مجلة الرسالة/العدد 68/القتل السياسي

مجلة الرسالة/العدد 68/القتل السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1934



جريمة مرسيليا المروعة

عرض تاريخي لظروفها وبواعثها

للأستاذ محمد عبد الله عنان

لم يشهد العالم منذ مقتل الأرشيدوق فرنز فردينند ولي عهد الإمبراطورية النمسوية في يونيه سنة 1914، جريمة سياسية أشد روعة وأبعد أثراً من تلك الجريمة التي وقعت في التاسع من هذا الشهر في مرسيليا، والتي ذهب ضحيتها المرحومان الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا، ومسيو لوي بارتو وزير الخارجية الفرنسية. وقد كان مقتل الأرشيدوق فرنز فردينند فاتحة الأزمة الدولية الخطيرة التي انتهت بنشوب الحرب الكبرى، وكانت من أسبابها المباشرة. ومن المحقق إن جريمة مرسيليا ستحدث أثرها في شئون يوجوسلافيا الداخلية، وفي سير السياسة الأوربية بوجه عام؛ ومن الصعب أن نقدر منذ الآن مدى هذه الآثار، وإن كنا نشهد منذ الآن نذرها ومقدماتها.

كان الاغتيال وما زال على مر العصور وسيلة لتحقيق مآرب السياسة. وجريمة الأمس جريمة سياسية وقومية كما كانت جريمة سنة 1914. وقد شهدت أوربا في العصر الحديث طائفة حافلة من الجرائم السياسية الرنانة؛ وكان الملوك، والملوك الطغاة بنوع خاص هدف هذه الجرائم، ولم تكن هذه الجرائم شخصية، ولم تقع على الملوك أو الطغاة لمجرد أشخاصهم، ولكن لأنهم يمثلون في نظر الجناة نظاماً أو فكرة لا تتفق مع مثلهم القومية أو الديموقراطية. وكانت (النهليزم) الروسية أعظم مصادر الوحي للقتل السياسي خلال القرن التاسع عشر؛ وفي ظلها وبتدبيرها ارتكبت عدة جرائم رنانة على أشخاص القياصرة وأعوانهم من الطغاة؛ وذهب ضحية هذه الجرائم قيصران: اسكندر الثاني سنة 1881، واسكندر الثالث سنة 1885، وعدة من أكابر الحكام والساسة. ولما خبت ريح النهليزم في أواخر القرن الماضي خلفتها الدعوة اللاحكومية (الانارشي) في تنظيم الجريمة السياسية؛ وذهب ضحية هذه الدعوة عدة من الملوك والأكابر مثل كارنو رئيس الجمهورية الفرنسية، والإمبراطورة اليزابيث النمسوية، وماكفللي رئيس جمهورية الولايات المتحدة، ثم الملك أومبرتو ملك إيطاليا الذي قتل سنة 1900 بعد عدة محاولات دموية مروعة. ووقعت في الأعوام الأخيرة على الملوكية عدة محاولات جديدة دبرها اللاحكوميون أيضاً، كان منها الاعتداء الذي وقع على الفونسو الثالث عشر ملك أسبانيا السابق (سنة 1926)، والاعتداء الذي وقع على جلالة ملك إيطاليا (سنة 1928).

هذه أمثلة قليلة من ثبت القتل السياسي الحافل الذي شهدته أوربا في العصر الأخير. ولكن جريمة مرسيليا تختلف عما تقدم في ظروفها وبواعثها؛ فهي جريمة قومية عنصرية كما سنرى؛ وهي أثر بارز من آثار ذلك الصراع الجنسي الذي تضطرم به أمة ينقصها التناسق الجنسي، والتضامن القومي، وتمثل فيها اقليات قومية غير راضية عن مركزها ومصايرها؛ وهي كذلك أثر من آثار ذلك الطغيان الحديدي الذي تعيش في ظله يوجوسلافيا منذ ستة أعوام، والذي تشعر بوطأته الأقليات الساخطة بنوع خاص. والقاتل بتروس كاليمن كرواتي الأصل، ينتمي إلى الشعب الكرواتي، أو إلى تلك الأقلية القوية التي ترزح تحت حكم الأغلبية الصربية ولا تشعر نحوها إلا بعواطف الغيرة والسخط. وقد وقعت الجريمة المروعة في ظل هذه المعركة الجنسية المضطرمة، واندفع الجاني أو الجناة في طريقهم بوحي الفكرة الجنسية التي تسيطر على شعب يعتقد أنه مغبون مضطهد مسلوب الحقوق.

