مجلة الرسالة/العدد 678/ناثان الحكيم
مجلة الرسالة/العدد 678/ناثان الحكيم
للدكتور جواد علي
ناثان تاجر يهودي وهبه الله مالا غزيرا لما كثر أبناء جنسه، ووهبه عقلا كان خير دليل له في الخروج من مآزق الأمور، وفطنة كانت سلاحا فتاكا يستعمله في التغلب على خصومه.
وكان هذا اليهودي الذكي يعيش في أرض فلسطين في عهد السلطان صلاح الدين عيشة ناعمة يحسد عليها. وكان يرابي فيقرض الأمراء والسلاطين. وكان السلطان الأيوبي العظيم قد اقترض منه مبلغا عظيما من المال، لقاء فائض فاحش. وأراد السلطان كما تصوره الرواية الامتناع عن الدفع ومصادرة أموال اليهودي بطريقة لا يتمكن فيها هذا المرابي من الدفاع عن نفسه ومن إقامة الدعوى عليه.
فطلب منه ذات يوم أن يجيب عن موضوع طالما اهتم به وشغل باله به هو قضية الأديان، وأي تلك الأديان أفضل! وما هو الدين الحق من بين هذه الأديان. وكانت غاية السلطان من هذا السؤال هو إيقاع اليهودي في الفخ حتى إذا ما أجاب جواباً يناقض عقيدته وفضل ديانته على ديانة المسلمين أوقع به عقابا صارما وجزاه جزاء كبيرا فيصادر أمواله، ويصبح عندئذ في حل من الدفع.
أدرك ناثان ما كان يقصد السلطان من هذا السؤال، فالتفت إليه وطلب منه أن يقص عليه قصة من القصص المعروفة هي قصة والد شفيق كان له ثلاثة أولاد يحبهم حبا جما ولا يميز بينهم أبدا؛ وكان له خاتم ثمين ورثه عن أجداده ويريد المحافظة عليه بحيث يبقى في الأسرة، فلا يخرج منها. ولما كان لا يريد التفريق بين أبنائه ولا التمييز فيما بين هؤلاء الثلاثة في الدرجة حار فيما يصنع، أيعطى الخاتم للابن البكر فيزعج بذلك الأخوين ويعكر بينهما صفو الأخوة وهو حريص جدا على أن تبقى رابطتها قوية فيما بين أبنائه، أو يعطيه لشخص آخر من الأسرة، وفي هذا العمل مخالفة لوصية الآباء؟
وكان الرجل ذكيا، تمكن بذكائه من إيجاد حل أرضى به أولاده الثلاثة. ذهب إلى صائغ قدير كلفه بأن يصنع له خاتمين يشبهان هذا الخاتم تماما بحيث لا يمكن التفريق بينهما وبين الخاتم الأصلي. وقد صنع الصائغ ما طلب منه وأجاد الصنعة حتى صعب على الصائغ نفسه تمييز الخواتم الثلاثة.
ولما توفى ذلك الوالد الشفيق تسلم كل واحد من أولاده الثلاثة خاتما. وبعد مضي أمد أدعى كل واحد منهم بأن خاتمه هو الخاتم الحقيقي، خاتم الأسرة. وقد حاول كل واحد منهم البرهنة على أن ما قاله هو الصحيح.
فلما سمع صلاح الدين بهذه القصة استحسنها، وامتدح ذكاء (ناثان) وقربه إليه، وغدا منذ ذلك الحين من أقرب الناس اليه، وهي قصة تمثل وجهة نظرة الإنسانيين الذين نظروا إلى الأديان بنظرة التسامح نوعا ما. أما القصة نفسها، فقد كانت معروفة في أوروبا، وقد أخذها هذا الأديب (لسنك)، وسبكها في قالب (دراما) شعرية، تمثل آراء الشاعر ومشاعره أحسن تمثيل. حتى لقد قال الفيلسوف الألماني (شليكل) (إن هذه الدراما تمثل نفسية لسنك فمن عرفها عرف لسنك كل المعرفة.
في سنة 1752 للميلاد كان شاعرنا صاحب القصة في مدينة (ويتنبرك) وكان قد تفرغ لكتابة رسائله وفصول بعد أن حنكته التجارب، وبعد أن تخرج من مدرسة (فولتير) تلك التي أنشأها هذا الأديب الفرنسي العظيم في قلب العاصمة البروسية وفي قصرها. تعلم على هذا الأديب شيئا كثيرا ودرس عليه أصول النقد الأدبي التي عرف بها تلك الأصول التي أثارت في نفس صاحبنا الميل لدراسة الآداب الغربية ولا سيما آداب الشعب الإيطالي سليل الرومان، وآداب الشعوب الشرقية، ولا سيما الأدب العربي وتاريخ المسلمين.
وكان مما قرأه (لسنك) من آداب الإيطاليين بعض مؤلفات الفيلسوف الإيطالي (كاردانوس هيرونيموس) (1501 - 1576) وكان هذا الفيلسوف الإيطالي الكاثوليكي حر النزعة بالنسبة إلى رجال وقته، واسع التفكير، يعتنق مذهبا يعارض مذهبه، هو مذهب (وحدة الوجود) يرى أن كل ما في الطبيعة حي يجري فيه ماء الحياة حتى المادة الجامدة لا تخلو من الحياة. وأن الخالق في الكون جميعه والكون جميعه في الخالق بحيث لا نستطيع الفصل بين الاثنين. هذه هي الحقيقة، حقيقة الله في الكون، إلا أن قليلا من الناس من يدرك هذه الحقيقة، وقليل من الناس من يحاول الإدراك وفهم الحقائق.
كانت في آرائه هذه جرأة بالطبع بالنسبة إلى العالم الذي عاش فيه، جرأة له مئات من المشاكل والمصاعب فيما بعد. وكان يرى بالإضافة إلى كل هذا بأن الأديان واحدة لها أهداف واحدة هي النظم الأخلاقية وضبط حياة الإنسان، فيجب أن تستخدم هذه النظم في خدمة الغرض الذي من أجله نشأت، وللمحافظة على الوحدة، ولذلك حذر من الخوض في المواضيع الدينية والمشاكل الدينية باللغة المحلية، لأن هذا الجدل من عقيدة فيصح لكل مواطن أن يعتنق ما يشاء من العقائد، وله أن يدين بأي دين.
وبهذه الفكرة كتب الفيلسوف الإيطالي أفكاره في: تلك المحاورة (ديالوك) الفلسفية التي ينبري فيها رجال يمثلون أربعة أديان للدفاع عن عقائدهم وديانتهم التي يعتنقونها، الديانة اليونانية الرومانية، والديانة اليهودية، والديانة المسيحية، ثم الديانة الإسلامية. وقد حدث في هذه المحاورة كل محام بما كان يعتقده أصحاب ذلك الدين. فتحدث على لسان الوثني، وتحدث على لسان اليهودي، وتحدث على لسان المسيحي، وتحدث على لسان المسلم، وذكر دليل كل واحد منهم. وهذه محاورة جريئة بالطبع، أوقعت المؤلف في مزالق الكلام، وهوجم على محاورته هذه هجوما عنيفا اتهم بأنه قصر في دفاعه عن عقيدة المسيحيين، وأنه أظهر المحامي المسيحي بمظهر المحامي الضعيف الذي لا يملك حججا قوية لأفحام خصمه، وقد كان في ذلك متعمدا لا محالة.
تأثر (لسنك) بآراء هذا الفيلسوف. وانبرى على الرغم من تفاوت عهده عنه للدفاع عن آرائه فدافع عنه في دفاعا أوقعه في مثل ما وقع فيه ذلك الكاتب المفكر. ذكر بأن الفيلسوف لم يكن مقصرا فيما كتبه ولم يكن متعمدا إضعاف دليل المسيحيين. وكل ما فعله هو أنه صاغ دليل النصارى على لسانه. ولم يتمكن النصارى من إبراز أدلة أقوى من تلك الأدلة، ولم يتمكن المسيحيون من إيراد حجج أقوى من تلك الحجج التي دونها كاردانوس فأضاف بهذا القول دليلا جديدا على تلك الأدلة التي كان يذكرها الناس في إثبات مروق (لسنك) وزوغانه عن جادة الحق.
ولم تكن دراسة الفلسفة في ذلك العهد من الدراسات التي يرتاح لها رجال الدين، وكان لسنك وهو في مكتبة (ولفنبتل) يقرأ كتب الفلسفة بينهم ويقبل عليها في ساعات فراغه كل الإقبال. ولم يكتف بالمطالعة بل صار يخرج كتب الفلسفة إلى الأسواق ويشوق الناس إلى دراستها، وكانت أحب فلسفة إليه هي فلسفة (رايمارس) (1694 - 1768م). وهذا الفيلسوف هو على راس الفلاسفة الذين عرفوا باسم وقد شاعت فلسفتهم في القرن الثامن عشر على الأخص. وكانت تحاول تبسيط مبادئ فلسفتها وتقريبها من أذهان الناس للحصول على أكبر عدد ممكن من الاتباع. وكان هذا الفيلسوف من أولئك الفلاسفة الذين اعترفوا بوجود إله هو أساس هذا العالم وسببه. غير أنه كان كأكثر الفلاسفة (التوضيحين) ينكر خوارق العادات ولا يؤمن بالمعجزات، ويجحد تدخل الله في شؤون العالم وفي شؤون الأفراد وكل ما في الكون من مخلوقات. وكان يدعو إلى (الديانة الطبيعية العقلية) ويهاجم أسفار التوراة والأناجيل وينتقدها انتقادا مرا، لذلك تعرض بالطبع إلى حملات رجال الدين عليه والى نقد قوي مرير.
تعرض لسنك إلى نقد رجال الدين، إلى نقد (كوتزة) على الأخص فكانت بينهما مهاترات علمية تدخل فيها أناس من عشاق الجدل الفلسفي الديني، وقد تمكن (كوتزة) هذا من إثارة مجالس الأقاليم على لسنك، فأصدرت تلك المجالس أمرا إلى دوائر الرقابة تطلب فيه إلا يسمح للسنك بنشر أي شيء إلا بإذن من الحكومة، فكان في هذا القرار توفيق لرجال الدين.
وكان (لسنك) قد اطلع على آراء فيلسوف إيطالي آخر هو (بوكاجيو) 1303 - 1375م) الكاتب الإيطالي الفيلسوف.
وقد وجه هذا العبقري كزميليه دانتي (1265 - 1321م) و (بترركا) أنظار قومه نحو مثل جديدة، نحو المثل الإنسانية التي تدعو إلى التسامح في مقابل تعصب الكنيسة وتمسكها بآرائها الدينية. وقد حث قومه على دراسة الشعر واللغة والفلسفة، وقد مهد هو وزملاؤه بذلك الطريق لما سمى فيما بعد باسم: (عصر النهضة والأحياء) واتصل لسنك عن طريق الترجمة بهؤلاء، فقرأ لبوكاجيو، وكان هذا الأثر الأدبي المهم قد ترجم إلى الألمانية في القرن الخامس عشر للميلاد وطبع في (أو كسبرك سنة 1489 للميلاد). ومنه استل صاحبنا مادة (ناثان الحكيم). أخذ من (دكامرون) عناصر القصة الأولى، وأضاف إليها بعض العناصر الجديدة التي كانت شائعة عند الأوروبيين في ذلك الوقت. ولعل بوكاجيو نفسه كان قد أخذ قصصه من القصص الأوربية القديمة التي كانت شائعة قبل ذلك العهد ففي أسبانيا حيث عاشت الأديان الثلاثة كان الناس يتحدثون عن ملك متسامح حكيم وعن قصة الخاتم، وفي أوروبا تحدث الناس عن السلطان صلاح الدين وعن تساهله بالنسبة للمسيحيين واليهود.
