مجلة الرسالة/العدد 674/شيخ في مرقص!

مجلة الرسالة/العدد 674/شيخ في مرقص!

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 06 - 1946



للأستاذ علي الطنطاوي

- 2 -

(إلى كل شاب تريده نفسه على الإثم، ويدفعه دينه إلى العفاف،

وتسهل له دنياه طريق الفجور، وتوعر عليه سبيل الزواج. .)

قال: لما كانت تلك الهدأة، وسمعنا صوت الشيخ الوقور الخاشع يطل علينا من فرجة الضجيج، كما يطل شعاع البدر من خلال السحاب الداكن في الليلة الداجية، تبيناه يدعو الله، لا كما يدعوه خطباء الجمعة على المنبر، ذلك الدعاء الرسمي الذي يستحضرون به هيبة الناس أن يمسكوا عليهم لحنه أو حبسه، وهيبة الحكام أن يبلغهم عنهم أنهم نسوا ذكرهم أو قصروا في تعظيمهم أكثر مما يستحضرون في نفوسهم هيبة الله، بل دعاء مسلم يعلم أنه يخاطب رب الأرباب، فلا يعلق أمله إلا به، ولا يرجو غيره ولا يرهب سواه. وأشهد أن الله فتح لدعائه أبواب السماء، وأنه قد استجاب له لأننا وجدنا اثر الإجابة في رقة قلوبنا، وما عهدناها ترق ولا تلين، وفي انصباب دموعنا برغمنا، وبكائنا على نفوسنا، وكان إذ يقول (يا الله) تحس أن قلبه قد خرج من صدره بهذه (الهاء) التي تمشي في الجو مبللة بدموع الخشية، فتنعش القلوب وتحييها. .

ثم قال الشيخ: لا تقولوا إنه مرقص، فما المرقص لمن يدعو الله خاشعاً صادقاً وهو يبكي على خطيئته إلا مسجد مبارك، وما المسجد لمن يدعو بلسانه وقلبه معلق بالشهوات وفكره باحث عن سبل الموبقات إلا ملهى، وما كان الله لينظر إلى صوركم وأزيائكم وهندسة عماراتكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم. وكم في الأسواق والقهوات والسينمات من ولي لله كتب له بإخلاصه حسن الخاتمة! وكم في التكايا والزوايا من ولي للشيطان يرائي بالدين ليأكل الدنيا!

ثم تكلم عن الدنيا كلاماً عجيباً، وساق أحاديث لم أحفظها، وأخباراً من أخبار الصالحين، قلبت والله قلوبنا، والله مقلب القلوب، فعظمت في عيوننا ما كنا نحقره قبل ساعة واحدة، وحقرت ما كنا نبالغ في تعظيمه، وأرتنا هذه الدنيا صغيرة، حتى لكأنما هي حقاً جناح بعوضة!

ثم أخذ في الكلام عن (الشهوة الجنسية)، فحفظت من كلامه شيئاً من هنا وشيئاً من هناك، لا أستطيع أن آتى به على نسق، فأنا أقدم فيه وأؤخر، وربما أخللت بمعنى أو أخطأت في لفظ، فلا تأخذه هو بخلل أو خطأ مني!

وكان مما قال:

إن الله ركب هذه الشهوة في الإنسان، وجعل لها سراً عجباً من العجب، وسرها أنك وضعتها في موضعها، واتقيت الله فيها، سكنت واستقرت، وربحت مع السكينة والاستقرار الصحة في الدنيا والجنة في الآخرة، وإذا أنت أطلقتها ولم تقيدها بقيد الشرع والخلق، لم تزل هائشة هائجة كالنار كلما زدتها حطباً زادت للحطب طلباً، ثم إنك معها كالذي يطلب الماء من السراب لا يزال في عناء وظمأ، وكلما اشتد طلبه زاد عطشه ونصبه، والسراب عنه بعيد!

