مجلة الرسالة/العدد 674/(مرآة نفسي)

مجلة الرسالة/العدد 674/(مرآة نفسي)

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 06 - 1946



ديوان للدكتور عبد الرحمن بدوي

للأستاذ سيد قطب

1 - من نشيد البعث الوطني

ثورةٌ!

ثورةٌ!

ثورةٌ! أماه شبت من بعيد ... انظريها! إنها البعث الجديد

هبّ وادي النيل شعباً واحدا

طارحاً نيراً ثقيلاً راقدا

يطلب استقلال مصر خالدا

هبّ يحيي مجد فرعون القديم ... ينشر الآمال والنور العظيم

من مصب النيل حتى ... خط عرض الاستواء

ومن القلزم حتى ... معمعان الصحراء

صلصل الناقوس! هيا يا شباب ... هيئ المركب وامخر في العباب

في نضال ... مستحر

وبقلب. . . ... مستقر

وبعزم ... مستمر

صارع الأنواء حتى تبلغا ... شاطئ المجد العظيم المبتغي

من مصب النيل حتى ... خط عرض الاستواء

ومن القلزم حتى ... معمعان الصحراء

ودعي أماه ليثاً كاسراً ... واطلبي لي العود حراً ظافرا

واذكري - إن جاء نعيي من منادي

أنني قد مت من أجل بلادي

ميتة الأبطال في سوح الجهاد فابشري، أماه، حقاً فالمنون ... في سبيل الأرض حظ الخالدين

من مصب النيل حتى ... خط عرض الاستواء

ومن القلزم حتى ... معمعان الصحراء

2 - من تحية العلم

رفرفت في الجو طيات العلم ... فانهضوا حيوه عنوان البلاد

رمزنا! في طية مجد الوطن ... وثناياه أسارير البدن

وسجل الفخر في كر الزمن ... ولعرش المجد والعليا عماد

إنه الروح لأبدان الأمم

من صميم القلب نهديك السلاما ... ودواماً ما به تعلو مقاما

نعملن عن طيب نفس، وإذا ما ... رمت من أجلك إشعال الجهاد

فلك الأنفس تفدى يا علم

3 - من ملحمة دنشواي

وموسيقاك (يوتربا) أعدي ... (وملبومين) فيضي بالمآسي

أعيدا هذه المأساة لفظاً ... وقد كانت عياناً للأناسي

ففي الذكرى اتعاظ وانتباه ... وزلزلة تلاعب بالرواسي

بريشكما سويا صوراها ... بصبغ الزهر: ثالوث وآس

ولون البدر يعلوه شحوب ... لما يرنوه من حزن الأناسي

أقرية (دنشواي) تسام هذا ... أفردوس الطهارة قد تضام؟

أينبوع الفضائل والأماني ... يلوث ماءه العذب القتام؟

وأيم الله كدت أطير شكا ... من الدنيا وما يبلو الأنام

فأضحى زورقي في اليم يسرى ... شريداً قد تحير لا ينام

تجاذبه الرياح من النواصي ... ومن أقسى زوابعها يسام

4 - من نشيد الشهداء

لا تئنوا، لا تمنوا، لا تضنوا ... بالجهاد للبلاد نعم الاستشهاد كل هم، كل غم، كل دم ... لا يراق بانطلاق يفسد الجهاد

الضريح، يستريح، والجريح ... إن رواه من دماه كان نعم الدار

والضريح، لا يريح، الطريح ... إن سكنا واستكنا صار ويل النار

القداسة. . . بالحماسة، والنجاسة ... بالسكون والركون بئس الاستسلام

كل فيض بعد غيض، كل روض ... بعد حزن بعد مزن فاتركوا الأحلام

يا شباب الذئاب بالغلاب ... والفداء والدماء تترك الأوطان

الجلاء لا يفاء بالرجاء ... بل بقهر ثم نصر ثابت الأركان

5 - من رؤيا ملاك

يا ملاكي! طار بالروح إلى ... ملكوت الرب منطاد الخيال

فرأت فيما تخطى زحلاً ... منظراً قد فاض تيها بالجلال

يتجلى في الفراغ اللا نهائي ... جمع أجرام تغني وتدور

ترسل الألحان من سحر الغناء ... فيسود السحر في كل الأثير

كل جرم خلف جرم يتغنى ... كفراش حول مصباح يحوم

أو زنابير تجاه السقف تفنى ... في حديث مستفيض وتهيم

6 - مناجاة

سألت لبى: إلام حبي ... فقال قلبي: مدى البقاء

بذلت جهدي، فصنت عهدي ... وعشت وحدي على الشقاء

حطمت روحي، وهجت لوحي ... فلا تبوحي، بذا الغرام

جلوت شوقاً، وكان برقاً ... أكان حقاً، فما المرام

سألت سمعي، منال لوعي ... فكان دمعي، لك الجواب

رميت نفسي، بقاع يأسي ... فصرت أرسي، على تباب

طغى سقامي، على كلامي ... وما ملامي، سوى ابتهال

غدوت معنى، أشاع لحناً ... وحل مبنى، من الخيال

هفا حنيناً، فرد حيناً ... فصار ديناً، له الصلاة فأنت ربي، سكنت قلبي ... بفضل حبي، مدى الحياة

أقسم بالله العظيم، أن هذا الذي مر بك - أيها القارئ - هو من عمل الدكتور عبد الرحمن بدوي، نشره بتوقيعه في كتاب مطبوع بمطبعة الاعتماد سنة 1946 تحت عنوان مرآة نفسي ديوان شعر. تأليف عبد الرحمن بدوي) وأنني لم أكن كاذباً ولا مدعياً ولا مزوراً، ولم أدس شيئاً على (الشاعر) لم يثبته في ديوانه؛ وأنني لم أقصد إلى (القذف في حقه) ولا (التشهير به) بنسبة هذا الكلام إليه!!!

