (إصلاح الأزهر بين دعاته وأباته) جاء ترجيعا لما ارتآه الأستاذ أولا، محاولاً فيه أن يوضح ما ظن أنه أشكل من جوانب رأيه على من سماهم معارضين للاقتراح؛ وأباة للإصلاح، مستعيناً بسحر فنه، يبغي منه أن يرسم له تلك الحقائق الملموسة، والآثار الثابتة المحسوسة، والنتائج البينة اللازمة للاقتراح، والتي لا يخطئ في إدراكها حدس، ولا ترتاب في وجودها نفس، إلا من يرتاب في وجود الظلام بعد مغيب الشمس - فيصور لك هذه الحقائق ظلا حائلا، وخيالا ماثلا، ووهما باطلا!

فهذه السنوات الست التي يراد اقتطاعها من المدة المقدرة للتعليم في المعاهد الدينية ليست نصف اثنتي عشرة سنة كانت قبل كافية لنيل الطالب المجد شهادة العالمية! وليس لها أثر يذكر في إعداد الطالب وتزويده بزاد نافع من الشريعة ومن علوم اللغة العربية؟ ومن ذا يقول إن الستة نصف الإثني عشر؟!

وكيف يزعم زاعم أن هذا الحل الحاسم الذي ارتضاه الأستاذ العقاد يستلزم إلغاء حفظ القرآن، أو يسلب الطالب الذي يريد أن يلحق بالمعاهد ست سنوات أخرى كان يقضيها في حفظ القرآن استعداداً لقبوله بالمعاهد - كيف؟ وهذا الحل الحاسم يعطي الطالب فرصة واسعة يستطيع أن يحفظ فيها القرآن، وأن يحفظ غير القرآن من المتون التي لا بد من حفظها لتحصيل ما لابد منه من المسائل الدينية واللغوية؟

ألم يأذن له هذا الحل بثلاث سنين كاملة من خمس السنين التي للقسم الذي كان يدعي أمس (القسم الثانوي)؟

أو ليس في هذه السنوات الثلاث وفاء بما يلزم له من الوقت لدراسة مواد الثقافة المقررة على أمثاله في الشعب التوجيهية بمدارس وزارة المعارف حتى يتم للأمة بهذه الدراسة الحصول على حجر الفلاسفة، فتقبض بكلتا يديها على حقيقة الحقائق، ووحدة الوحدات؛ وحدة الثقافة!

أو ليس في هذه السنوات الثلاث بعد متسع لتحصيل الطالب ما تشتد حاجته إليه من علوم اللغة، وقواعد الدين وفروع الشريعة ليصير أهلا للدراسة العالمية في كليات الأزهر، وسيكون أهلا للاجتهاد (حتى لا يظل الأزهر كما هو يملك الكلام، ويجتر الماضي، ويقتات الفتات، ويبطل الاجتهاد، ويعطل العقل، ويصم أذنيه عن أصوات العالم وحركات الفلك!)

ثم إن لم يكن في هذه الثلاث السنين بلاغ إلى الزاد، الذي يوصله إلى مرتبة الاجتهاد! ولم يجد الطالب فيها بديلا من الست السنوات التي سلبها، وكان يحفظ فيها القرآن قبل التحاقه بالأزهر ومعاهده - فهل تظن أن النظام المقترح يكلفه طائلا أو يجشمه أمراً هائلا؛ أو أنه يعدل به عن قصد السبيل ويسلك به طريقا جائرا، يظل فيه عمره حائرا، يهيم في أودية الظلال، ويخبط بين شعب الخيال، لا يجد دليلا، ولا يهتدي سبيلا؟. . . كلا!

أليس للأزهر الحق في أن يزيد في زمن الدراسة بالقسم الثانوية منه سنة أو سنتين أو ما شاء أن يزيد من سنين يرى في زيادتها فائدة الطالب، ونجاح التعليم، وتقدم العلم طبقا لمقتضيات التطور العلمي والاجتماعي في هذا العصر الجديد.

ثم هو بعد أن بلغ الحلم، وحصف عقله، مستطيع في يسر أن يحفظ القرآن وهو بحال: يحفظ ما يفهم، ويفهم ما يحفظ.

وهل على الأزهر من بأس في أن يقبل هذا الوضع الجديد الذي يمليه منطق الحوادث، وتقتضيه طبيعة الزمن فيضاف إلى رجليه القديمتين اللتين كان يمشي بهما رجلان أخريان من أرجل الثقافة الموجودة بمصانع وزارة المعارف ليساعد التطور، ويجاري الزمن. وبذلك تتحقق للأمة وحدتها المفقودة، وتنتفع بميزة الإسلام: مرونته، ومسايرته للتطور، ومطاولته للزمان، وذلك من مزاياه المعدودة. ثم لماذا يخاف الأزهر من طغيان المواد المدنية على المواد الدينية في الدرس والتحصيل ما دام الوقت متسعا؛ والأستاذ كفئاً؛ والكتاب مهذباً؛ والمنهاج مستقيماً؛ وتوزيع المواد دقيقاً؛ والإدارة حازمة؛ والمراقبة يقظى.

