مجلة الرسالة/العدد 68/ابن من يا فاجرة؟

مجلة الرسالة/العدد 68/ابن من يا فاجرة؟

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1934



للدكتور احمد زكي

وكيل كلية العلوم

كانت فاجرة لأنها ادعت ابنها الوليد لغير أبيه، وهي تعلم أنه لأبيه. وكان الرجل المتهم في عرضه، المقدوح في طهارته، رجلاً من ذوي الثراء، جمع من المال ما جمع في أيام صباه، من أعمال واسعة النطاق، وأشغال استغرقت كل زمانه فألهته عن ملذات الجسم ومتع الشباب. وبلغته الشيخوخة على حين غفلة، فأراد أن يدرك الفائت، وأن يلحق بالهارب، وأن يذكر نفسه، ويسترجع حسه، ويستجمع بقايا شبابه، فطلب الأنثى الشابة، فجاءته إناث كثيرات، فعلم أنهن لم يردنه، وإنما أردن ماله، وكان كلما أنس من بعضهن إلى الجناب الرفيق والصدر الحنون، وكان يهم بالخِطبة، هتف في نفسه الهاتف يقول: جناب عن قريب ينبو، وصدر لا يلبث أن يخون. وظل على هذه الحال زماناً، يحدوه أمله، وترده سنّه، وقام ثراؤه يتهم كل امرأة ولو أخلصته النية، ورضيت صادقة برعايته وحضانته وبتمريضه بكل ما فيها من أنوثة.

وفي أثناء ذلك اتصل بأحد المقربين إليه من مستخدميه، فشكا له الوحدة عرضاً، فذهب هذا المقرب إلى زوجته تلك الليلة يذكر لها الشكوى. وفي الصباح أتت الثري من الزوجة دعوةٌ على طعام، وتلت تلك الدعوة دعوات، في حضرة الزوج، وفي غير حضرة الزوج، وكثيراً ما حضرها الشباب من الصحاب، فامتلأت البطون، واحتر الدم بالرقص والشراب، وكثيراً ما نسى الشيخ وقاره في تلك الأجواء الزائطة، فنال من الزوجة المضيافة القبلة بعد القبلة، فأعطت عن سخاء، على أعين ضيوف اليوم الفرحين، وشهود الغد المحرجين.

فلما ولد المولود، وهم الشيخ بالتبريك، جاءه رسول القضاة يعلن اتهامه. وانعقدت المحكمة، وجاءها الشهود كأنما كانوا على موعد، فأثبتوا روحاته وجيئاته، وأثبتوا اختلاءه، وأثبت الزوج تغيبه ولم يبق على استقلال الطفل بكل تلك الثروة الواسعة من بعد أبيه إلا حكم المحكمة.

وفي اللحظة الأخيرة طلب الدفاع بحدة العلم، والالتجاء إلى المعمل عسى أن تكون عنده الشهادة التي لا تُرد، وفي الغد أو الذي يليه احتكموا عند أحد الأخصائيين المحلفين إلى قطعة زجاج، وبعض سوائل في أنابيب، ثم إلى المكرسكوب - جمادات كلها لا تكذب إذا كذب الإنسان. وبذلك، وبذلك وحده، نجا الشيخ من الشرَك، ونذر ما عاش أن يبتعد عن الآنسات ميلاً، وعن المتزوجات أميالاً.

ثم غلب التهمة الملحة في نفسه واقترن بأرملة، باعدت عنه الريب وحملت عنه أعباء الحياة.

أما همنا اليوم ففي تلك الأشهاد من الجماد. وقصة ذلك إن الدم الإنساني يتركب من كرات حمراء وأخرى بيضاء، يسْبحن في سائل يسمى المصل، عديم اللون أو هو كلون زلال البيض، يحتوي عدة مواد ذائبة فيه. وقد كشف العلماء في الكرات الحمراء عن مادتين تسمى أولاهما ألفاً والثانية باء. ووجدوا فوق هذا أن الكرات الحمراء للرجل (أو المرأة) قد تحتوي على المادة ألف وحدها، وقد تحتوي على المادة باء وحدها، وقد تحتوي على كليهما معاً، وقد تخلو منهما جميعاً. وبناء على ذلك قسموا الناس إلى مجموعات أربع: مجموعة ألِفية، ومجموعة بائية، ومجموعة ألفبائية، ومجموعة صفرية، نسبة إلى الصفر في قولك رجل صفر اليدين أي خاليهما. فأنا وأنت وكل أحد لابد واقعون في أحد هذه الأقسام. وتعرف المجموعة التي ينتسب إليها الفرد من تفاعلات تقع بين الدماء عند خلطها. فهب أني أنا من المجموعة الألفية ولا فخر، وهب أنك أنت من المجموعة البائية ولا حط من قدرك، فلو أنك أخذت شيئاً من دمي، وفصلت عنه مصله ومزجته بنقطة من دمك لتجمعت كراتك الحمراء وتزاحمت في هلع وارتياع، كقطيع النعاج داهمها الذئب، فاتخذت تحت المكرسكوب شكل عنقود العنب. وسبب هذا أن بدمي مادة معادية خصيمة لكراتك الحمراء، أو بالأحرى للمادة البائية التي بها. وعلى هذا تسمى مادتي هذه بالخصيمة البائية.

ولو أنك مزجت مصل دمك بدمي لتعنقدت كراتي الألفية كذلك، لأن بمصلك الخصيمة الألفية. فبدمي إذن المادة الألفية والخصيمة البائية، وبدمك أنت المادة البائية والخصيمة الألفية، والزوجان في دمك وفي دمي بالطبع على غاية المحبة والوفاق وإلا لتعنقدت كراتنا جميعاً وودعنا الحياة، لأن تلك الكرات لابد من نفاذها في الشعريات الدموية الرفيعة التي تصل ما بين الأوردة والشرايين وهناك دم ثالث نستعير لشرحه صديقي الأستاذ الزيات، فدم الأستاذ تجمع كراته الحمراء المادتين ألفاً وباء معاً، فلو أنك خلطت نقطة من مصلي بقطرة عزيزة من دمه لتعنقدت كراته، ولو أنك خلطت نقطة من مصلك بتل القطرة لتعنقدت كذلك، فصديقي الزيات من المجموعة الألفبائية. أما الدم الرابع فخالية كراته من كلتا المادتين فهي لا تتعنقد لا بمصلي ولا بمصلك.

وتابع العلماء دراسة دماء الناس في نواحي المعمورة تقصياً في البحث، وامتحنوا دماء الصغار والكبار، والأبناء والآباء لآلاف من الأسر ليتعرفوا العلاقة التي قد تكون بين الولد والأصلاب والأرحام التي انحدر منها، فوجدوا قوانين مطردة على مقتضاها ينسل الناسل. من ذلك أنهم وجدوا أن الطفل الألفي يتحتم أن يكون من أبوين أحدهما على الأقل ألفي. وأن الطفل البائي يتحتم أن يكون من أبوين أحدهما على الأقل بائي. وأن الأب أو الأم إن كان أحدهما ألفبائياً ورّث كلاً من بنيه ألفاً أو باء. فالرجل الألفبائي لا ينتج طفلاً صفرياً. كذلك إن كان الطفل ألفبائياً تحتم أن يكون قد ورث ألفاً من أحد أبويه وباءً من الآخر؛ ومثل هذا الطفل لا ينتج عن أب صفري.

وفي قضية الشيخ المثري التي فات ذكرها امتُحن دم الزوجة بأخذ قطرة دم من أنملها، وقسمت القطرة قطرتين، مزجت إحداهما بمصل الخصيمة الألفية فعنقدت كراتها، ومزجت الأخرى بمصل الخصيمة البائية فلم تتعنقد الكرات، فقُضي بأن الأم من الفصيلة الألفية. وامتُحن دم الوليد على هذا النحو فكان من الفصيلة البائية، فلزم على هذا أن يكون أباه بائياً أو ألفبائياً. فامتُحن الزوج فكان بائياً. وامتحن الشيخ فكان صفرياً، فنجا.

على إن امتحان الدم قد لا يؤدي إلى نتيجة حاسمة. فلو أن الشيخ كان بائياً أو بائياً ألفياً لجاز أن يكون الوليد من صلبه، ولجاز أيضاً ألا يكون. وقد حسب حاسب عدد الحالات التي يمكن فيها الجزم بوالد الطفل منسوبة إلى الحالات جميعها التي يحدث فيها اشتباه، فوجد أنها تبلغ الثلث.

وأريد أن أنبه أن المعمل قد يبرئ، ولكنه لا يستطيع وحده أن يتهم أحداً. فهب أن الولد كان بائياً، والأم ألفية، وكان زوجها ألفياً، وامتحن الشيخ فكان بائياً، فهل يقطع بأبوة الشيخ من أجل شهادة المكرسكوب وحدها؟ كلا. فكم من الرجال بائيون! ولم لا تكون الزوجة اتصلت بأحدهم؟ وإذن كان يتحتم على الاتهام إثبات ما كان بين الشيخ والمرأة في مسالك الحياة.

احمد زكي