يرى الفاسق المرأة، فيملأ منها بصره، فيتبعها قلبه، فلا يزال يتخيل فيها المفاتن، ويتوهم في وصالها الملاذ، حتى يعتقد أن لذائذ الدنيا كلها ومسراتها قد اجتمعت في لقائها، وأن آلامها كلها في بعدها، ويجعلها مطلبه من دنياه، ويجن بها جنوناً. . . فإن هو استطاع الوصول إليها، وجد اللذة بها (نصف دقيقة) من الزمان. . . ووجد أنه لم يشبع منها، ولم ينل من وصالها ما كان يصور له وهمه. . . فيعود إلى التفكير فيها. . . وإلى تخيل اللذة بلقائها. . . ويتوهم أنه سيحظى هذه المرة بما فاته المرة الأولى. . . فإذا عاد إليها عادت إليه خيبة الأمل. . ولا يزال هذا دأبه معها حتى يملها وببأس من أن يجد عندها لذته الموهومة فيتعلق بسواها. . ولو أنه قارب ألف امرأة، ثم رأى واحدة أخرى، لعلقها وظن أن طلبته عندها. . فلا يشبع أبداً ولا يستريح!

وما هي لذة الوصال؟ إنها ليست في هذا التقارب الجسمي، كلا. . . إنما هي في انفصال القلوب. وإن عباس بن الأحنف هو عندي أدق شعراء الدنيا إحساساً بالمرأة، وأعظمهم بالحب معرفة، وأحسنهم لجوع العاطفة تصويراً حين يقول:

أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني؟!

وألثم فاها كي تزول حرارتي ... فيشتد ما ألقي من الهيمان كأن فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن يرى الروحين يلتقيان

وما يعانقها على الحقيقة فقط، ولكن على المجاز، فما يروي ظمأ نفسه إلى الحب ذلك (العناق)، وأنه يتمنى أن لو قطعها عضاً، وأن لو أفناها فيه، حتى عادا شخصاً واحداً. . . وذلك ما لا يكون!

لا. . . ما في إطلاق الشهوة من راحة ولا شبع، وإن نساء الأرض كلهن لا يرضينها، وامرأة واحدة بالحلال ترضيها وتشبعها. وهب أن رجلاً وسعته أحواله وأمواله أن يمد يده حيث شاء. . . أفتسعه صحته؟ هل يحمل جسمه أثقال هواه؟ إنه لا بد أن تجيء ساعة يعجز فيها ويرتد مريضاً وانياً يشتهي (الشيء) ولا يقدر عليه، ويقعد بالحرمان، فلماذا لا يرتد عن الإثم صحيح الدين والجسم والشرف؟ أليس ذلك خيراً له من أن يجمع على نفسه الحرمان والمرض وجهنم؟!

وإن من بديع صنع الله أنه لم يخلق امرأة تشبه في جمالها الأخرى، فالنساء مختلفات، ولكن طعم المتعة بهن واحد لا يختلف، وما فرق بين هذه الراقصة وبين امرأتك إلا أن الأولى تأتيك على جوعك بالرغيف قد لفته بمنديل الحرير، ووضعت المنديل في شملة، وألقت الشملة في صندوق من الفضة المذهبة، وجعلت حول الصندوق الورق الشفاف، فأنت كلما رفعت حجاباً من هذه الحجب اشتد جوعك، وشوقك إلى ما وراءها. . . فإذا بلغت الرغيف حسبته قد قطف من قمح الجنة، ثم طحنته الملائكة، ثم عجنته بأيديهن الحور العين. . . وتلك تأتيك بالمائدة الحافلة مكشوفة ظاهرة. . . وأنت لا تأكل المنديل ولا الشملة ولا الصندوق، إنما تأكل الرغيف، وأنت لا تريد هذه الثياب ولا هذه الأنوار. . . إنما تريد المرأة، ولعل امرأتك أبهى منها وأجمل!

وهب أن هذه أطرى جسماً، وأحلى وجهاً، وأقدر على الفتنة، فمن قال لكم إن الجمال هو هذا؟ هو الإخلاص. إنك ترى أمك جميلة في عينك، حبيبة إلى قلبك، ولعل في وجهها من تجاعيد الكبر أودية وجبال. . . ولعل فمها كالمغارة الخالية. . . ولعل يديها كمخالب الطير، وترى المرأة التي خانتك وغدرت بك قبيحة بغيضة، وإن كانت في عين الرائي) أجمل النساء. . .!

إنكم تفتشون عن السعادة، ولكنكم لا تعرفون طريقها، ولا تفكرون بعقولكم فيها. لماذا تسعد أيها التاجر الذي يملك الآلاف إذا ربحت ألفاً آخر؟ لأنك كنت تطلب هذا الألف وتشتهيه، فجاء يسد مطلبك، ويوافق شهوتك، فمن هنا كانت سعادتك به، ومن هنا ألمك لفقده، على حين أن التلميذ الذي لا يبلغ أقصى أمله أن يمتلك عشرين قرشاً لا يألم إن يربح هذا الألف، بل هو لا يفكر فيه، أفليس التلميذ ذو العشرين قرشاً أغنى بها منك يا ذا الآلاف بآلافك؟!