وأقول إن هذا الذي يذكره الأستاذ حق ولكن:

كيف السبيل إلى سعاد ودونها ... قلل الجبال ودونهن حتوف

والرجل حافية ومالي مركب ... والكف صفر والطريق مخوف؟

وهل توافرت هذه الشروط السبعة في مدارس وزارة المعارف وهي أقوى في النظام وحسن الإدارة ويقظة المراقبة؟

لا ريب في أن الأستاذ الزيات يرمي بما كتب إلى غرض جليل، يحمله على الدعوة إليه قصد شريف، ووجدان نبيل. فأما الغرض الذي يرمي إليه فهو إصلاح الأزهر ليتحقق بهذا الإصلاح أمران عظيمان: وحدة الأمة بتوحيد الثقافة، وإنشاء جيل من العلماء القادرين على الاجتهاد، لتجد الأمة في علمهم المثقف ما يحمل مشكلاتها الاجتماعية والعائلية، بما في الشريعة من سماح وما في الدين من يسر. فإصلاح الأزهر هو الوسيلة إلى تحقيق هذين الغرضين الجليلين؛ وما اقترحه مدير الرسالة، وآزره عليه الأستاذ العقاد، هو سبيل الإصلاح المنشود.

1 - وحدة الثقافة:

يرى الأستاذان الجليلان أن وحدة الثقافة؛ أو وحدة الأمة بتوحيد التعليم - كما جاء في تعبيرهم تتم وتتحقق إذا درست العلوم والآداب في الأزهر على النحو الذي تدرس عليه وبالمقدار الذي تدرس به في المدارس الابتدائية والثانوية التابعة لوزارة المعارف.

فأما وحدة الثقافة فإن الأزهر منذ خمسين سنة - على عهد المغفور له الأستاذ الإمام محمد عبده - قد أفسح صدره لما يسمونه اليوم علوم الثقافة: فأدخل فيه علم الحساب والجبر ومبادئ الهندسة وعلم الجغرافيا، والتاريخ، والميقات، والهيئة؛ وعلى الرغم من أن تعلمها كان على سبيل الاختيار فإن الطلاب قد أقبلوا عليها راغبين حتى كادت تعم جميع الطلبة، ولعل الأستاذ الزيات كان ممن استوفوا حظهم منها، ثم أنشأ المغفور له الخديو عباس الثاني معهد الإسكندرية، واختار شيخا له القاضي العادل والمربي الكبير المغفور له الشيخ محمد شاكر فنهض بالمعهد نهوضا فائقا، وجعل تعلم هذه العلوم إجباريا؛ فازدهر معهد الإسكندرية بهذه العلوم إلى جانب علوم الدين واللغة أيما ازدهار. وتطور نظام التعليم في الأزهر: فمنذ سنة 1911 صار تعلم هذه العلوم واجباً على جميع الطلاب. ثم توجهت عناية الملك العظيم المغفور له الملك فؤاد طيب الله ثراه، حيث وجه عنايته - أغدق الله عليه سحائب رحمته - إلى تنظيم الأزهر وإصلاحه إصلاحا شاملاً يعم ناحيتيه العلمية والمادية: فبسط يده بالعطاء الجزل، وزيد في ميزانية الأزهر زيادة عظيمة، وأنشأ نظام الكليات وأقسام التخصص، وعدلت مناهج التعليم تعديلا يلائم الوضع الجديد، وزيد فيها دراسة علوم الطبيعة والكيمياء وعلم الحياة وتوسع في مقرر الهندسة، وزيد في مناهج الكليات وأقسام التخصص ما يناسب كلا منها من علوم التربية والفلسفة والتاريخ والاجتماع وأصول القوانين حتى اللغات الأجنبية. وقد كان هذا النظام كفيلا بأن يرقى بالأزهر ويوجد منه علماء أخصائيين لو أنه وجد من يرعاه وينفذه.

