مجلة الرسالة/العدد 672/هذا العالم المتغير:

مجلة الرسالة/العدد 672/هذا العالم المتغير:

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1946



الصم يسمعون بعيونهم

للأستاذ فوزي الشتوي

قد لا تمر فترة قصيرة حتى يسمع الصم بعيونهم، أو بطريق آخر سيقرءونبعيونهم ما تنطقه شفتاك، وليس من الضروري أن يروك، بل تستطيع أن تحدثهم بالتليفون فيقرءوا صوتك بذات الطريقة التي تقرأ بها هذه الكلمات

وقد يبدو لك هذا الحديث غريباً، فتعال معي إلى أحد المعاهد الأمريكية لنرى رجلا ولد أصم، ومع ذلك يتحدث بالتليفون إلى أحد معارفه عن طريق جهاز حديث يحول الحديث إلى مركبات. وكان الأصم يرقب لوحة صغيرة تترجم عليها الأصوات إلى صور أمواج ظاهرة تتباين باختلاف مقاطع الحروف والألفاظ فيعرف هو معناها ويجيب عنها بصوته كأي إنسان عادي

فالصوت - كما تعرف - يبدو في لغة الطبيعة أمواجاً، وهي نفس النظرية التي تنقل إليك الأصوات في المذياع وفي آلة التليفون، ولكنه بدل أن ينعكس ويرد إلى أصوات تسمع يسجل في الموجات المرئية كما هي في الطبيعة بالاستعانة بصمام يشابه الصمامات المستخدمة في المذياع المصور (التليفزيون)

وهذا الجهاز الجديد في حجم الآلة الكاتبة الجديدة، وعلى لوحته يرى الأصم أمواج صوت محدثه كما يرى أمواج صوته هو، فيصحح أخطاءها إن حدثت، فإنك تعرف أن الأصم غالباً ما يكون أخرس أيضاً، ولا سيما إن كان الصمم قد أصابه وهو صغير فلم يتعلم مخارج الحروف ولا طرق النطق. فتعليم اللغة وإتقانها عادة نحصل عليها بالتقليد، كما أن القراءة والكتابة عادة أيضاً نحصل عليها بالمران، وما هو معروف بطريقة الخطأ والصواب

فالطفل في مهده يسمع أباه وأمه وجيرانه يتحدثون ويحاول تقليدهم، فمرة يصيب ومرات يخطئ، ويستفيد من خطئه كما يستفيد من صوابه، لأنه ينحو إلى تصحيح أخطائه في النطق كما يطمئن إلى نطقه المضبوط، وبالتكرار يتعوده ويصبح جزء منه ومن ثم تختلف اللهجات كما تختلف فإن كان الطفل أصم فهو لا يسمع، ومن ثم لا يقلد، أو بطريق آخر يصعب عليه أن يتعلم الحديث فنطلق عليه لقب أخرس؛ ولكن البلاد التي تعنى بتوفير الرفاهية لأكبر عدد ممكن من شعبها تسعى لتذليل هذه العقبة، ومن ثم ظهرت في أمريكا مدارس لتعليم الأطفال قراءة الشفاه، فإذا لعبت شفتاك أمام عيونهم عرفوا ما تقول وأجابوك فلا تكاد تحس بأنهم صم.

ورسم الكلمات أيضاً شيء اصطلاحي تواضع عليه أبناء اللغة الواحدة، فالعربي يرسم الفتحة الطويلة شرطة عمودية نعبر عنها بالألف، ويختلف عنه الإنجليزي أو الصيني وإن كان الجميع يتفقون تقريباً في نطقها. والطبيعة لا تعرف ما تواضع عليه الناس ولها كتابتها الخاصة التي تصور بها مخارج الألفاظ ورسم الحروف.

وكانت كتابة الطبيعة للألفاظ معروفة. ولكنها كانت كثيرة التفاصيل يعز على الناس التفريق بينها وفهمها فهماً دقيقاً حتى تيسر أخيراً تبسيطها باستخدام مرشحات تبرز المقاطع الواضحة، فمن سياق المعنى تعرف ما أقصد بكلمة (كتب) إن كانت كتب أم كتب إلى غير ذلك من الألفاظ.

ولهذا التبسيط ميزته إذ هو يزيل اختلاف اللهجات، فأجريت تجربة على ستة أفراد - ثلاثة رجال وثلاث سيدات - ولكل منهم لهجة تخالف لهجة الآخرين ونطق كل منهم بكلمة واحدة فكان شكل الموجة الصوتية واحداً في الحالات الست برغم اختلافهم في نطقها وحدتها ووضوح النبرات أو اندماجها.