والموسر الفني الذي يملك عشر عمارات يألم إن عرضت للبيع عمارة أخرى ولم يقدر على شرائها، على حين أن الموظف الصغير الذي يسكن غرفة بالأجرة لا يجد هذا الألم، وينام ملء جفونه في الليلة التي يتقلب فيها الموسر من الأرق أسفاً على العمارة التي أضاعها، أفليس الموظف بغرفته المأجورة أغنى منك يا صاحب العمارات بعماراتك؟!

والفاسق الذي قارب مائة غانية وراقصة يألم إذا جاءت راقصة جديدة فلم يحظ بقربها، ويبيت الليل مسهداً من أجلها، ويبذل حر ماله وماء وجهه في سبيلها، وينغص عيشه من بعدها، على حين أن التقي الذي لم ير في عمره إلا امرأته، لا يأبه لها ولا يدري بها، أفليس هذا التقي أسعد بامرأته الواحدة منك يا ذا الخليلات ويا زير الراقصات؟!

إن الحياة النفسية كدفتر التاجر، ليست العبرة بضخامة أرقامه، ولكن بالباقي بعد الجمع والطرح، فالذي يملك مليوناً ويطلب منه مليون، مثل الذي لا يملك شيئاً ولا يطلب منه شيء، والذي نال من دنياه كل لذة. . . وهيهات! مثل (الدرويش) السائح في البرية الذي لا يطلب إلا لقمة يسد بها جوعه وجرعه يبل به جوفه، وأرضاً يلقي عليها جنبه، ومعه رغيفه وركوته، وله أرض الله الواسعة. . . إن هذا هو أسعد السعداء، لا لأنه نال من الدنيا كل شيء. بل لأنه حقرها عن أن يطلب منها شيئاً. فمن قنع أسعده الأقل الأقل، ومن طمع لم يسعده شيء مهما جل، لأن النفس تطمح إلى اللذة، فإن وصلت إليها، أبطلت الألفة اللذة فتطلب غيرها. . . إنك أيها الفقير تسعد لو ركبت يوماً سيارة الغني، ولكن الغني ذا السيارة لا يحس هذه السعادة بها. إنها عنده كالترام عندك، بل ربما كان الترام أمتع لك، بل ربما اشتهى هو أن يركب الترام، كما يشتهي المترف صاحب المائدة الملوكية أكلة فول على التراب!

إن الله (جلت ودقت حكمته) لم يجعل السعادة في مال ولا نشب ولا متعة، ولكنه جعلها صلة خفية بين الأشياء وصاحبها، فلا تأخذوا الأمور على ظواهرها، فإن المريض الزمن لو حمل من الألم ما تظنه أنت حامله ما عاش، والغني لو نال من اللذة ما تحسب أنه نائله ما وسعته الدنيا، ولكن العادة تبطل اللذة والألم، وتهون السجن على السجين، والحرب على المحارب، وتجعل الخليفة الذي كان في قصره عشرة آلاف غادة من جميلات الأرض حشرن إليه حشراً، مثل الذي في بيته امرأة واحدة! إنما اللذة التي لا تفنى ولا تنقص لذة القلب، لذة التأمل، لذة المتعبد في هدأة الليل، والمناجي ربه في الأسحار. . . ومن هنا قالت طائفة الصوفية: (لو ذاق الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف). . . إي والله وبالمدافع والرشاشات!

ذلك هو النعيم المقيم، ولكن ذلك شيء لا يفسر ولا يعرف:

لا يعرف العشق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها

إنها تمر على المتعبد ساعات في كل لحظة منها لذة تفضل لذة (الوصال) كما تفضل الشمس الشمعة، والبحر الساقية، ومن ذاقها عرف معنى قوله : (حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) ليس معناه أن نبينا مولع بالنساء - كما فهم دواب المستشرقين - ولكن سر المعنى في قرن الطيب والنساء، وهما من لذات كل نفس بشرية، ثم في رفعها عنهما، للدلالة على أن الصلاة لذة ومتعة ولكنها أسمى وأعلى. . .

