مجلة الرسالة/العدد 678/على هامش النقد:

مجلة الرسالة/العدد 678/على هامش النقد:

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1946



(دفاع عن البلاغة)

تأليف الأستاذ الزيات

للأستاذ سيد قطب

(تتمة)

هل هناك مذهب جديد؟

كان هذا السؤال الذي جعل الجواب عليه هو الفصل الأخير من الكتاب، وناقش فيه من يدعون إلى العامية، ويدعون إلى الرمزية. والعامية ليس من الضروري أن تكون عامية اللفظ، فهي عامية التعبير وعامية التفكير. وقد لا تكون الألفاظ عامية، ثم تكون طريقة الأداء عامية، كما تكون كذلك طريقة التفكير.

وفي سياق بحث الموقف الحالي للأساليب العربية شرح تطورات أساليب النثر العربي شرحا مختصرا وافيا دقيقا، ولخص مذاهبه تلخيصا جميلا مفيدا، ورتب على هذا التطور نتائجه المنطقية ترتيبا بارعا وصادقا في الوقت ذاته.

وفي اعتقادي أن هذا الفصل هو أبرع فصول الكتاب وأدقها وأصدقها. وهو كذلك بحث جديد في المكتبة العربية، لم يلخص من قبل مثل هذا التلخيص.

وأحب أن أشرك القارئ معي في تقدير قيمة هذا الفصل الجيد من فصول الكتاب.

جاء في ص 125:

(. . . إن المذهب الكتابي أو الشعري إما أن يكون مرحلة تطور لمذهب يتقدم به مبتدعوه، وإما أن يكون رد فعل لمذهب يغلو فيه مبتغوه. فأسلوب عبد الحميد بن يحيى إنما كان الطور الأول للأسلوب العربي الضيق الموجز، دعت إليه مقتضيات المجتمع الجديد من تشعب أطراف الدولة، وبدو ثمار الحضارة، ودنو العربية من الفارسية. وأسلوب ابن المقفع الذي ظهر في فجر الحضارة العربية كان طوره الثاني، دعا إليه اتساع الخلافة، وتنوع الثقافة، وشدة اختلاط العرب بالفرس. ثم كان طوره الثالث أسلوب الجاحظ الذي اقتضاه نقل العلوم الأجنبية، وازدهار المدنية العباسية، وانتشار المقالات الإسلامية، وتعقد الحالة الاجتماعية، وتولد المعاني الحضرية، واقتباس الآراء الفلسفية. ثم أترف المسلمون، وتقبلوا في أعطاف النعمة، وتأنفوا في مظاهر العيش، فظهر طوره الرابع في أسلوب ابن العميد المنمق المسجوع. والى هنا كان التطور في النثر الفني تطورا طرديا يسير من الضيق إلى السمة، ومن الجزالة إلى الرقة، ومن الترسل المتوازن إلى الصنعة المطبوعة. فلما ضعفت الخلافة وقام بالأمر غير أهله بدت على الكتابة أعراض الفساد والوهن، فكثرت المعاني المزيفة، وانتشرت الصنعة المتكلفة؛ وكان من ذلك مذهب القاضي الفاضل وهو الطور الخامس من أطوار الأسلوب العربي، غلا فيه أصحابه حتى أفسدوا الفكرة بالتفاهة والمبالغة، وشوهوا الصورة بالزخرف الكاب والسجع المجتلب. ومن هنا كان رد الفعل بظهور طريقة ابن خلدون، إذ رغب عن السجع، وزهد في البديع، وسار باللفظ وراء المعنى. وقد صرح بذلك في كلامه عن كتابته لأبي سالم أحد ملوك الأندلس قال:

(وكان أكثرها يصدر عنى بالكلام المرسل، بدون أن يشاركني أحد ممن يتحل الكتابة في الأسجاع، لضعف احتمالها وخفاء المعاني فيها على أكثر الناس، بخلاف المرسل، فانفردت به يومئذ، وكان مستغربا عند من هم من أهل هذه الصناعة).

