مجلة الرسالة/العدد 672/كتب قرأتها:

مجلة الرسالة/العدد 672/كتب قرأتها:

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1946



في غربال ميخائيل نعيمة

للأستاذ حبيب الزحلاوي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

ويقول: (لكل ناقد موازينه ومقاييسه، وهذه الموازين والمقاييس ليست مسجلة لا في السماء ولا على الأرض، ولا قوة تدعمها وتظهرها قيّمة صادقة سوى قوة الناقد نفسه، وقوة الناقد هي فيما يبطن به سطوره من الإخلاص في النية، والمحبة للمهنة، والغيرة على موضوعه، ودقة الذوق، ورقة الشعور، وتيقظ الفكر، وما أوتيه بعد ذلك من مقدرة البيان لتنفيذ ما يقوله لعقل القارئ وقلبه. . .

(لا يكون الناقد ناقداً إذا تجرد من خلة (قوة التمييز الفطرية) تلك القوة التي تبتدع لنفسها مقاييس وأوزاناً ولا تبتدعها المقاييس والأوزان، فالناقد الذي ينقد (حسب القواعد) التي وضعها سواه لا ينفع نفسه ولا منقوده ولا الأدب بشيء.

(. . . نحن في حاجة إلى الناقدين لأن أذواق السواد الأعظم منا مشوهة بخرافات رضعناها من ثدي أمسنا، وترهات اقتبلناها من كف يومنا، فالناقد الذي يقدر أن ينتشلنا من خرافات أمسنا وترهات يومنا، والذي يضع لنا اليوم محجة لندركها في الغد، هو الرائد الذي سنتبعه والحادي الذي سنسير على حدوه.

ويقول: (إذا لم يكن للناقد من فضل سوى رد الأمور إلى مصادرها، وتسميتها بأسمائها لكفاه ذلك ثواباً. إلا أن فضل الناقد لا ينحصر في التمحيص والتثمين والترتيب، فهو مبدع ومولد ومرشد، مثلما هو ممحص ومثمن ومرتب.

(هو مبدع عندما يرفع النقاب في أثر ينقده عن جوهر لم يهتد إليه أحد، حتى صاحب الأثر نفسه.

هو مولد، لأنه فيما ينقد ليس في الواقع إلا كاشفاً نفسه.

وهو مرشد، لأنه كثيراً ما يرد مغروراً إلى صوابه؛ أو يهدي شاعراً ضالا إلى سبيله.

(رب ناقد لم ينظم في حياته بيتاً، ولا عرف ما في النظم من مشقة الأوزان والقوافي؛ ول في لذة الفوز بها؛ غير أن ذلك لا يعوقه عن إدراك ما في الإفصاح عن عوامل النفس من لذة روحانية، ولا يعميه عن تموجات الألوان في الرسوم الكلامية، ولا يصمه عن رنة الألحان في مقاطع الألفاظ والعبارات.

والناقد في إمكانه الدخول إلى مستودع روح الشاعر، وتفقد مخبئاته إلى أن تتولد فيه حالة نفسية كالتي تمخضت في الشاعر بتلك القصيدة؛ فيصبح الناقد كأنه الشاعر وكأن القصيدة من وضعه.

(إن حظ الناقدين من دهرهم قليل، فهم لا يرضون فريقاً من الناس إلا بإغضاب فريق آخر، غير أن القوي بينهم - والقوي من أخلص النية - لا يحفل بمن يرضى وبمن يغضب، لأنه يخدم غاية أكبر من رضاء الناس وسخطهم، ويتمم وظيفة هي من أهم وظائف الحياة. .) ويضيف الأستاذ العقاد على هذا التعريف الشامل للناقد فيقول: (عمل الناقد تصحيح كثير من مقاييس الأدب، وإن من يصحح مقياساً للأدب فقد يصحح مقياساً للحياة).

(. . . كلنا يتكلم عن الشعر؛ بعضنا يؤلهه، والآخر يعشقه والثالث يقرضه، والرابع يقتات ويتنفس به، هذا يشحذ ذاكرته بالمعلقات والموشحات والخاليات واللاميات، يرددها في وحدته ويتلوها على مسمع أصحابه، وذاك يكتب القصيدة بعد القصيدة يستعد لأن ينشر درر أفكاره في (ديوان). . . فلا بدع فنحن من سلالة قوم هم، إذا مات منهم شاعر قام شاعر. . . نحفل بالشعر لأنه لغة النفس وترجمان عواطفنا وأفكارنا. . .) والشاعر هو نبي وفيلسوف وموسيقي وكاهن.

نبي: لأنه يرى بعينه الروحية ما لا يراه كل البشر.

ومصور: لأنه يقدر أن يكسب ما يراه وما يسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام.

وموسيقي: لأنه يسمع أصواتا متوازنة حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة.

وكاهن: لأنه يخدم إلهاً هو الحقيقة والجمال.

. . . إن روح الشاعر تسمع دقات أنباض الحياة، وقلبه يردد صداها، ولسانه يتكلم (بفضلة قلبه).

