مجلة الرسالة/العدد 674/العصبية المعهدية

مجلة الرسالة/العدد 674/العصبية المعهدية

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 06 - 1946



للأستاذ عبد الحميد يونس

في هذا الوقت الذي تلغى فيه الحدود الجغرافية نفسها على عتوها وجبروتها، وتتقارب الجماعات البشرية التي طال اصطراعها حتى أصبح التاريخ الإنساني كله عبارة عن سرد متصل لمشاهد حروبها وأهوال أيامها؛ بل وفي الوقت الذي تغلب فيه الدعوة إلى العدالة الاجتماعية سائر الدعوات فتعمل على محو الفروق بين الطبقات، أو التقريب فيما بينها على الأقل؛ أقول في هذا الوقت تقوى في مصر عصبية خطيرة تخلق طبقات جديدة وتنشر الإحن والأحقاد في نفوس الأفراد والجماعات

ومن عجب أن هذه العصبية تفرق أولاً وقبل كل شيء بين المتعلمين على الرغم من أن المصادفة وحدها جعلت المتعلم متعلماً والجاهل جاهلاً، وكان الأحجى أن يتقارب الاثنان ويأخذ الفاقد من الواجد، ولا أقول يعطي الواجد الفاقد

وفرقت هذه العصبية كذلك بين المتعلمين أنفسهم، فجعلتهم طبقات، واخترعت لهذه التفرقة مراحل وأقسماً، فهؤلاء هم أهل الطبقة الأولى، وهؤلاء أهل الطبقة الثانية، وأولئك أهل الطبقة الثالثة. . . وهكذا

ولم تكتف هذه العصبية الوبيلة بذلك، بل راحت تفرق الطبقة الواحدة شيعاً وأحزاباً لا تتعاون فيما بينها، لأن الأحقاد والإحن هي أساس وجودها والباعث على بقائها واطراد نموها.

ترى ما هذه العصبية الحمقاء التي صورتها بهذه الصورة المنكرة؟ هذه العصبية هي التي سميتها (العصبية المعهدية)، ولطالما نبهت إليها وحذرت منها، فلم يأبه للتنبيه والتحذير أحد، لأن الكل متهم بها، منتفع من وجودها، وعامل على إذكائها.

هذه (العصبية المعهدية) هي السر فيما تسمعه كل يوم من أن طائفة بعينها، أو قسماً بعينه يريد أن يسوي بينه وبين طائفة أخرى وقسم آخر في بعض المزايا والحقوق؛ أو أن أبناء معهد بعينه ينكون على أبناء معهد آخر ما يضطلعون به من جهد وما يقومون به من عمل، وكأنما العلم بضاعة يحتكرها أولئك دون هؤلاء، والقوامون على مرافق هذه الأمة يساعدون أحياناً، عامدين أو غير عامدين، على تقوية هذه العصبية بتفضيل طائفة من المتعلمين على غيرها، أو معهد من معاهد التعليم على غيره، وفيهم من تأخذه عنجهية هذه العصبية إلى أبعد مدى، فيحتكر العلم أو التعليم لأبناء طائفته أو معهده

ولعل من المضحكات أو المبكيات ما روى من أن مصلحة من مصالح الحكومة أرادت أن تتحرى العدالة في اختيار في اختيار موظفيها لتبرأ من المحسوبية المتفشية في الدواوين وغير الدواوين، فعقدت امتحان مسابقة تختبر به كفايات المتقدمين ومقدار صلاحيتهم للأعمال التي ستناط بهم وتوكل إليهم، ولم يكن العمل يتطلب تخصصاً ضيقاً، وتقدم إلى هذا الامتحان جمع من معاهد شتى، وانقضت أيام وأعلنت النتيجة، فإذا الأول من معهد، والثاني والثالث والرابع من معهد آخر، فاختار مدير المصلحة الثلاثة دون الأول، لأنهم من المعهد الذي تخرج فيه، فهم لذلك دون غيره أصلح للعمل معه!

ولا تظنن أن هذا المثال الفريد في بابه، فكثير مثله يجري كل يوم في كل مصلحة وفي كل عمل، يختار المتعلم من هذا المعهد دون سواه، لأن رؤساءه منه، أو لأنه ينتمي إلى طائفة قد أصبحت طبقة يجب أن يعمل حسابها ولا يستغضب أبناؤها، ولسنا نبالغ في تجسيم هذه العصبية المعهدية وبيان أثرها مبالغة المتعصبين المعهديين في امتداح أنفسهم وطوائفهم ومعاهدهم، والحط من قدر الآخرين وطوائفهم ومعاهدهم، وذكر العنت الذي يقع عليهم دون سائر الناس

ألم يبلغك الخلاف الذي قام بين خريجي المعلمين العليا ومعهد التربية، والانتصاف لهؤلاء مرة ولأولئك أخرى، لأن مقاليد الأمور كانت في يد هؤلاء مرة وأولئك مرة أخرى؟!

ألم يبلغك الخلاف الذي قام قبل ذلك بين هؤلاء المعلمين وبين الجامعيين والذي لا تزال له آثاره حتى اليوم؟

ألم يبلغك الخلاف الذي قام بين بعض الجامعيين وأبناء دار العلوم، وما له من أثر وبيل إلى يومنا هذا؟!