(وآثر النابغون من خريجي المدارس المدنية الحديثة الذين وقفوا على آداب الفرنجة، الطريقة الخلدونية على الطريقة الفاضلية، لجريانها مع الطبع، وملاءمتها لروح العصر، ومشابهتها لأساليب الغرب، فظهرت مهذبة عذبة فيما كتب قاسم أمين، وفتحي زغلول، ولطفي السيد، ومن جرى مجراهم. وانفرد بالأسلوب البديعي رجال دار العلوم ومن يمت بسبب إلى الأزهر، من أمثال الشيخ حمزة فتح الله، وتوفيق البكري، وحفني ناصف، ومن حذا حذوهم. وبدت على أسلوب هؤلاء مظاهر التكلف، فأسرفوا في المحاكاة، وأوغلوا في الصنعة، وتشددوا في القياس، وتصعبوا في استعمال اللغة. كما بدت على أسلوب أولئك مظاهر التطرف، فتجوزوا في القواعد، وتسامحوا في اللغة، واستخفوا بجمال الصياغة، وهبطوا إلى مستوى العامية. وفي ذلك الوقت نشأت على أقلام عرب لبنان النازحين إلى الأمريكتين طريقة ثالثة فيها الفكرة والطرافة والحركة والتنوع، ولكن فيها الركاكة والتساهل والدخيل والعجمة. فكان من رد الفعل الذي لا بد منه لهؤلاء الطرائق الثلاث أن تنشأ طريقة رابعة تأخذ من محاسنها وتخلو من مساوئها فترتضيها الأذواق جميعا. تلك كانت طريقة إحياء الأسلوب العربي الخالص مكمل النقص بما فاته من صور البيان، لانقطاع أهله عن مسايرة التمدن الفكري الحديث. استبانت هذه الطريقة في نثر المنفلوطي، كما استبانت في شعر البارودي. ثم نهجها الكتاب الموهوبون المطبوعون فتميزت بالرقة والدقة والسلامة والرصانة والقصد. ثم نبغت طائفة من الكتاب جمعوا بين ثقافة الشرق القديم وثقافة الغرب الجديد، فبلغوا بالنثر الفني منزلة لم يبلغها في عصر من عصوره. فالأسلوب الذي كتب به المنفلوطي والبشري والرافعي، ويكتب به العقاد وطه حسين والمازني، هو ثمرة التطور الحديث في الأدب والعلم والفن والحضارة. وهو إن اختلف بين الكتاب في القوة والضعف، والعمق والضحولة، والدقة والتجوز، والتركز والانتشار، يشترك في الصفات الجوهرية للغة وهي الصحة والنقاء والمرونة، وفي الخصائص الأصيلة للبلاغة وهي الأصالة والوجازة والتلاؤم. . .)

لقد استطردت في الاقتباس من هذا الفصل القيم، لأنني معجب بتصوير هذا التطور والتسلسل في ذلك الحيز الضيق بمثل هذه النصاعة؛ ولأنني أريد أن ادعوا وزارة المعارف للانتفاع بهذا الفصل خاصة - إن لم يكن بالكتاب كله - في مدارسها ومعاهدها بدل تلك الفصول القاصرة البائسة التي يدرسها طلاب المدارس الثانوية!!

والآن قد استعرضت وناقشت الأسس العامة في كتاب (دفاع عن البلاغة) يعن لي أن أناقش بعض الموضوعات الفرعية التي جاءت هنا وهناك في الكتاب.

يناقش المؤلف رأيا لأميل زولا في البلاغة، واستعراض هذه المناقشة مفيد في بيان رأي المؤلف وزيادة إيضاحه.

قال إميل زولا:

(ليس من مطلق الحق - وإن عارض بوفون وبوالو وشاتوبريان وفلوبير - أن الكتاب يكفيه أن يعنى كل العناية بأسلوبه ليشق له في الأدب طريقا يبقى على الأبد. إن الشكل عرضة للتغير والزوال بسرعة. ولا بد للعمل الكتابي قبل كل شيء أن يكون حيا؛ ولا يمكن أن يكون حيا إلا إذا كان حقا. والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات حية).

ثم يقول بعد ذلك: (وهل نستطيع أن تبيين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرؤهما مترجمين؟).

ويعلق الأستاذ الزيات على هذا الرأي فيقول:

(وهذا القول الظاهر البطلان، لأن المخلوقات الحية التي يلدها ذهن الكاتب، لا يتسنى لها البقاء على توالي الأعقاب والأحقاب إلا بالأسلوب كما قال شاتوبريان)

(أما قوله: (وهل نستطيع أن نتبين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرؤهما مترجمين؟) فمرماه أن روائع اليونان والرومان لم تخلد على الدهر إلا بمعانيها المبتكرة ووقائعها المشوقة، وعواطفها الصادقة، وشخوصها الحية، بدليل أننا نقرؤها اليوم بمعانيها لا بمبانيها، وبفكرها لا بصورها. فلو كان خلودها منوطا بدقة الصياغة وجودة الصناعة لما عاشت بالترجمة. ثم يترتب على ذلك خطأ القول باتحاد الصور والأفكار في الأسلوب، لأننا حين نقرأ الإلياذة مثلا في الفرنسية أو في العربية لا نقرأ منها عين الموضوع.

(والحق الذي تؤديه الدلائل أن جمال الأسلوب وحده هو الذي ضمن الخلود لهذه الروائع؛ فإن الثابت بالسند المتصل والخبر المتواتر أنها كانت آية عصرها في البلاغة، ولولا ذلك ما روتها الرواة ولا ترجمتها التراجم).

ونحن نرى أن أميل زولا كان على كثير من الحق وهو يقول: (والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات حية) وليس هذا القول (ظاهر البطلان) كما يرى الأستاذ الزيات؛ كما أن تعليق الأستاذ بعد هذا صحيح، ولا تتناقض صحته مع صحة رأى زولا في شيء. فالمخلوقات الحية التي بلدها ذهن الكاتب لا يتسنى لها البقاء إلا بالأسلوب. ولكنها يجب أن تكون (حية) ليحتفظ الأسلوب لها بالحياة وإلا عجز منحها الحياة!

