مجلة الرسالة/العدد 672/بمناسبة (يوم الجلاء)
مجلة الرسالة/العدد 672/بمناسبة (يوم الجلاء)
إبراهيم بك هنانو قال لي. . . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
هذا إنذار أستحلف كل قارئ من قراء الرسالة في الشام أن يحدث به وينشره ثم يحفظه. . . فانه سيجيء يوم تضطره أحداثه أن يعود إليه فيقول: (يا ليته قد نفعنا هذا الإنذار، يا ليتنا. . . ويومئذ لا تنفع شيئا (ليت). . . إنها لا ترد ما ذهب، ولا ترجع ما فات!
وهذا أعذار إلى الله، ثم إلى كتاب التاريخ، لئلا يقولوا إنها لم ترتفع في دمشق صيحة إنكار لهذا المنكر، ولم يعل فيها صوت ناطق بحق. . . وإن كتابها وأدباؤها حضروا مولد سنة من (ألعن) سنن إبليس، فلم يقتلوها وليدة ضعيفة، وتركوها تكبر وتنمو حتى صارت طاعوناً جارفاً، حتى غدت ناراً آكلة، حتى استحالت داهية دهياء أيسر ما فيها الخسف والمسخ والهلاك. . . ونعوذ بالله من تذكير لا ينفع وإنذار لا يفيد!
وبعد فقد حدثني صديق لي فقال:
كنت أمس في مجلس، وكنا نتحدث فيما كان (يوم العرض) من (مناظر الكشافات. . . ومنظر الأسيرة. . . والعروس) حديث إنكار وأسف لما كان، ونعجب كيف جاز على رجال هذا العهد الوطني، وهم فيما نرى أهل الشهامة والمروءة والغيرة على الأعراض، وكان في المجلس الزعيم الجليل عضو مجلس النواب: إبراهيم بك هنانو، فرأيته يعرض عن هذا الحديث ويصرف عنه، وانقاد له الحاضرون فضربوا في أحاديث أخرى. . . فلما انفض المجلس خرجت معه، فعاد إلى يوم العرض وخبره، واختصني بهذا الحديث وأذن لي أن أنشره. . . .
قال رعاه الله: إنك لتعجب كيف تم هذا الخزي، وكيف مر على رجال هذا العهد الوطني فلم ينتبهوا له، وأنا أخبرك بسر ما تعجب منه وقعت عليه مصادفة. . . وذلك أني ذهبت قبل العرض بأيام في حاجة لي إلى منزل (فلان) الفرنسي، ومنزله في الميدان الذي يتقاطع فيه الشارعان الكبيران: شارع يوسف العظمة، وشارع كلية الهندسة، فوجدت المنزل كأنه خال، والمتاع مرصوص مربوط، فعل المتهيئ للسفر، وكان النور يسطع من شق باب غرفته، فهممت أن أدخل عليه، فسمعت كلاماً وحديثاً، فانتحيت ناحية أنتظر تمام الحديث، إذ ليس من الأدب أن أدخل على متحدثين، فسقط إلى كلام لا يستطيع المرء أن يغلق أذنيه عن مثله، ولم يكن استراق السمع من عادتي، غير أني وقفت، وقد أدركت أن (فلاناً) هذا، يتحدث مع (رجل. . .) أعرفه من أذناب القوم ومن أعوانهم، وممن رفعوا إلى المناصب العالية، وكانا يتشاكيان الفراق، ويتحدثان وكأنما يتباكيان. ورب كلمات يقطر منها الدمع! ورب حروف هي قلوب تتفطر! ويتذكران الأيام الماضية، وكيف دارت الأيام، وكان من حديث صاحبنا الشامي الذي سمعته مترجماً إلى لغة القلم ولسان الأدب، قوله:
- لئن كتب عليكم أن تذهبوا، فإنكم ستعودون عاجلاً، ثم لا تذهبون أبداً. على أني سأنتقم لكم، وسأعد وحدي العدة لعودتكم. سأصنع في ليالٍ ما لم تصنعوه أنتم في ربع قرن وتسعة أشهر. . . سأريكم قوتي. وليست القوة أن تسوق على عدوك العسكر اللجب والمدافع والدبابات تضرب بها قلعته، ولكن القوة أن تأتيه باسماً مصافحاً فتحتال عليه حتى يفتح لك قلعته بيده، فإذا أنت قد امتلكتها بلا حرب ولا ضرب. إني سأدس لهم دسيسة في عيد الجلاء. لا أصبر والله حتى ينتهي العيد. إنها فرصة إن لم أغتنمها لم أكد أجد مثلها وأنا أعرف بأهل بلدي، وإن لم يكن دينهم من ديني: إنهم لا يؤتون بالقوة ولا تنفع فيهم، وقد جربتم ورأيتم، فما قتلتم منهم