مجلة الرسالة/العدد 675/رثاء نسيب عريضة

مجلة الرسالة/العدد 675/رثاء نسيب عريضة

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1946



هكذا حدث. . .!

للدكتور أحمد زكي أبو شادي

(ألقى في الحفلة التذكارية للشاعر الكبير المرحوم نسيب عريضة لمناسبة صدور ديوانه اليتيم (الأرواح الحائرة) ومرور أربعين يوماً على وفاته. وقد أقامت الحفلة لجنة أدباء الجالية السورية (والرابطة القلمية) في نزل تاورز في بروكلن بمدينة نيويورك مساء الأربعاء 15 مايو سنة 1946، وكانت الحفلة برعاية سعادة الدكتور قسطنطين زريق القائم بأعمال المفوضية السورية في واشنطن)

ما كان عمرك موهوباً لإنسان ... ولا لإحساس هذا العالم الفاني

ولا لأرض وأوطان حننت لها ... فالعبقرية لم تخلق لأوطان

والشاعرية لم تُقصَر منازلها ... على الحياة ولو من رسم فنان

بل كان عمرك آيات هتفت بها ... ولم تفسر بإنجيل وقرآن

ولم تكيف بأوصاف ننمقها ... ولم تقدر بمقياس وميزان

ولم تخصص، فحتى أنت كنت بها ... في نشوة بين مشدوه وحيران

ملء الزمان تُناجينا وتُسعدنا ... وتحمل النور ميراثاً لأزمان

وتبعث الوحي فينا وهو ينقلنا ... إلى عوالمَ من حسن وإحسان

تُشنام بالروح أطيافاً وأخيلة ... علوية، وجِناناً دون جنّان

أكُنَّ من صنعك الفتان أم نشأت ... عن معجزات سمت عن خَلق إنسان؟

لعل في مقبل الأجيال عارفها ... إن فات تعريفُها روحي ووجدان!

يا شاعر الهمسات الساميات بنا ... المبدعات لنا قدسيّ ألحان

كأنها صلوات لا حدود لها ... يغني الوجود بها من قلبك الحاني

جم التواضع، جم العلم، يسعده ... أن لا يميز في مدح وشكران

وليس يبخس إلا نفسه أدباً ... كأن أخلاقه أخلاق ديان

وليس يعرف غير الحب منقبة ... ويحسب الزهو من أوزار شيطان

يحنو على الشعب في البلوى ويسعفه ... ويستثير شعور الغافل الو ويرفض الضيم حتى لو أنى ملك ... به، وكان رسالاتٍ لأديان

يا حامل العبء في إيقاظ أمته ... حملت عبئين بل رزأين في آن

ما بز آثارَك الغراء مبتدع ... ولا بنى فوق ما أعليته باني!

تركتُ مصر وقلبي ذائب حرَقاً ... وجئت أطفئ لوعاتي ونيراني

وكنت جانبت أطياف الربيع بها ... وقلت حسبي بكم جنات (لبنان)

ومذ وفدت رأيت الربع مكتئباً ... كأن أحزانه من لون أحزاني

فلا الجمال قرير في مباهجه ... ولا النسيب على روض وأفنان

كأن (آذار) عاداه وباعده ... وما رأت عينه أفراح (نيسان)

ما للبشاشة قد ماتت بنضرته ... وللأزاهر ما هشت لبستاني؟

وللجداول قد غصت بحسرتنا ... كأنها لم تكن راحاً لريحان

وللنسيم قتيلاً بعد عاصفة ... وللسحائب في رعد وإدجان

وللطيور التي كانت مغردة ... تنقر العشب في يأس وإذعان

وللنواطح لم يشمخن في نظري ... وللروائع قد خيبن حسباني؟

شاهت جميعاً بعيني بعدما حرمت ... لقاء من عشت أهواه ويهواني

جعلت قلبك قرباناً وتقدمة ... للناس، والآن ما حبي وقرباني؟

وما رثائيَ مَن آثاره عَمم ... وكل بيت له كنز لديوان؟

غنيتَ عن كل صيت من عوالمنا ... وعن بكاء وتمجيد وعرفان

وعشت فينا غريباً، فلتعد ألقاً ... لموطن الأصل أو للموطن الثاني

فأنت وحدك تدري الآن ما عجزت ... عنه مواكب أذهان وأذمان

وحسبنا ذكريات منك عاطرة ... وموحيات بأنغام وألوان

وخالدات من الإيمان ناصعة ... تهدي العزاء وتسِمى كل إيمان

من مات موت شهيد لم يمت أبداً ... وقد تبدل أبدان بأبدان

ومن تكن نفسه شعراً وفلسفة ... وبسمة من أغاريد وأوزان

يأبى الإسار وإن وافى مجاملة ... من الشموس، ويأبى العالم الفاني!

(نيويورك) أحمد زكي أبو شادي