ألم تقرأ عن هذه الحرب الشعواء بين أبناء الأزهر وأبناء دار العلوم، والتي اتخذت لنفسها صوراً وأشكالاً لم يكن الشعب المصري يألفها من قبل؟

اختر لنفسك أي مدرسة من مدارس هذا القطر من الإسكندرية إلى أسوان للبنين أو للبنات، واختبر حالة المعلمين والمعلمات، فسيأخذك الدهش من كل جانب لأنك ترى هؤلاء الذين يعيشون للعلم وللتعليم أحزاباً متنافرة، لا لشيء إلا لأن كل فريق من معهد، وقد أدت سياسية الارتجال وأنصاف الحلول والإصلاح المؤقت واسترضاء الطوائف إلى أن يتخرج المعلمون في المدرسة الواحدة من أكثر من خمس معاهد لا يدعو التخصص وحده إلى هذا التفريق فيما بينهما، فأنت واجد مدرسي اللغة العربية المتخرجين في الأزهر ودار العلوم وكلية الآداب، وأنت واجد في المدرسة نفسها أبناء معهد التربية العالي والابتدائي معاً، إلى جانب خريجي المعلمين العليا، وهم جميعاً يدرسون مجموعة واحدة من المواد. وكذلك الحال في مدارس البنات، فخريجات السنية والمعاهد الإضافية إلى جانب الجامعيات وخريجات معهد التربية الابتدائي، وهكذا. . . ولكل فريق من هؤلاء رؤساء يذكون في عصبية ويساعدونه في وجدوده وارتقائه

وأفرخت هذه العصبية عصبيات أخرى من نوعها وإن كانت أصغر وأقل شأناً، فإن المعهد الواحد قد ألزمه قانون تقسيم العمل والتخصص إلى أن يفرق طلابه على الأقسام ونشأت (عصبيات قسميه)، إذا صح هذا التعبير، ورأينا هؤلاء الطلاب إذا تخرجوا، ألفوا ما يشبه النقابات تضم أبناء قسمهم، بل ورأينا أنه إذا ابتسم الحظ لواحد منهم وجعله من أصحاب الحل والعقد في ناحية من النواحي، ضاقت نفسه بأبناء غير قسمه، وإن كانوا من معهده، ورأينا أكثر من ذلك أن رجال العلم والتعليم في هذا المعهد أو ذاك، قد يضطرهم قانون التعاون إلى أن يجتمع بعضهم وهم من أقسام شتى للقيام بعمل علمي أو اختبار طالبات أو طلاب فينتصر كل إلى قسمه وأبنائه، وإن كان ذلك تحيف على العدالة الواجبة في كل شيء وفي العلم ومعاهده بنوع خاص

نعم، إن هذه الهيئات والجامعات قد تكون لها وظيفة نقابية فتدافع عن مصالح أبناء المهنة الواحدة، وتحافظ لهم على حقوقهم، وتستغل الفرد لمصلحة الجماعة كلها، وتجند الجماعة لمصلحة الفرد من أبنائها؛ ولكن ما رأيك في أن المهنة الواحدة تتوزعاه نقابات مختلفة، وتتنازعها اتحادات شتى، تتسمى كل واحدة منها باسم (معهد)، أو حتى قسم من معهد، فأنت تجد اتحاد خريجي الجامعة، وتجد اتحاد خريجي كلية الآداب، بل واتحاد وخريجي قسم اللغة الإنجليزية، بل إن جماعة المعهد الواحد تنقسم بدورها إلى شعب، من ذلك أن لخريجي دار العلوم أكثر من ناد واحد في مدينة القاهرة وحدها وهذه العصبيات تؤرق الحكام وتضنيهم، وقد أزعجت الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وأزعجت وزير المعارف، وأزعجت وزير المالية ووزير الداخلية وسائر الوزراء، واضطرت أولي الأمر إلى إقفال هذا المعهد أو ذاك أمداً ليس بالقليل، والتلويح بالوعود لهؤلاء، والنذر لأولئك، فيرضى قوم ويغضب آخرون، وتبقى العصبية المعهدية على حالها تنخر في عظام هذا المجتمع الناشئ المتطلع وتفسد ما بين المتعلمين، وكان الأحجى بهم وبرؤسائهم أن يجتمعوا على مكافحة الفقر والجهل والمرض، وهم الذين أدبتهم الأمة للاضطلاع بهذه المهمة، لا لأن يحارب بعضهم بعضاً

والعلاج الوحيد لهذه العصبية المنكودة هو أن نأخذ الداء من أساسه ونجتثه من جذوره، فنوحد بين سبل التعليم العام أولاً، فلا نكون هناك مدارس أولية وأخرى ابتدائية تؤدي هذه وتلك إلى غيرها بنظام الحلقات المتداخلة في التعليم الذي يدرج عليه نظامنا الواهن السقيم، وأن تتوحد فرصة هذا التعليم العام المشترك لجميع المصريين، فلا يستطيعه الواجدون دون الفاقدين، ولا أبناء الحضر دون أبناء الريف، ولا المسلمون دون النصارى كما هو الشأن في بعض معاهدنا المتسمة بسمة القرون الوسطى إلى اليوم

أما التعليم العالي وما فيه من تخصص واستعداد مهني فيجب أن يكون في كليات واحدة، لا في معاهد مستقلة برأسها، والمتخرجون في هذه الكليات يجب أن يكونوا في نظر الدولة سواء، فلا ينظر رجال البوليس في شيء من الحسد إلى رجال الجيش، ولا يطلب المهندسون المساواة بالقضاة، والمدرسون المساواة بأولئك وهؤلاء، وتختفي هذه الشكايات التي تملأ أعمدة الصحف وتبرأ المنفوس من الحقد والجشع، ولا نسمع أن طبيباً أهان وكيل نيابة، أو أن طلبة الأزهر تماسكوا مع طلبة دار العلوم

عبد الحميد يونس

عضو لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية