مجلة الرسالة/العدد 68/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 68/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1934


5 - بحث في أصل الإنسان

بقلم نعيم علي راغب

دبلوم عال في الجغرافية

إذا قلنا إن الإنسان يمتاز من سائر الحيوان بقواه العقلية وقدرته على التفكير الحر فيجب ألا ننسى حينئذ أن من أهم مميزات الإنسان اعتدال قامته وعدم اعتماده على شئ عند المشي: لكنا مع ذلك لا نستطيع القول بأنه خلق كذلك، لأن صغار القردة تكون ذات جسم معتدل تحمل جسمها وكل عضلاته في صغرها على اتجاه عمودي، إلا أن أقدامها لا تساعدها على البقاء كذلك في سيرها، ولا يمكن لجسمها الاحتفاظ بتوازنه عليها، لأنها لا زالت تعد وتستعمل أداة للقبض، فانفرج ما بين أصابعها لهذا الغرض، بعكس الجنس الإنساني الذي تطورت حاملة قدميه، فصار في طاقته المشي عليهما وحدهما دون الاعتماد على يديه.

هناك أجزاء ثلاثة: وهي القدم وعظام الفخذ والسلسلة الفقرية، وقد كان في تطورها والتغيرات التي حدثت بها أكبر مساعد على اعتدال قامة الإنسان وقدرته على المشي وحده. ولذلك يمكننا أن نحكم على أي مخلوق بالدرجة التي وصل إليها مقترباً من الإنسانية أو مبتعداً عنها بمجرد فحص عظمة فخذ أو عظمة من عظامه المتحجرة.

كيف وقف إنسان جاوة

إذا نحن دققنا البحث في عظمة فخذ إنسان جاوة وهي الأثر الذي تركه، نجدها طويلة دقيقة إنسانية في كل شئ، تدلنا على إن ذلك الإنسان أو المخلوق الذي صارت هي بقيته الباقية، لابد وأنه كان يسير مستقيم الظهر يعرف الجري والقفز. . . حقيقة هنالك بعض اختلافات في تكوين وشكل هذه العظام المتحجرة إلا إن هذه الاختلافات لا تبعدها عن كونها إنسانية ولا تقربها بأي حال من الأحوال من شكل عظم فخذ القردة. وبرغم أوجه الشبه بين الإنسان القرد والقرد فإنه كان إنساناً. ومن شكل وطول عظمة الفخذ هذه يمكننا أن نصور إنسان جاوة بأنه كان نحيفاً تبلغ قامته 5 أقدام و9 بوصات وأنه كان معتدلها يمشي ك نمشي نحن الآن تماماً.

وهنا يمكننا أن نقول بكل ثقة إن الإنسان قد اكتسب هذا الاعتدال في القامة والمشي قبل نهاية عصر

البليوسين وإننا إذا أردنا البحث عن حاله قبل ذلك فإنه يجب علينا حينئذ أن نتوغل في عصر جيولوجي أقدم من ذلك بكثير ولكن قبل أن نتقدم بذلك يحسن بنا أن نذكرك بالحقيقة الهامة وهي إن الإنسان قد اكتسب قوامه المعتدل قبل اكتسابه قوامه الفكرية كإنسان، وإنه قد ظل مطبوعاً بطابع القردة في شكل الفك والجمجمة حتى نهاية عصر البليوسين، وبدء عصر البلستوسين.

وبواسطة تلك الآثار والمخلفات التي وجدناها في المقابر والكهوف ومدرجات الأنهار، أمكننا أن نتتبع تاريخ الإنسان إلى عصور سحيقة من عصور التاريخ متناهية في القدم. وعندما أردنا البحث في ذلك بدأنا البحث في بقايا العصور الحديثة، ومنها تعمقنا إلى ما هو أقدم منها، وطريقنا في ذلك سهلة للغاية، فإننا نبدأ بالعلومكي نصل إلى المجهول، وبالظاهر حتى نكشف عن الخفي، ولذلك فإنه بفضل تلك الأدوات والمخلفات الصخرية القديمة قد أمكننا أن نتتبع تاريخ الإنسان في عصر البلستوسين، ومنه تدرجنا إلى البليوسين.

جولة في عصر ذوات الثدي (العصر الثالث)

لذلك سوف نتعمق في أبحاثنا نحو عصر من العصور القديمة جداً، هو العصر الثالث أو الـ ولكن قبل أن نخوض في غمار ذلك البحث نجد لزاماً علينا نحو القارئ الكريم أن نعطيه فكرة عن ذلك العصر الذي ذكرناه.

لازلنا نذكر أننا قد أعطينا في مقال سابق تحت عنوان مقال اليوم مقياساً تقديرياً لعصور الكهف ومدرجات الأنهار وتتابع الطبقات وأعمارها في كل منهما، وسنجد أنفسنا مضطرين لأن نفعل ذلك في ذلك العصر الذي نحن بصدده الآن.

من الشكل (8) يمكنك أن ترى تتابع عصر البلسوسين لعصر البليوسين، وهذان العصران يفصلهما حد زمني له أهمية في هذا المجال لأنه عند تخطي عصر البليوسين للعصر الذي يتبعه نجد اختلافاً كبيراً في شكل الحيوانات الثدية الموجودة به، ولذلك فإن علماء الجيولوجيا يعتبرون عصر البلستوسين أول مجموعة من المجاميع التي تكون حلقات تاريخ الأرض وتاريخ الإنسان الذي سكنها، وقد وضع لهذه المجموعة اسم وهي تبدأ بعصر البلستوسين وتنتهي حينما تراجع الخط الجليدي إلى الدائرة القطبية.