مبغضاً لكم إلا ولد عشرة هم أبغض منه لكم، وما هدمتم داراً من دورهم إلا هدمتم معها ركناً من (انتدابكم) عليهم، ولا أشعلتم النار في حي لهم إلا كانت هذه النار حماسة في قلوبهم عليكم ونار ثورة تتبعكم. ولا يؤخذون بالشبه تلقى عليهم في دينهم، ولا بالثقافة التي تحمل الإلحاد والكفر تحت عناوين العلم والفن، وما جئتموهم بكتاب هو في زعمكم هدم لدينهم إلا أثرتم عليكم مشايخهم وجمعياتهم، فهبوا يدافعون، فإذا أنتم قد قويتم بعملكم إيمانهم في صدورهم. وما ينالون بالقوانين التي تبطل قرآنهم، وقد علمتم حينما جربتم أن تأتوهم بالظهير البربري مهذبا ملطفاً لابساً ثوب (قانون الطوائف) ماذا جرى عليكم حتى أبطلتموه بأيديكم، ولا بالأموال التي تشرون بها ضمائر زعمائهم وقادتهم: لأن من هذه الضمائر ما هو كالموقف (عندهم) لا يباع ولا يشرى ولا يوهب، ولا بإرهاب الزعماء وحبسهم، وهذا هو الرجل الذي ضربه سنة 1936 رجالكم بعصيهم صار هو رئيس الجمهورية التي تخرجون غداً منها. . .
فقال له (فلان) الفرنسي: - ومن أين تأتيهم أنت؟ وهل تقدر على ما عجزت عنه فرنسا؟
- قال: نعم. ولو كنتم قد سمعتممني ما عجزتم. إني آتيهم من الباب الذي لا يستطيع أن يراه أحد مفتوحاً إلا ولجه. إني أحاربهم بغرائزهم فأجعلهم يهدمون بيوتهم بأيديهم، وأثير عليهم نساءهم وأثيرهم على نسائهم، وألقى الضعف والخلف فيهم، فأفسد عليهم رجولتهم، وأخرب أسرهم، وأجعل جيشهم أخشابا قد شغلت كل خشبة بهواها ولذتها. إني آتيهم من باب (الغريزة الجنسية) الذي لم تدخل منه أمة إلا دخلت جهنم التي تحرقها ولا تخرج منها من بعد أبداً. . .
- قال الفرنسي: أما أدخلناهم نحن من هذا الباب؟ أما قلنا لهم، إن تعريض أجسام الشباب والشابات صحة لهم وقوة، فأبوا وقالوا، كلا، إنه تعريض (بالصاد)؟ أما قلنا لهم، إن هذا الحجاب همجية ووحشية، وإن التقدم والمدنية بالسفور؟ أما أنشأنا لذلك جمعيات من النساء؟ أما فتحت هذه الجمعيات مدارس؟ أما صنعت هذه المدارس أكثر مما صنعت الفرنسيسكان؟ إننا لم نصل بعد كله إلى شيء!
- قال الآخر: إن الصبر عند الصدمة الأولى، فإذا استطعت أن أضرب ضربة واحدة ضمنت النجاح، وإني سآتيهم من طريق الوطنية، سأقول: إنه يوم عيد الوطن، عيد الجلاء، عيد الرجال والنساء. . .
قال إبراهيم بك:
ثم دخل داخل فتنحيت عن مكاني، فلم أسمع شيئاً بعد ذلك. فلما حضرت العرض، ورأيت الذي كان، عرفت من أين جاء البلاء. على أن هذا الرجل وأشباهه لم يصنعوا ما صنعوا حباً بفرنسا ولا إخلاصاً لها. إن قلوبهم أضيق من أن تتسع لإخلاص حتى ولو لفرنسا. . . ولكن حباً بأنفسهم، وحرصاً على لذتهم، إنهم يكادون يجنون، إذ يجدون دمشق لا تزال نساؤها مستترات متحجبات، ولا يفتئون يسائلون أن كيف السبيل إلى هتك هذا الحجاب؟ لماذا لا نكون كفرنسا حيث لا تستر عورة، ولا يحجب جمال، ولا يمنع من لذة طالبها؟ لقد احتجوا بالصحة وأن الحجاب ضعف ومرض، فكذبهم كون المتحجبات أصح أجساماً وأقوى وأبعد عن المرض، وأن من السافرات مصابات بالزهري والسيلان وبالتمدن، وأن الحجاب رجعية وتوحش، فلم يصدقهم أحد، فجاءوا هذه المرة فأخذونا على حين غرة وغفلة، وأفادهم أن كان الناس في الفرحة الكبرى، في عيد الجلاء، فقالوا للناس: إنه يوم الفرح، فلتشارك المدارس فيه الأمة، ليظهر الطلاب والطالبات سرورهم، ويعلنوا عاطفتهم ثم ذهبوا فأعدوا هذه (المناظر) التي كانت يوم العرض، كبقعة النجس في ثوب العروس الأبيض. . .