ويجب لكي نفهم ظروف الجريمة وبواعثها الحقيقية أن نعود بضعة أعوام إلى الوراء، ففي سنة 1928، وقع الفصل الأول من حوادث هذه المأساة في بلغراد في بهو الجمعية الوطنية (اسكوبشتينا) ذاتها، وكان ذلك في مساء 20 يونيه، وكانت المناقشة تدور حادة بين نواب الأكثرية من الصرب والسلوفين، ونواب الاقلية المعارضة، وهم نواب الشعب الكرواتي حول العلائق اليوجوسلافية الإيطالية وموقف الحكومة منها، وكانت المعارضة ممثلة في حزب الفلاحين الكرواتي ورئيسه استيفان رادتش زعيم كرواتيا الوطني، والحزب الديموقراطي المستقل وزعيمه بربتش فتش؛ فلم تلبث المناقشة أن تحولت إلى نوع من السباب والتراشق المقذع؛ وعندئذ نهض أحد نواب الحزب الراديكالي الصربي، وهو حزب الأغلبية أو حزب الحكومة، وأطلق الرصاص على مقاعد حزب الفلاحين فقتل من نوابه اثنان أحدهما بول رادتش قريب الزعيم رادتش وأحد أقطاب الحزب، وجرح ثلاثة آخرون منهم استيفان رادتش نفسه زعيم كرواتيا الوطني. ووقع على أثر هذه الجريمة المروعة اضطراب لا يوصف في بلغراد وفي كرواتيا، وأوقفت جلسات الجمعية الوطنية واستقالت الوزارة القائمة، واستمرت الأزمة الوزارية نحو شهرين. ثم كانت الطامة الكبرى بوفاة استيفان راديتش زعيم كرواتيا متأثراً من جراحه بعد ذلك بأسابيع قلائل؛ فشيعه مواطنوه إلى قبره في مظاهرات فخمة مؤثرة تجلت فيها البغضاء الجنسية التي يضطرم بها الكرواتيون نحو الصربيين ونحو حكومة بلغراد.

كان لهذه الفاجعة الوطنية أثر عظيم في إذكاء الأحقاد الجنسية في مملكة يوجوسلافيا الجديدة، وهي أحقاد تقوم على تراث التاريخ، وتنافر العناصر التي تتألف منها. ذلك أن مملكة الصرب القديمة المتواضعة استحالت عقب الحرب الكبرى إلى مملكة جديدة تسمى مملكة الصرب والسلوفين والكروات؛ تضم مملكة الصرب القديمة، وأمارة الجبل الأسود، وسلوفينا، وكرواتيا، ودلماسيا، والبوسنة والهرسك، وبعض أنواع أخرى من إمبراطورية النمسا والمجر القديمة. والشعب الصربي هو الكثرة بين هذه الأجناس المتنافرة، وهو صاحب الحكم والسيادة، وإليه تنتمي الأسرة الملكية ومعظم الوزراء والحكام والقادة. وكانت كرواتيا أو بلاد الكروات بين الولايات الجديدة أشدها مراساً وأعرقها قومية وتعصباً. وتشغل كرواتيا نحو خمس المملكة الجديدة وعاصمتها (زغرب) أو (أجرام) مدينة قديمة سكانها نحو ربع مليون وبها جامعة. والكروات شعب جبلي فلاح ساذج يبلغ زهاء ثلاثة ملايين من مجموع قدره ثلاثة عشر مليوناً. وكان الشعب الكرواتي قبل الفتح التركي في القرن الخامس عشر يتمتع باستقلاله في ظل مملكة بلقانية قوية، ثم غدت كرواتيا كما غدت صربيا والمجر ولاية عثمانية، وضمت منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى النمسا والمجر. ولم ينس هذا الشعب الجبلي الوعر استقلاله ونزعته القومية، فكان في ظل الإمبراطورية النمسوية يجيش بالأماني الوطنية، ويطمح إلى الاستقلال الذاتي؛ ولم يقف إلى جانب آل هبسبورج أثناء الحرب إلا طمعاً في تحقيق شئ من أمانيه القومية. واستمرت تحفزه مثل هذه الأماني في ظل يوجوسلافيا الجديدة؛ وكان بطل كرواتيا الوطني استيفان رادتش رئيس حزب الفلاحين أقوى الأحزاب الكرواتية وأشدها نفوذاً؛ وكان هذا الزعيم القومي الذي كونه مزيج من الثقافات الألمانية والفرنسية والروسية يسيطر ببيانه الساحر وخلاله القوية على مواطنيه ويقودهم حيثما شاء؛ وكان حزب الفلاحين حتى سنة 1925 جمهوري النزعة يطالب بالاستقلال الذاتي؛ وكانت كرواتيا تضطرم من حين لآخر بالقلاقل والمظاهرات القومية؛ فتخمدها حكومة بلغراد الصربية بمنتهى الشدة؛ وتذكى بذلك أحقاد الكروات الجنسية. وفي سنة 1925 أدرك الملك اسكندر خطر هذه الحركة على وحدة يوجوسلافيا؛ فاستدعى الزعيم رادتش وتفاهم معه؛ وعقد اتفاق بين الصرب والكروات يمنح به الكروات بعض الحقوق والمزايا القومية؛ فهدأت حركة الكروات الاستقلالية نوعاً وأبدى الشعب الكرواتي شيئاً من الولاء نحو العرش والحكومة؛ واحتل الكروات مقاعدهم في الجمعية الوطنية؛ واشتركوا في حكم البلاد؛ وكان لهم في الجمعية 85 كرسياً أي نحو ربع مجموع الكراسي. ولكن هذا التفاهم لم يلبث طويلاً؛ لأن الجبهة العسكرية المحافظة التي تحكم البلاد من وراء الملك اسكندر لم يرق لها هذا التسامح مع الأقلية؛ ورأى الكروات من جهة أخرى أنهم لم ينالوا بهذا التهاون كل ما يطمحون إليه من المزايا الاستقلالية؛ فعاد سوء التفاهم بين الفرقين مرة أخرى؛ واشتدت الخصومة بينهما منذ سنة 1928؛ ووقعت في كرواتيا قلاقل جديدة؛ واتخذت المعارضة الكرواتية في المجلس اتفاقات (نتونو) التي عقدت يومئذ بين يوجوسلافيا وإيطاليا بشأن الحدود مادة لحملات قوية على حكومة بلغراد والملك اسكندر؛ واستمرت هذه الحملات في شدتها حتى ضاقت حكومة بلغراد وضاقت الأكثرية الصربية البرلمانية بها ذرعاً؛ ووقعت بين الفريقين في الجمعية مناقشات ومناظر عاصفة انتهت في 20 يونيه سنة 1928 بوقوع تلك المذبحة البرلمانية الرائعة، وسفك دم الزعماء الكروات في نفس المجلس الذي دعوا إلى الاشتراك في أعماله، ومصرع استيفان رادتش زعيم كرواتيا القومي ومعبودها الوطني.

وهناك أدرك الملك اسكندر خطورة الموقف، وحاول مرة أخرى أن يعمل على تهدئة الأحقاد القومية التي أثارتها الجريمة، ولكنه لم يستطع فيما يظهر أن يغالب نفوذ العسكرية المسيطرة على الحكم؛ فلم تتخذ حكومة بلغراد في شأن النائب أو النواب القتلة إجراءات جدية تهدئ الشعور المضطرم؛ وكان موقفها في ذلك كموقفها يوم مقتل الارشيدوق فردينند من عطف على الجريمة ورفق بالجناة؛ وأخمدت حركات زغرب عاصمة كرواتيا ومظاهراتها بشدة، وساد حكم الإرهاب في كرواتيا، وطورد زعماؤها وأبناؤها أشد مطاردة؛ وأبدت حكومة بلغراد وعمالها الصربيون في معاملة الشعب المغلوب منتهى الخشونة والقسوة؛ فتوجست العناصر الأخرى شراً واشتدت الأحقاد القومية، وتعقدت الأزمة، وكادت يوجوسلافيا تنحدر إلى الحرب الأهلية؛ عندئذ لجأ الملك اسكندر إلى إجراء خطير حاسم؛ ففي 29 يناير سنة 1929 أعلن إلغاء الدستور والجمعية الوطنية، وأعلن نظام جديد يقبض الملك في ظله على كل السلطات، وتؤلف الحكومة من ستة عشر وزيراً، يُسألون أمام الملك شخصياً؛ وألغى تقسيم يوجوسلافيا القديم إلى ولايات عنصرية، وقسمت إلى تسع ولايات جديدة لكل ولاية حاكم مطلق؛ وغير اسمها من مملكة الصرب والسلوفين والكروات إلى مملكة يوجوسلافيا؛ وحل حزب الفلاحين الكرواتي، وقمعت كل حركة ومظاهرة عنصرية بمنتهى الشدة. وساد على يوجوسلافيا كلها حكم مطلق حديدي حتى اليوم. ولكن الملك اسكندر أبدى في اضطلاعه بمهام الحكم المطلق كثيراً من الحزم وبعد النظر؛ فاستقرت السكينة في البلاد، وخبت الأحقاد والنزعات القومية المحلية أمام البطش؛ ولكنها لبثت كالنار تحت الرماد تسري في صمت، وتتربص فرص الاشتعال. وكان من المستحيل إزاء هذه المشاكل العنصرية الخطيرة، وإزاء استئثار العنصر الصربي بالسيادة والحكم أن تحكم يوجوسلافيا بغير الحكم المطلق؛ ولم يكن في تقاليد العسكرية الصربية التي تحكم من وراء العرش، ولا في تقاليد أسرة كاراجورج فتش الجالسة عليه ما يؤيد النظم البرلمانية، أو يفسح لها أي مجال حقيقي.