أما الحلقة الثانية فقد بدأت (على قول العلماء) بعد ذلك بنحو عشرة أو اثني عشر ألف سنة، وفي إبانها أخذت الإنسانية تظهر بمظهرها الحديث، ويبدأ الإنسان بإعداد نفسه بصقل مواهبه وقواه الفكرية، ليغزو العالم ويسيطر على عرشه الذي قد أعده الله له.

أما عصر البليوسين وهو الذي يقع في الجانب الآخر من هذا الفاصل فهو الرابع والأخير لمجموعة تكون إحدى حلقات السلسلة التي تكلمنا عنها، وهذه المجموعة هي التي أطلق عليها العلماء اسم

وأما الحلقة الثالثة وهي عصر الميوسين فإنها تشمل مدة أطول من مدة عصر البليوسين. ولما كانت الطبقات التي تدل عليه وتحمل آثاره يبلغ سمكها 9000 قدم، بينما طبقات البليوسين لم تتجاوز 5000 قدم، وإذا كنا قد قدرنا عمراً لعصر البليوسين مقداره 250 ألف سنة بالنسبة إلى سمك طبقاته، فإننا لا نغالي إذا قدرنا لهذا العصر من العمر 450 ألف سنة.

وأما ثاني حلقات عصر الـ وهو الأوليجوسين فإنها تغمر عصراً أطول من سابقتها، وقد بلغ سمك طبقاتها 12 ألف قدم، ولذلك فإنه لا يسعنا أن نقدر لها عمراً أقل من 600 ألف سنة.

نصل بعد ذلك إلى أولى وأقدم حلقات هذا العصر وهي الأيوسين ونقدر لها عمراً 600 ألف سنة أخرى وذلك بالنسبة إلى سمك طبقاتها التي تساوي أو تقارب سمك الحلقة السابقة.

هذه هي الحلقات التي يتكون منها العصر المسمى وهي في الدرجة الأولى من الأهمية في تطور الإنسان. إذ إنها تشمل فجر نشوء الحيوانات آكلة الخضروات، وهي التي ترضع صغارها، وهي كلها من ذوات الرحم عدا أنواع قلائل يمكن استثناؤها. وفي فجر هذا العصر بدأت ذوات الثدي في تغيير شكلها وتكوينها تغيراً كبيراً، وتغلبت في تنازعها البقاء والصلاحية على باقي الحيوانات الزاحفة القديمة.

ولما كان الإنسان من ذوات الثدي، فإن من العبث أن ننتقل إلى عصر آخر أقدم من هذا لنبحث عن نشأة الإنسان، لأن العصر الذي يلي ذلك لا يشمل إلا كل زاحف. ومن الشكل (8) نرى أن العصر الثاني وهو الشامل لعصر ذوات الثدي يمتد لفترة طويلة جداً قد يبلغ مقدارها نحو 6 ملايين سنة كما يقول العلماء، وإني لا أريد أن يتبادر إلى ذهنك أنه عند الحد الفاصل بين العصرين قد حلت ذوات الثدي محل الزواحف دفعة واحدة، أو أن الأخيرة صارت من الأولى بتغيير سريع فجائي، لأن هذا التغير يلزمه وقت طويل مع بطء وتدرج، وقد وجد من حفائر العلماء في طبقات العصر الثاني آثار لزواحف كانت قد أخذت تتغير وتطور من شكلها وتكوينها كي تتناسب مع الوسط الذي كانت ستعيش فيه، وهو وسط ذوات الثدي ولتصير إحداها، وأن هذه الزواحف قد أخذت تتغير وتتشكل حتى نهاية هذا العصر واتسمت بسمات خاصة ميزتها في أوائل عصر الأيوسين.

ولست أرى أية ضرورة لأن أتعمق أكثر من هذا العصر الجيولوجي الأول حيث تظهر قوة التطور في الأسماك والحيوانات البحرية حتى أمكنها أن تغير من شكلها في أواخره وتستطيع العيش على البر كما تستطيع العيش في البحر فأطلق عليها اسم برمائية.

والآن وقد تكلمنا عن العصور الجيولوجية، وأعطيناك من المعلومات عنها ما فيه الكفاية، نعود بك إلى بحثنا الأصلي وهو أصل الإنسان.

عندما تتبعنا آثار الإنسان القديم في الطبقات الجيولوجية القديمة في شرقي أنجليا أمكننا الوصول والتعمق بأبحاثنا إلى ما نريد بواسطة ما قد وجدناه من آثاره وأدواته الصخرية المتحجرة إلى وسط عصر البليوسين، وقد توصلنا بعد ذلك إلى الكشف عن بقايا مخلوق آخر أسميناه إنسان جاوه واعتبرناه أنموذجاً للكائن الذي كان يسكن هاته الجزيرة في ذلك العصر. وعرفنا أنه كان شبيهاً بالقردة في شكل الجمجمة فقيراً إلى تلافيف المخ، قليل الإدراك والتفكير، لكننا مع ذلك عرفنا أنه كان إنساناً في مشيته واعتدال قامته.

ولذلك كان واضحاً جلياً أن يعمد العلماء إلى التعمق في بحثهم في عصر أقدم من ذلك العصر بكثير حين تطور الإنسان شكلاً وعقلاً من حال القردة. ومع أنه لم يوجد أي أثر لهذه الحلقة في التطور الإنساني في أي طبقة من طبقات الأرض، وذلك ما جعل العلماء في حيرة من أمرها، فقد وجد في الطبقات الأولى من عصر البليوسين ما ساعدهم على كشف سر هذا التطور والوصول إلى حلقتهم المفقودة.

يتبع نعيم علي راغب