وقد تطورت هذه القصة وأمثالها بمرور الزمن فنصت فيما بعد على أن الخاتم الحقيقي كان يعرف من بين الخواتم الأخرى بما كان يظهر منه من الأعمال الخارقة والمعجزات. وكان هذا دليلا على أنه هو الأصل وهو خاتم المسيحيين. كما تطورت صورة ناثان إلى أن جعل لسنك صورة هذا الشخص تنطبق على صورة صديقه الفيلسوف اليهودي (موسى مندلسن (1729 - 1786م) والكاتب الذي عاش في مدينة برلين. وكان شخصية فذة معروفة في أوساط تلك المدينة حتى تمكن بفضل منزلته من تخفيف حدة البروسيين بالنسبة لليهود.
وقد ساعد (مندلسن) صاحبنا كثيرا وسعى عند تاجر من تجار مدينة (هامبرك) حتى أقرضه مالا طبع به بعض كتبه. وتأثر بكثير من آراء مندلسن؛ فأخذ بأفكاره بالنسبة إلى الفلسفة اللاهوتية والأديان ولا شك في أن لتلك القصص الدينية التي كان يسمعها من (موسى مندلسن) دخلا في صقل عقلية لسنك وفي قصة (ناثان الحكيم).
واستعان لسنك بعنصر آخر هو التاريخ الشرقي ذاته.
وكانت أوروبا في هذا العهد ولا سيما فرنسا قد تذوقت الأدب الشرقي وأقبلت عليه، وصار الأدباء يبحثون بين ثنايا القصص الشرقي لينسجوا منه نسيجا جديدا. وكان فولتير الذي تعرف عليه لسنك في برلين، والذي اتصل به اتصالا وثيقا، في طليعة هؤلاء الكتاب الذين استعانوا بالخيال الشرقي وبتاريخ الشرق. ولفولتير هذا مسرحية زيير وكانت هذه المسرحية قد اكتسبت شهرة واسعة ومثلت في برلين، وكان لسنك بالطبع ممن حضر التمثيل ودرس الرواية وله (دراما محمد
تأثر لسنك في (ناثان الحكيم) بقصة كثيرا حتى إننا لنجد التشابه ظاهرة في كثير من المواضع، كما تأثر فولتير وبأفكاره السياسية، حتى أماكن النقد تكاد تكون واحدة. وقد استعار منه حتى المصطلحات التي كان قد تخصص بها فترجمها إلى الألمانية.
صور (صلاح الدين الأيوبي) في هذه الرواية وفي الروايات الأوروبية الأخرى بصورة الملك الفيلسوف، بصورة فيلسوف حديث يحمل آراء القرن الثامن عشر ويبشر بها بين الناس. فيدعو إلى (المذهب الإنساني) الذي استولى على أفئدة الناس في ذلك الوقت. ويحث الناس على اتباع الفلسفة التي كان يدعو إليها لسنك وأمثاله. فهو ملك شرقي وفيلسوف غربي في آن واحد.
ولم يكن لسنك من المستشرقين كما أنه لم يكن من المؤرخين، ومعلوماته التاريخية عن الشرق معلومات عامة مأخوذة من هنا ومن هناك. أخذ حياة صلاح الدين من كتاب (صلاح الدين سلطان مصر وسوريا) للأب دي مارين الذي طبع سنة 1758م. كما أخذ معلوماته عن تاريخ الخلفاء من كتاب (تاريخ العرب في أيام الخلفاء) للأب (دي ماريني) وقد طبع هذا الكتاب بالفرنسية عام 1750 للميلاد واستفاد من كتاب (التاريخ العام) الذي طبع بمدينة لندن عام 1759.
وحاول لسنك الرجوع إلى المصادر الأولى، إلا أننا نشك في قدرة هذا الشاعر على ذلك لأنه لم يكن يعرف العربية، على أنه كان يستعين بالكتب المترجمة عن العربية. مثل ترجمات وترجمة جلان (1704 - 1708) لألف ليلة وليلة والترجمات الأخرى، وكان يستعين بالمستشرقين أنفسهم أمثال المستشرق ريسكي الشهير. ومع ذلك فإن قصة (ناثان الحكيم) لا تمثل التاريخ كما تمثل الأفكار الإنسانية والمبادئ الفلسفية التي تمثل نفسية هذا الفيلسوف.
(بغداد)
جواد علي