ألا من كان يظن أن مثل هذا يكون في دمشق ولا تزلزل الأرض زلزالها؟ من كان يظن أن الآباء ينسون نخوتهم؟ وهؤلاء النفر من رجال المعارف، وهم الأمناء على الطالبات يضيعون أمانتهم، ويحولون العرض عن وجهته؟ فبعد أن كان للعزة الوطنية وللمجد والنبل، صار للشهوة واللذة والغريزة والجنسية! لقد جعلته هذه المشاهد (مرقصاً)!. . . كل ذلك تقليداً للأجنبي الذي نحتفل اليوم بجلائه عنا، الأجنبي الذي هزم في الحرب ووطئته نعال أعدائه، وقد كان له جيش لجب يزيد ألف ضعف عن هذا الجيش الذي نعرضه، وقد كان له خط ماجينو، وأمة تعد أربعين مليوناً، ومستعمرات. . . فلم يغن عنه جيشه ولا حصونه ولا عدده لما أضاع الأخلاق وفرط بالعفاف.
لا، لا تقولوا: (إنه يوم العيد يجوز فيه ما لا يجوز في غيره) فإن المرأة التي تسقط يوم العيد، كالتي تزل يوم المأتم، والناس يزدرون المرأة (الساقطة) من غير أن يسألوا متى كان سقوطها!
ألا من كان له قلب فليتفطر اليوم أسفاً على الحياء.
من كان له عين فلتبك اليوم دماً على الأخلاق.
من كان له عقل فليفكر بعقله، فما بالفجور يكون عز الوطن، وضمان الاستقلال، ولكن بالأخلاق تحفظ الأمجاد وتسمو الأوطان.
فإذا كنت تحسبون أن إطلاق الغرائز من قيد الدين والخلق، والعورات من أسر الحجاب والستر، من ضرورات التقدم ولوازم الحضارة، وتركتم كل إنسان وشهوته وهواه، فإنكم لا تحمدون مغبة ما تفعلون، وأنكم ستندمون (ولات ساعة مندم) إذا ادلهمت المصائب غدا، وتتالت الأحداث، وتلفتم تفتشون عن حماة الوطن، وذادة الحمى، فلم تجدوا إلا شباباً رخواً ضعيفاً، لا يصلح إلا للرقص والغناء والحب. .
فالله الله، والأمة والمستقبل. . . إننا خرجنا من هذا الجهاد بعزائم تزيح الراسيات، وهمم تحمل الجبال، فلا تضيعوا هذه العزائم، لا تذهبوا هذه الهمم، ولا تناموا عن حماية استقلالكم فمن نام عن غنمه أكلتها الذئاب.
إن هذا الجلاء نعمة من نعم الله، فتلقوها بالشكر والطاعة، واحفظوها بالجد والأخلاق، فبالشكر تدوم النعم، وبالإخلاص تبقى الأمم، وبالمعاصي تبيد وتهلك، إن أجدادنا كانوا يحتفلون بالنصر بحمد الله وطاعته فيقودهم الاحتفال إلى نصر جديد، وكذلك تفعل الأمم الحية اليوم. أما سمعتم بحفلات تتويج ملك الإنكليز، لقد كان نصفها في الكنيسة، فلماذا لا يكون احتفالنا بالجلاء إلا اختلاطا وتكشفا وغناء ورقصاً واستهتاراً، كأننا لم ينزل علينا كتاب، ولم يبعث فينا نبي، ولم يكمل لنا دين؟
إني أخاف والله أن يكون الأجنبي قد أجلى جيوشه عنا، وترك فينا قنابل تنفجر كل يوم، فتدمر علينا أخلاقنا، وأوطاننا، واستقلالنا. إن كل عورة مكشوفة، وفسوق ظاهر، قنبلة أشد فتكاً من قنابل البارود، ولا يخفي ضررها إلا على أحمق!
يا أيها الناس!
لقد جلت جيوش العدو عن أرضكم، فأجلوا عن بيوتكم عاداتهم، وعن رؤوسكم شبهاتهم، وعن مدارسكم مناهجهم، وعن شوارعكم حاناتهم ومراقصهم، وعن محاكمكم قوانينهم، وعن أجسام بناتكم وأولادكم ثيابهم الكاشفة الفاضحة وأزياءهم.
وذلك هو الجلاء الحق، وذلك هو العيد الأكبر.
هذا ما قاله لصديقي، الزعيم إبراهيم بك هنانو عضو مجلس النواب السوري، أنقله بنصه، والعهدة على هذا الصديق.
علي الطنطاوي