(ليس الشاعر من يخلق عواطف ويولد أفكاراً، إنما الشاعر من يمد أصابع وحيه إلى أغشية قلوبكم وأفكاركم، فيرفع جانباً منها، ويحول كل أبصاركم إلى ما انطوى تحتها فتبصرون هناك عواطف وتعثرون على أفكار. . . هي أفكاركم. . ثم يترككم وإياها تستجلون ألوانها، وتتفحصون معانيها. . . عندها تستفيق أنفسنا إذا شعرت برعشة الحياة في داخلها، لأن الحياة فينا لا خارجا عنا، وما التأثيرات التي تحدثها فينا الطبيعة أو الحياة الخارجية إلا منبه لما كمن في داخلنا من العواطف والأفكار)

(الشاعر ترجمان النفس والشعر لغتها. . . خيال الشاعر حقيقته. . . الشاعر الذي يستحق أن يكون شاعرا لا يكتب ولا يصف إلا ما تراه عينه الروحية، ويختمر به قلبه حتى يصبح حقيقة راهنة في حياته ولو كانت عينه المادية قاصرة عن رؤيته.

. . . بين شعرائنا المعاصرين الذين في شعرهم مدى، أي قوى التفكير والعاطفة والبيان، شاعر أقل ما يقال فيه إن لشاعريته وجهاً يميزها عن كل شاعرية، ولألحانه رنة تعرف بها بين سائر الألحان، وفي كل ما ينظمه نكهة تختلف عن كل نكهة. وبعبارة أخرى، إن في شعره شخصية لا تندغم في شخصية أحد من الشعراء. . .

ما هو الشعر؟ هو نسمة الحياة. والذي أعنيه بنسمة الحياة، ليس إلا انعكاس بعض ما في داخلي من عوامل الوجود في الكلام المنظوم. والشعر الذي ينزل بفكري إلى أغوار تحتها أغوار، ويعلو به إلى سماوات تلوح من ورائها سماوات، ويفتتح لخيالي آفاقا خلفها آفاق، ويفسح لعاطفتي مدى يجرها إلى أمداء، هو الشعر الذي تستأنس به روحي، وتتفتح له براعيم الحياة في داخلي. ولا بد للشعر من عاطفة وخيال يجعل من الشعر والموسيقى توأمين

ما هي الغاية من الشعر؟ قوم يقولون إن غاية الشعر محصورة فيه ولا يجب أن تتعداه (الفن لأجل الفن) وآخرون يقولون إن الشعر يجب أن يكون خادما لحاجات الإنسانية، وإنه زخرفة لا ثمن لها إذا قصر عن هذه المهمة. ولهذين المذهبين تاريخ طويل. . . إنما نكتفي أن نقول إن الشاعر لا يجب أن يكون عبد زمانه ورهين إرادة قومه. ولكننا نعتقد أن الشاعر لا يجب أن يطبق عينيه ويصم أذنيه عن حاجات الحياة وينظم ما توحيه إليه نفسه فقط، سواء كان لخير العالم أو لويله، وما دام الشاعر يستمد غذاء لقريحته من الحياة، فهو لا يقدر إلا أن يعكس أشعة تلك الحياة في أشعاره. . . لذاك يقال إن الشاعر ابن زمانه.

يطول بي القول إذا أشرت إشارات عابرة، أو وقفت هنيهة عند كل ما يستوجب الوقوف حياله من مواضيع هذا الكتاب الذي لا تبلى جدته، ولا تنصل ألوانه. ويكفي أن أشير إلى موضوعات لا مناص للأديب من قراءتها وإملاء الذهن منها، كموضوع (محور الأدب) و (الرواية التمثيلية العربية) و (المقاييس الأدبية) و (الحباحب) و (نقيق الضفادع) و (الزحافات والعلل) فكلها موضوعات تشخص الأدواء، وتداوي العلل، وتهول بالمبضع والمشرط على الضعفاء من الشعراء والكتاب.

من أوجه خصائص الأستاذ الكبير ميخائيل نعيمة أنه لم يكن في (غرباله) الخالد موضوعياً بحتاً ولا ذاتياً بحتاً، ولا متشرعا يسن السنن ويقنن القوانين، بل كان (معلما) وقف فوق المنبر وقد أخذته الغيرة على الأدب، وثارت نخوته، نخوة الخائف على نهضة العصر أن تلوث في باكورة انبعاثها، فراح يصرخ صرخات الصدق والإخلاص، ويشرح مؤلفات الأدباء والشعراء المعاصرين، على طريقة المثال لا الحصر، ولم يكن (مقلدا قط) بل كان (نعيميا) أي نسيج وحده في القوة والتمييز والابتداع والخلق والرفق والشفقة، وما كان قط مموهاً أو ممالقا، لأن المموه الممالق ليس بأديب ولا بمخلص للأدب، ولو كان من كبار الكتاب والشعراء والمؤلفين.

حبيب الزحلاوي