وتكتب الطبيعة المخارج الصوتية بطريقة تخالف الطرق الإنسانية وتبذها في التعقيد، فبعض الألفاظ تظهر كثلاثة خطوط أفقية في أعلى اللوحة وخط في أسفلها وبعضها يبدو كالقارب أو مثل الثعبان مما يتطلب مراناً لا يقل عن المران الذي يتطلبه تعليم وسائلنا في كتابة اللغات البشرية.

وقد قدر تعليم الصم قراءة الكتابة الصوتية بقدرتهم على تعليم لغة حركات الشفاه، فوجد أن الأولى أصعب ولكن مواصلة المران لبعض أفراد فريق التجارب الأول أن يتلقى الإشارات التليفونية كأي إنسان عادي.

ومنذ فترة قصيرة أجريت تجربة هذا الجهاز أمام فريق من رجال الصحافة وكان المتحدثان رجل اسمه بلوم وامرأة اسمها جرين ولدا اصمين، خاطبته السيدة بقولها: (أهلا وسهلا يامستر بلوم. . . وكيف حالك). أجابها على الفور (إنني بخير يا آنسة جرين أشكرك) واستمر الحديث بينهما مدة تناولا فيها عدة موضوعات وهما متفاهمان كل التفاهم.

ولا تزال هذه الطريقة في تيسير الحياة للصم في مرحلة التجارب وإن كانت الخطوات التي خطتها واسعة يسرت كثيراً من العقبات؛ ولكن القائمين بأمرها يعتقدون أنها ستكون من خير الوسائل لتعليم الأطفال الصم وستخفف كثيراً من العناء الذي يلاقيه من يدربونهم على الحديث ويلقنونهم العلوم.

وهم يسجلون جميع المراحل التي تتناول صقل الجهاز وتبسيطه كما يسجلون مراحل تعليم الأفراد أيضاً ويقارنونه بشتى وسائل التعليم ليعرفوا أخطاءها فينقحوها، وبواسطة هذا الجهاز تيسر إصلاح النطق الفاسد في بعض الصم وإتقانه مما يبعث على الأمل في تعليم الصم في فترة أقصر.

ويتعلم الطفل الأصم في سنته الأولى نطق ستة ألفاظ فقط، فإذا بلغ سنته الثالثة في المدرسة تعلم نطق 50 كلمة، بينما الطفل العادي يتعلم في ذات الفترة 3000 كلمة وهو فرق كبير سيخفف منه ولا ريب رؤية الأطفال تصور موجات ألفاظهم الصوتية ومقارنها بصور الألفاظ الصحيحة.

وأهمية هذا الجهاز الكبرى في سهولة تعليم الأطفال أن ولدوا صما فنادراً ما يتاح للطفل الحصول على أي جانب من التعليم فيظل جاهلا طول حياته ويتعذر عليه أن يجيد صناعة يكتسب بها رزقه فضلا عن إحساسه بالنقص وتكوين مركبه في نفسه مما يقصيه عن المجتمع. وأعرف شابا بلغ العشرين من عمره ولكنه يهرب من أي إنسان يحاول الاتصال به فقد كون لنفسه بما رآه في صغره فكرة جعلته سيئ الظن بالمجتمع وأناسه.

ومن أكبر المشاكل التي يعانيها والده كيف يوفر له الحياة وسبل العيش في الحال وفي المستقبل؛ فالأب يعول همه وهو حي وبعد أن يموت، ولم يدرك وسيلة يمهد بها لمستقبل هذا الابن الذي لا يحسن عملا وليس في وسعه الانخراط في مهنة.

ومثل هذا الأشكال موجود في كثير من بيوتنا المصرية وغير المصرية ولا ندري كيف نحله ولكن تهذيب هذا الجهاز ووضعه في متناول الناس سيتيح فرصة تعليم الأبناء الصم؛ فهم حين يحسنون الكلام يحسنون القراءة أيضاً، وعندئذ تتفتح أمامهم أبواب الفنون والعمل فيعرفون ما يقوله المدرس وأصحاب العمل

وقد تيسر بوسائل أخرى مكافحة الصمم فخرج من أبنائه المهندسون والأدباء وأصحاب حرف شتى وهم يمتازون دائما بدقتهم وحذرهم مما يعد نتيجة طبيعية لعلتهم.

ولم يزل هذا الجهاز في مرحلة التجارب. وفي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها مائة ألف طفل مصابين بالصمم الكامل وعن طريقه يرجو الأخصائيون تخفيف متاعبهم وجعلهم أعضاء عاملين في مجتمعهم.

ومن البديهي أن الاستعانة بمثل هذا الجهاز ستوفر على كثير من الصم ونتيح لهم حياة أفضل حتى لا يكاد الإنسان يشعر بعلتهم، كما أنهم هم سيشعرون بأن العالم أقل غبنا لهم وأكثر ابتساما، ففي وسعهم بواسطته رؤية التمثيل والسينما وإدارة الأعمال بغير وسيط.

فوزي الشتوي