ولقد هممت أن أثبت هذه النصوص (بالزنكوغراف) لتكون شاهدي إذا خطر للنيابة العامة أن تقدمني إلى المحاكمة بتهمة (القذف) في حق الدكتور بدوي. وتعريفها: (نسبة أشياء إلى شخص بحيث لو صحت لأوجبت احتقاره بين أهل وطنه)!

ولست أتعمد الإساءة إلى هذا الشاب الذي نشر هذا الكلام بل الحق أنني قد أكون شديد الإعجاب - إلى حد الدهش - بجرأته الخارقة!

إنه مدهش!

مدهش أن ترتفع جرأته النادرة إلى حد أن يواجه الناس بهذا الكلام، وينشره في ديوان، ثم لا يقدمه إليهم في تواضع ويدع لهم أن يقبلوه أو يرفضوه، بل يطلع عليهم به في ادعاء عريض ويقدمه إليهم بإعلانات غريبة عن العبقرية والآفاق الجديدة التي لم تخطر لهم ببال!

كل هذه الفهاهة في التفكير والتعبير؛ وكل هذه الركة في النظم والأداء؛ وكل هذه الأخطاء اللغوية. . . وكل هذه البراءة من الحساسية الموسيقية والذوق التعبيري؛ وكل هذه التفاهة الصبيانية في الحس والتصور. . . وكل هذا الإعياء حتى في النظم اللفظي. . .

كل هذا. . . وينشر سنة 1946 لا سنة 1820 أيام كانت هذه اللغة (الوقائع المصرية) ولغة جماعة من الأرمن المستعربين!

إنها جرأة تستحق الإعجاب بكل تأكيد!

ولفت نظري في القصيدة الأخيرة (مناجاة) أنه يقول عنها (وهذا ضرب جديد من النظم. وفيه كل بيت مقسم ثلاثة أقسام مقفاة بقافية واحدة)

لفت نظري هذا؛ لأن هذا الضرب قديم يعرفه كل من قرأ شعراً قديماً. . . ثم لقد نظم منه (الغول) الذي نعرفه جميعاً في (حواديت) العجائز.

فالدكتور عبد الرحمن بدوي يقول:

طغى سقامي، على كلامي ... وما ملامي، سوى ابتهال.

والغول يقول:

لولاش سلامك، سبق كلامك ... لكلنا لحمك، قبل عظامك

مع فارق صغير في ترتيب المقاطع بين (شعر) الدكتور بدوي و (شعر) الغول

ولقد كنت أقرأ بعض ما ترجمه الدكتور عبد الرحمن بدوي من الشعر الغربي فأحس هذه الفهاهة وهذه الركة، فأقول: لعله اضطراب فهمه للنصوص وعدم قدرته على التعبير عنها تبعاً لهذا الاضطراب. . .

فلما قرأت (مرآة نفسه) عرفت السبب وتبينت العلة. ورثيت للمساكين الذين مروا بهذه المرآة حين ترجم لهم هذا الشاب العجيب!

لقد علمت أن سائلاً سأل ناشر هذه الكتب: من الذي يقرأ كتب الدكتور بدوي؟ فكان جوابه: إنها تقرأ في العراق. . .!

وإنني لأسأل بدوري: ترى هذا الديوان كذلك قد طبع للعراق. . .؟

ومعذرة لإخواننا العراقيين. فناقل الكفر ليس بكافر. . . وفي وسعهم أن يدافعوا عن أنفسهم ضد هذا الاتهام!

وبعد فمعذرة للقراء! إنهم لم يعهدوني أكتب بهذه اللهجة عن أحد ولا عن عمل أدبي كذلك.

ولكنني هنا لا أكتب نقداً، ولم أقصد إلى شيء من ذلك ولم أكن لأملك أن أكتب بأسلوب الناقد الجاد. . . إن مجرد الحديث في لغة الجد والنقد عن مثل هذه (المساخر) لهو احتقار للشعر والأدب والنقد، واحتقار للصحيفة التي أكتب فيها، وللناس الذين أكتب لهم.

هذه (عَمْلةٌ) لا يجوز أن تمر. فهي استهتار يتجاوز حدود الجرأة، ولا بد أن يوضع حد لهذه (المساخر) بأية طريقة

وإذا كان القانون لا يملك - مع الأسف - أن يعاقب على مثل هذا الاستهتار فيجب أن يرد الناس عن أنفسهم هذا الاحتقار. فما يجرؤ إنسان على نشر مثل هذا الكلام بمثل هذا الادعاء إلا أن يحتقر نفسه أو يحتقر القراء.

سيد قطب