إن مرد ما تجدون من عرام الشهوة وشدتها إلى أمرين: حب الغلبة، والتطلع إلى المجهول. يسمع أحدكم أن فلاناً من الفساق قد صنع كذا من الآثام، فيتصور ما نال بإثمه من اللذائذ، فيمتد أمله إلى تذوق مثله لعل فيه لذة جديدة، وتأبى عليه غريزة المكافحة والتغلب أن يبقى محروماً مما نال فلان هذا. . . ولو هو فكر، لعلم إنما اشترى فلان لنفسه الحرمان من لذة أنقى وأبقى هي لذة الآخرة، ولسكت عنه الإغراء وذهب الألم، وما يألم لفقد المعصية إلا من جعلها أكبر همه، وترك لنفسه الحبل على الغارب، فأطلقت الجوارح كلها في شهوتها: فالعين تنظر العورات، والأذن تسمع أحاديث الموبقات، والذهن يحفظ هذه الصور والذكريات، والخيال يوشيها ويزينها بالمبالغات. . . فلا ينتبه الشاب إلا والسم قد مشى في جسده من تلك النظرة، وإذا هو قد نسى الدين والخلق ومطالب الوطن، ولم يبق له في الدنيا عمل إلا ابتغاء الوسائل إلى لذته تلك، فهي في فكره يقظان، وفي أحلامه نائماً، وعلى لسانه متحدثاً، وهي دينه إن كان متديناً، ودرسه إن كان طالباً أو معلماً، وشغله إن كان موظفاً. . . ولذلك أمر الله بغض البصر، وقال عليه الصلاة والسلام: (لك الأولى وعليك الثانية)! ووصفت النظرة بأنها سهم صائب من سهام إبليس:

كل المصائب مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر

يا أيها الناس، لقد عشتم من عمركم سنين، وعصيتم الله وأطعتموه، فانظروا الآن ماذا بقي من ذلك في أيديكم؟ أين لذة المعصية؟ لقد ولت وخلفت سواداً في صحائفكم! أين تعب الطاعة؟ لقد ذهب وترك حسنات كتبت لكم! أفما تتمنون الآن لو أنكم ما عصيتم الله قط؟! بل تخيلوا أنكم في ساعة الموت. . . هل من الموت بد؟! فماذا تنفع من يعالج سكرات الموت كل لذة كان قد نالها بجنب تلك الآلام؟! ثم تصوروا موقفكم بين يدي جبار السماوات والأرض، وقد ذل الأعزة بالإثم، وسيق المتكبرون إلى العرض على الله حفاة عراة، ونادى المنادي من جانب العرش: لمن الملك اليوم؟! وأجاب المجيب: لله الواحد القهار!! وكان الامتحان الأعظم، ونودي بأسماء الناجحين. . . ففتحت لهم أبواب الجنة. . . وبأسماء (الراسبين). . . ففضحوا على رؤوس الخلائق، وقذفوا في النار فرسبوا فيها. . .! أين يومئذ تلك اللذائذ؟! أين متعة العين بهذه الراقصة؟! أين لذة الجوارح بوصالها؟! أين جمالها وفتنتها والصديد يسيل منها؟!!

يا ناس!! إن لهذا الكون إلها. إن في الكون عدلاً. إن من زنى زني به ولو بجدار داره، أفما لكم بنات؟! أما لكم أخوات؟!. . . فعفوا تعف نساؤكم، إنكم لا تدرون ماذا يكون في غد، ولعل ابنة أحدكم تقوم هذا المقام، فأشفقوا على هذه المسكينة، فإن لها أباً وأماً. . إنها ما جاءت من جذع شجرة!!

قال صديقي: لما بلغ الشيخ من كلامه هذا المبلغ، سالت دموعنا رحمة للراقصة، وإشفاقاً عليها، وصرنا ننظر إليها كما ينظر أحدنا إلى ابنته يسعى ليسترها ويحميها، بعد أن كنا لا ننظر إليها إلا لنقطف زهرتها ونذويها. . . ولقد وفق الله بعد ذلك، فأخرجنا المسكينة من هذه الحمأة، وزوجناها برجل صالح، فهي الآن ربة بيت وأم أولاد!!

قال: حتى صاحب المرقص صار يتردد على الشيخ، وأحسبه سيغلق مرقصه اليوم أو غداً، ويجد لنفسه عملاً شريفاً!!

هذه هي قصة الشيخ في المرقص! فيا ليت كل مرقص يدخله (شيخ)! ويا ليت (شيخاً) يدخل وزارة المعارف!!

(دمشق)

علي الطنطاوي