وقد تولت أسرة كاراجورج فتش التي ينتمي إليها المرحوم الملك اسكندر بوسائل عنيفة أيضاً. وكان العرش قبلها لأسرة أوبرينوفتش يتولاه الملك اسكندر أوبرينوفتش حتى سنة 1903. وفي يونيه من هذا العام دبر الحزب العسكري بتحريض أسرة كاراجورج فتش مؤامرة كانت نتيجتها أن قال الملك اسكندر أوبرينوفتش وزوجته مدام دراجا ماشين التي أثار زواجه بها قبل ذلك بعامين ضجة كبيرة، في غرفة نومهما؛ وعلى أثر ذلك أعلن بطرس كاراجورج فتش، والد الملك اسكندر ملكاً؛ وعهد بمهام الحكم إلى الجناة الذين اشتركوا في مقتل سلفه، فدلل بذلك على إنه لم يكن بعيداً عن الجريمة. واستمر ملكاً حتى سنة 1921، وخاض غمار الحروب البلقانية والحرب الكبرى، وتولى ولده الملك اسكندر الحكم من بعده، وكان مولده سنة 1888، وكان أثناء حياة أبيه يتولى أخطر المهام العسكرية والسياسية، فأبدى حزماً ومقدرة في قيادة يوجوسلافيا الكبرى، ولكنه لم يوفق إلى حل المشاكل العنصرية، ولم يستطع كبح جماح العسكرية كما قدمنا، وشاء القدر أن يذهب ضحية الأحقاد العنصرية على ذلك النحو المؤسي.

هذه هي حقيقة البواعث والظروف التي أدت إلى مقتل الملك الراحل، فالأحقاد القومية هي التي سلحت القاتل كاليمن وزملاءه الكرواتيين، وهي التي دفعتهم إلى ارتكاب جريمتهم الفظيعة انتقاماً لمصرع زعماء كرواتيا الوطنيين، وانتقاماً لما تلاقيه من آلام الاضطهاد المنظم. ومن المحقق أن سيكون للحادث أخطر الآثار في مصاير يوجوسلافيا، وإن كان من المستحيل أن نتنبأ اليوم بما سيكون. وقد تكون ثمت وراء الجريمة عوامل تحرض أجنبية عرفت أن تستغل الأحقاد العنصرية وأن توجهها، ولكن الجريمة تبقى مع ذلك جريمة عنصرية، باعثها الانتقام القومي.

إن المسألة الكرواتية تعتبر بالنسبة ليوجوسلافيا كالمسألة الأرلندية بالنسبة لإنكلترا، وستبقى خطراً دائماً على الوحدة اليوجوسلافية، مادامت العسكرية الصربية تأخذ بسياسة السيادة العنصرية، ومادام الشعب الكرواتي يشعر بأنه لم يأخذ حقه من العدالة والمساواة والاشتراك في أعباء الحكم.

أما المرحوم مسيو لوي بارتو، فقد كان ضحية بريئة للجريمة، ولم يقصده الجناة بالذات، وسيكون لمقتله أثر عميق في شئون فرنسا الداخلية، وربما في سياستها الخارجية.

محمد عبد الله عنان المحامي