وكذلك نحتاج إلى شيء من التحفظ في تعليق الأستاذ على خلود روائع هوميروس وفرجيل؛ فليس الأسلوب (وحده) هو الذي ضمن لها الخلود، فلا بد من عنصر آخر حي مع الأسلوب، كما اتفقنا من قبل، الأستاذ وأنا، على هذا الأصل الكبير (في أول مقال).

ويستطرد الأستاذ في تعليقه فيقرر في شأن الترجمة رأيا صحيحا نرجو أن ينتفع به من يتصدون لترجمة روائع الأدب العالمي! ذلك حين يقول في ص72: (والترجمة الصحيحة لا تنقل أفكار الكاتب أو الشاعر وحدها عن الاصل؛ إنما تنقل مع ذلك إشراق روحه، وسمو إلهامه، ولطف شعوره، ونمط تفكيره، وخصائص أسلوبه. فلو أن ترجمانا ضعيف العربية من تراجم المحاكم حدثته نفسه أن يعرض لإحدى روائع شكسبير فنقلها نقلا لفظيا بأسلوبه الذي يترجم به عروض الأحوال، أو أصول الاحكام، فهل تقول إذا استطعت أن نقرأ ما كتب إنك قرأت شكسبير؟ أم ترى أنك قرأت ألفاظا كالعظام المعروقة المبعثرة، لا تمثل من أي حيوان معنى من معانيه، ولا صورة من صوره؟. . . الخ).

وهذا دستور جيد للترجمة. وأشهد أني أقرأ في هذه الأيام مترجمات لا أدري إن كانت على رأي البحتري، إن كان صنع إنس لجن، أن صنع جن لإنس! فلعل من يتصدون للترجمة ينتفعون بهذا الدستور القويم!

وأخيرا نقف أمام لفتة طيبة تقرن فحولة الفن بفحولة الأمة عامة وفحولة البطل منها خاصة؛ وهي لفتة صادقة ولكننا لا نثبتها هنا لمجرد الصدق، بل للتوجيه أيضا:

جاء في ص122:

(وازن بين عصر وعصر في الأدب، أو بين أديب وأديب في الاسلوب، تر الفرق بينهما إذا حللته لا يخرج عن قوة الرجولة في هذا وضعفها في ذاك. فعصر الجاهلية عند العرب واليونان، وعصر الفتوح عند المسلمين والرومان، وعهد الفروسية عند الفرنسيين والطليان، كانت أزهى عصور البلاغة، لأن الرجولة كانت فيها بفضل النزاع والصراع في سبيل الحياة والغلبة والمجد والمرأة أشد ما تكون تماما واضطراما وقوة. فلما قتل الترف الرجولة، وأذل العجز النفوس، زهقت روح الفن، وذهبت بلاغة الأسلوب، وأصبح أدب الأديب سخفا وزيفا وثرثرة)

وجاء في ص123:

(إن الأدب البليغ كامن في البطل على أي صورة كان. فهو إن أنتجه برز فيه، وان لم ينتجه شجع عليه. لذلك ازدهر الأدب في ظلال أغسطس وبركليس والرشيد وسيف الدولة. وما دام كبراؤنا لم يخلقهم الله من الأبطال ولا من عباقرة الرجال، فهيهات أن ينتجوا الأدب أو يفهموه أو يحبوه أو يعضدوه أو يقدموا أهله. وسيظل هذا النور الضئيل من الأدب القوي الحر محصورا في ظلام العمي والجهل، حتى تقوى الأمة فينتشر، وينبغ فيها القادة فيزدهر. وسيعيش رجاله القلال المخلصين معتكفين في المكاتب اعتكاف النساك في الصوامع، يمثلونه على بصر الطبيعة، وينشدونه على سمع الزمن، حتى تقوى دولة الحق والجمال، فيجلسوا في الصدر ويمشوا في المقدمة).

أن الذي يقرره الأستاذ عن الصلة بين فحولة الأدب وفحولة الأمة أو الفرد صحيح؛ ولكني لا أوافقه في تشاؤمه من العصر لأنه لم يوجد فيه بعد أغسطس وبركليس والرشيد وسيف الدولة. إن الأدب لم يعد اليوم في حاجة إلى أمير يرعاه أو كبير يشجعه. لقد انتهى عهد الأمراء والكبراء. والعصر عصر الشعوب والأفراد. والأمة العربية الناهضة اليوم بمجموعها عوض عن أمراء الإقطاع في عهد سيف الدولة. فللأدب العالي أن يزهو اليوم مستقلا بنفسه، وللأدباء اليوم أن يسيروا في الأرض غير معتمدين على ذراع أمير أو كبير.

وما نظرت يوما إلى الأديب في نفسي والى أي أمير أو وزير أو كبير إلا وجدتني أكبر وأشد قوة، وإلا وجدت هذا الأمير أو الوزير أو الكبير في حاجة إلى رعايتي قبل أن أكون في حاجة إلى رعايته! وهذه هي الدعوة التي يحسن أن نهتف بها للأدب والأدباء ليرتفع بعض من لا يترفع منهم، عن الزلفى للأمراء والوزراء والكبراء.

سيد قطب