ولقد اضطر الأزهر أن يقبل طائعا أو كارها أن يعدل النظام الأساسي للتعليم فيه تعديلا هد من قوته وأوهن من علمه وأضعف من قوة الطالب الأزهري في العلوم الدينية ونقص في حظه منها. فقد كان الطالب الأزهري لا يستحق أن يمنح شهادة العالمية حتى يؤدي امتحانا في علوم الأصول والفقه والبلاغة والتفسير والحديث والتوحيد والمنطق. . .؛ وحتى يجوز هذا الامتحان مجليا! واليوم تدرس هذه العلوم موزعة مجاميع في شعب ثلاث! قبل الأزهر أن تشعب رأسه إلى ثلاث شعب حرصا على تثقيف طلابه ليظل باب الأمل في الحياة العملية مفتوحا أمامهم - ثم يدهشك أن تسمع ذلك الصوت البغيض ينبعث من أبواق السوء في وزارة المعارف يصك سمع الزمان بكلمة (توحيد تخريج المعلم) (وحدة الثقافة) (الطالب الأزهري تنقصه الثقافة) (الأزهر في حاجة إلى الإصلاح) فماذا يبغون من تلك الصيحة؟ وماذا يخفون في هذا النعير؟

إن كانوا يزعمون أن الغرض هو توحيد الثقافة وصولا إلى وحدة الأمة، فالأمر مشكل. فإنا نجد الوزارة ترعى عدة مدارس في ظلال نظم متعددة، وتدير عدة مجاميع من المدارس مختلفة الغاية منوعة الأساليب، متفاوتة الرتب والإعداد؛ فهناك التعليم الأولي، والألزامي، والتعليم الابتدائي والثانوي والعالي؛ والتعليم الصناعي، والتعليم الزراعي، ومنه التعليم المتوسط والتعليم العالي، والتعليم العالي أنواع كثيرة في كليات الآداب، والحقوق، والطب والهندسة، والزراعة، ومعهد التربية وكلية العلوم.

وإعداد الطالب لنوع من هذه غير إعداده لغيره من سائر الأنواع: فإعداد الطالب في التعليم الأولي والإلزامي غير إعداده في التعليم الابتدائي والثانوي. وثقافة هذا غير ثقافة ذاك؛ وثقافة طلاب المدارس الصناعية والزراعية المتوسطة ليست كثقافة طلاب المدارس العالية ولا هي كثقافة طلاب المدارس الثانوية، ومناهج التعليم في كل من هذه الأصناف والأنواع غير مناهج الصنف الآخر منها ضرورة السير بالطالب منذ الخطوة الأولى من عمره التعليمي في الطريق الذي هو مستعد لسلوكه في الحياة وإعداده لما هو مستعد له. وهؤلاء الجماهير من الطلاب الذين هم عناصر الحياة في جسم الأمة هم جمهرة الأمة وأعضاؤها العاملون.

فإذا كانت وحدة الأمة متوقفة على وحدة الثقافة؛ وكانت وحدة الثقافة مستحيلة الوجود مع تعدد هذه النظم وتنوع طريقة الإعداد وتفاوت مراتب الثقافة في هذه المدارس التي تعلم أبناء الأمة وتعدهم للحياة - فمتى وكيف تتحقق وحدة الأمة؟ ولماذا لا يكون اختلاف هذه الجماهير في التنشئة والتثقيف، والتكوين الصناعي، والإعداد للحياة الاجتماعية - مؤثراً في وحدة الأمة؛ ثم يكون تعليم اللغة والدين في الأزهر (ولو أخذ الطالب حظه من الثقافة) خطراً على حياة الأمة؛ هادماً لوحدتها.

لقد كان معروفا - وأظن أن الناس ما برحوا يعرفون - أن وحدة الأمة تتحقق بثلاثة أشياء: وحدة الجنس، ووحدة اللغة ووحدة الدين، وأظن أن الأزهر قام بحراسة هذه الوحدات الثلاث أو باثنين منها على الأقل مدة ألف سنة، وبذلك تكون الأمة مدينة له بحفظ وحدتها على الرغم مما تداولها من تسلط الأجانب عليها وعملهم على تفكيك عراها بما كان جديراً أن يمزق وحدتها، ويبدد شملها، فاليوم ينعق الدخلاء بأن الأزهر خطر على الأمة مفرق لوحدتها!؟

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزي سمار

محمود أحمد الغمراوي

شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقا

(الرسالة): يمنعنا من العودة إلى مناقشة الأستاذ الفاضل هذا الأسلوب التهكمي الذي يتراءى التعريض من خلاله وهذا الإلحاح في مسائل تتصل بالزمن والمنهاج بعد أن تركنا ذلك للتطبيق هو من إختصاص الأزهر وحده ثم هذه المقدمات التي سيكرهها الأستاذ على أن تقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان! فإن تفيدها يدعو إلى الكلام في أشياء ليس من البر أن نهتك عنها ستار الماضي لنعرضها إلى سخرية الحاضر. على إن ذلك لن يمنعنا من نشر ما بقي من كلام الأستاذ.